![]() |
![]() |
![]() |
روائع شعريه |
روائع الكسرات |
![]() |
|
![]() |
||||||||
![]() |
|
![]() |
||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
![]() |
|
![]() |
الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام [للنقاش الهادف والبناء والمواضيع الاسلامية والعامه] |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
![]() |
#1 |
![]() الطيار , ت 2_ الإخلاص يفتح مجالات واسعة للعمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل به في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته مالاً ولم يؤته علماً فيقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الوزر سواء)([70] ). فالمسلم ما دام أنه قد أسلم وجهه لله، وأخلص نيته لله، فإن حركاته وسكناته، ونومه، ويقظته، تحسب في ميزان حسناته لأنه ابتغى بها وجه الله تعالى. ونرى في الحديث السابق ذلك المسلم الذي أخلص النية لله تعالى وتمنى أن يكون معه المال، لينفقه في سبيل الله، تقرباً لله، لا يبتغي به إلا وجه الله الأعلى، فهذا يؤجر على نيته الطيبة، وإن لم يقم بالعمل لعدم مقدرته عليه. كالذي ينوي الحج وليس معه النفقة فهذا مثاب بنيته بإذن الله تعالى. قال بعض السلف: ( إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية، حتى في أكلي، وشربي، ونومي، ودخولي الخلاء، وفي كل ذلك، مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن، وفراغ القلب من مهمات الدين)([71]). والناس يختلفون في نياتهم، فمنهم من يأكل اشتهاءاً للطعام، وتلذذاً بصنوفه المختلفة، ومنهم من يأكل بنية التقوى على عبادة الله. ومنهم من يرى صنبوراً مفتوحاً بأحد المساجد فيغلقه لأنه يأنف رؤيته مفتوحاً، بينما يغلقه آخر بنية الحفاظ على ثروات المسلمين والتي من أهمها الماء. ومن المسلمين من يتزوج من أجل الرغبة الجنسية، والاستمتاع بامرأة جميلة، بينما يتزوج آخر من أجل أن يحصن نفسه، ويغض بصره، وينبت ولداً صالحاً يعبد الله عزوجل من بعده، فيكون بذلك قد أصاب السنة، وأكثر من نسل المسلمين، وحافظ على النوع البشري فيؤجر على إخلاصه في نيته هذه. ومنهم من يتعلم، ويُحصَّل العلم الشرعي، ويحصل على الشهادات العلمية من أجل أن يذيع صيته، ويشتهر بين الناس. وترى آخر يتعلم، ويحصَّل العلم الشرعي من أجل أن يفقه الناس في دينهم، وينتشلهم من الجهل، إلى التبصر بأمور الدين والدنيا. وهكذا يستطيع المسلم أن يحول العادات إلى عبادات إذا ابتغى بها وجه الله تعالى. وبذا يتميز عن غيره، الذي يقوم بهذه العادات ولا مبتغى له ولا قصد له من وراء فعلها إلا هوى النفس وجمع الدنيا. فتنقلب معه الطاعات إلى معاص بفساد هذه النية. ولا ينال منها إلا الخسران المبين. بينما من يصلح نيته، ويخلص قلبه لله رب العالمين، ترفع له منزلة أعماله الدنيوية البحتة، إلى ان تصير أعمالاً صالحة مقبولة. وبذلك إذا ابتغى المسلم بجميع أعماله وجه الله تعالى تفتحت أمامه مجالات واسعة للعمل، فتجده يجعل أكله،وشربه،ولبسه،ونومه،وحياته،وعمله،وتنزهه،ورحلاته ،وعمله، علمه كله لله تعالى. حتى عندما يأتي أهله لأنه يمتثل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (..وفي بضع أحدكم صدقة..)([72]). وحتى ما يجعله في فم امرأته، يبتغي به وجه الله فيؤجر على إخلاصه هذا. لأنه ابتغى بأعماله وجه الكريم الجواد، الذي يعطي ويمنح،ويجود،ويصفح،ابتغى بها وجه القادر على أن يثيبه ثواباً عظيماً على ما أخلص، فيتفضل عليه بأعظم نعمه عليه يوم القيامة،وهي الفوز برحمة الله ورضوانه. ذلك المسلم الذي يضع نصب عينيه قول الله تعالى: [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)]([73]). وبذلك يسعى المؤمن لأن يبتغي بكل عمل وجه الله تعالى لأنه يعلم أنه سيؤجر عليه مرَّات ومرَّات. سيؤجر عليه في حياته قال تعالى: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)]([74] ). ويؤجر عليه بعد موته قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: ( إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علمٌ ينتفع به)([75]). ويظل عليه بعد موته هكذا إلى يوم القيامة، فيؤجر عليه الأجر التام الوافي. قال تعالى [وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)]([76]). وقال تعالى: [وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40))([77]). وفي هذا المقام يقول الإمام السيوطي: إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من فعل غير عشر علوم بثها ودعاء نجل وغرس النخل والصدقات تجري ورائه مصحف ورباط ثغر وحفر البئر أو إجراء نهر وبيت للغريب بناه يأوي إليه أو بناه محل ذكر وتعليم لقرآن كريم فخذها من أحاديث بحصر والإخلاص بالنسبة للمسلم يمثل سفينة النجاة،من الغرق في محيط النفاق، والشرك،والرياء،وحب المدح والثناء، وحبط الأعمال وبوارها. فالداعي إلى الله مثلاً في عمله، ونشاطه، وكتابته، وخطابته،وجهاده، وصبره ومشاركته في كل ما يخدم دين الله عز وجل، أحوج ما يكون إلى الإخلاص، حتى لا تضيع أعماله هباءً منثوراً. فمن أجل أن توجد أمامه مجالات كثيرة للعمل،فعليه أن يجدد النية عند كل عمل ويقوِّم القصد،ويصفي النفس. فالإخلاص هو صمام الأمان للمؤمنين في حياتهم،به تزكو أعمالهم،وتضاعف جهودهم،وأجورهم،وتزداد فاعليتهم،ويشاركون في مجالات شتى في العمل،يريدون رفعة الإسلام وعزته. وبالإخلاص،تكون الأقوال والأعمال،وتكون العبادة والطاعة،وبالإخلاص يكون التصديق بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم العمل بها، وبالإخلاص يكون التعليم،والتعلم،والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،والإنفاق في سبيل الله،والجهاد في سبيل الله،والبذل،والعطاء،والتضحية،وصلة الرحم،وبالإخلاص يكون التحاب في الله والقيام بحقوق المسلم،والحفاظ عليها،وبالإخلاص تكون مراعاة حق الجار،ونصحه ومعاونته،والأخذ على يديه إذا فرَّط،والسؤال عنه،وغض البصر عن محارمه،وبالإخلاص تكون الرحمة والشفقة على المساكين،ومواساة الأيتام والأرامل،حتى أنك تفرغ من دلوك في دلو أخيك تؤجر على ذلك، بل الأعظم من ذلك أن تبسمك في وجه أخيك صدقة إذا ابتغيت بها وجه الله تعالى. وهكذا يجد المسلم الميدان للعمل أمامه كبيراً،والمجالات واسعة،ومتعددة ومختلفة،وما عليه إلا أن يخلص،فإذا به تتفتح أمامه أبواب كثيرة للخير وبذلك يتحقق فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:(إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر،وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه،وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه)([78]). فيصبح المسلم نواة كل خير،يساعد بكلتا يديه المحتاج،ويعطي الفقير،ويكون في خدمة الناس على أن يبدأ في ذلك بأهله. عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )([79]). ولا يكون له دافع من وراء ذلك إلا مرضاة الله وابتغاء وجه الكريم. فيكون في قمة سعادته عندما يرى أنه يمازح أهله ومع ذلك يؤجر على فعله هذا. والسلم يعلم تماماً المعيار والضابط الذي يقبل الله به الأعمال من العباد. لذلك هو يجتهد قدر طاقته أن تكون أعماله كلها خاصة لله تعالى لأن أكرم الناس عند الله أتقاهم،وأرفع الناس عند الله منزلة المتواضعون،وأقرب الناس إلى الله في قبول الأعمال المتقون المخلصون،الذين تحدث الله عنهم في كتابه العزيز وخصهم بقبول الأعمال قال تعالى:[إنما يتقبل الله من المتقين][80]) أي ممن اتقى الله وأخلص في فعله ذلك. روى ابن أبي حاتم عن ميمون بن أبي حمزة قال: ( كنت جالساً عند أبي وائل، فدخل علينا رجل،يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ بن جبل،فقال له شقيق ابن سلمة: ياأبا عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس في بقيع واحد،فينادي منادٍ: أين المتقون؟ فيقومون في كنف الرحمن،لا يحتجب الله منهم،ولا يستتر، قلت:من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك،وعبادة الأوثان،وأخلصوا العبادة، فيمرون إلى الجنة )([81] ). والآية السابقة تتحدث عن قابيل وهابيل ابني آدم،وإنما حسد قابيل أخاه هابيل وغضب عليه لقبول قربانه دونه،حيث كان الأتقى هو هابيل. يقول الله تعالى:[ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) ]([82]). إذن فقبول الأعمال لدى رب العالمين من العباد مقترن بالتقوى والإخلاص. والأتقياء هم الذين ابتغوا بأعمالهم وجه الله، وكانت أعمالهم موافقة للشرع أما الحسب والنسب والمال فلا قيمة لها في الإسلام لقبول الأعمال، فليست الأمور كما كان يتمنى كفار قريش وهم يقولون: [ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم]([83]). بل الأصل في ذلك كله قول الله تعالى: [إن أكرمكم عند الله أتقاكم]([84]). |
|
![]() |
![]() |
#2 |
![]() الطيار , ت 3_ الإخلاص يضمن ويكفل الاستمرارية لكي يستمر إخلاص المرء ولا ينقطع،عليه أن يتخلص من الرياء،والمحمدة عند الناس،من ثم يبارك الله له في أعماله. قال الإمام ابن القيم رحمه الله )لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح،والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء على والنار،والضب والحوت،فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس،وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة،فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص)([85]). والإخلاص عامل من عوامل الارتقاء الحضاري واستمراره،حيث أن القائمين على الأمور والولاة في كل مكان إذا أخلصوا في أعمالهم،وابتغوا بها وجه الله تعالى وكانوا في عمل دءوب من أجل خدمة الرعية،يبارك الله لهم في كل ما ملكهم من أسباب القوة،والحياة، والرزق،وأصبحت لهم كلمة تسمع لدى الأمم الأخرى،كلمة لها وزن وتقدر لدى الجميع، كما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة في صدر الإسلام. والعمل المقبول رسم شروطه منهج الله تعالى وبين طريقته، وساحته، وميادين هذا العمل مهما قلت،أو ضاق نطاقها،فإن كل عمل نابع من الإيمان متصل بمنهج الله تعالى هو عبادة. والعمل لا يعد صالحاً ولا مقبولاً،حتى ولو كان عبادة إلا عندما يكون خالصاً لوجه الله. فإذا توفَّر الإخلاص في أفعال المسلم كلها،ظهرت لديه روح الجهاد وأصبح يحب الجهاد في سبيل الله حباً عظيماً([86]). ذلك الجهاد جهاد طويل لا يتوقف،جهاد في كل ميدان بل في أحلك الظروف والأحوال، كل عامل في ميدانه وفي نطاق عمله فعندما تتضافر الجهود ، ويزداد البذل والعطاء والتضحية من الزارع في مزرعته، والتاجر في متجره،والصانع في مصنعه،والمدارس في معهده أو كليته،والخطيب في مسجده،والضابط في حراسته،والأمير في إمارته،والقاضي في محكمته،بإخلاص ، وإتقان،ووعي، وحرص شديد،لا يتوقف العمل، بل يزداد وينمو،ويبارك الله لهم في كل ما يفعلون، وتستمر الجهود،ولا تعرف للانقطاع طريقاً، بسبب هذا الدافع القوي العجيب وهو الإخلاص. وهؤلاء الجنود يعملون ليل نهار من أجل خدمة دينهم، ورفعة أمتهم،ورفع لواء التوحيد عالياً خفاقاً،فترى ثمرات ذلك نتائج طيبة،تلك النتائج تحققت في وجود عمل مدروس، مخطط، وفق منهج علمي،شرعي،صحيح. فالإخلاص يجعل طاقات المؤمنين تبذل، وتتحرك،وفاعليتهم تزداد، وتحركاتهم وآثارهم واضحة،في كل مكان،ومجال.يفرغون تلك الطاقات في عمل دءوب دون أن ينتظروا مكافأة من أجد من البشر،بل كل ما يسعون إليه،والفوز به هو رضوان الله تعالى عليهم. لأن همهم الوحيد التقوى،والصلاح،والإخلاص،فهم أغنياء عن مسألة الناس،يتعففون السؤال،ويرضون بالقليل بما قدر لهم الرزاق ذو القوة المتين. وهؤلاء المخلصون لا يتحركون كما ذكرنا آنفا،إلا بالعزيمة والنية،فبدون الإخلاص والنية تنهار العزيمة،لأنها نية العبادة،والإخلاص لله رب العالمين. ونيات المخلصين نيات متجردة عن المصالح،والأمزجة الهوائية،والرغبات المعطلة،نية إخلاص وتجرد لربهم سبحانه وتعالى. فالنية هي أساس النهج والتخطيط السليم،وهي منطلق العزيمة،والطريق،والحافز إلى الهدف والغاية. والتخطيط والعزيمة،والطريق الموصل للهدف،وهو طريق الله المستقيم هذه الأمور الثلاثة لها أهمية عظمى،في حياة كل من رفع شعار الإخلاص،وجعله من أساسيات حياته،يشترك فذلك الفرد،والأمة. فالأمة التي تتحرك وتسير بدون نية، ولا تخطيط، ولا نهج علمي،ولا عزيمة، ولا سبيل يوصلها إلى أهدافها، وغايتها، هي أمة سرعان ما تسقط من حساب المجتمع الدولي ومن ثم تُزْوى عن الوجود شيئاً، حتى تتهاوى نهائياً. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ومثلٌ أعلى يحتذى به في التخطيط،والعزيمة، والسبل الموصلة إلى الأهداف، والأخذ بالأسباب الذي يعد من أعظم مظاهر الإيمان بالله تعالى. فكما قيل: الأخذ بالأسباب من الإيمان بالله تعالى، لكن لا يعتمد عليها فالمؤمن عليه أن يعتمد على مسبب الأسباب وهو الله تعالى. فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك الإطار الإيماني والنهج الرباني،في هجرته المباركة من مكة على المدينة المنورة.كما تقول كتب السير المعتمدة([87]). أنه صلى الله عليه وسلم: أحكم التخطيط ونظم السير، وخادع الأعداء،وكان كل أمر يقوم به تراه منظماً تنظيماً دقيقاً، وما ترك أمراً من الأمور إلا وأعد له عدته، ووضع له خطة محكمة بتوفيق الله عز وجل. فاتفق مع أبي بكر الصديق على مكان اللقاء، وأحضر دليلاً للطريق، وجعل بينه وبين قريش مركزاً للمعلومات والإحصاء، واتُّفِقَ على من يحضر لهم الزاد، حتى يرحلون إلى بغيتهم من غار ثور. وكان ذلك كله في إطار منهج الله تعالى. والإخلاص،والتخطيط السليم يجعلان جهود المسلم محفوظة،ولا تتبعثر بل يصبانها في مجرى واحد دفاق بالخير. فها نحن نرى تقدماً عظيماً، ورقياً واضحاً،ونجاحاً لا مثيل له في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عصر خلفائه الراشدين. والتخطيط السليم والعزيمة القوية لا يتحركان بمجرد الوعظ والإرشاد والاهتمام بالنواحي الإيمانية فقط،علماً بأن الوعظ والإرشاد له دوره المهم الواضح،إذا اهتم فيه بالجوانب الروحية لدى المسلم، وذلك بأن توجد محاضرات،ودروس علمية يتحدث فيها عن الفاعلية، وكيف يصل المسلم إلى مرحلة استشعار معية الله عز وجل، فيراقب الله في كل أعماله، ويعطي من خلال هذه المحاضرات شحنة إيمانية كبيرة، تجعله يتحرك في ميادين الحياة الواقعية بكل يسر وسهولة وبكل حماس،وفاعلية،وقوة لا تتوقف بإذن الله تعالى ويا حبذا لو عممت هذه المحاضرات على جميع المستويات، ويختار فيها الموضوعات التي ترقق القلوب، وتحفز النفوس للعمل لدين الله عز وجل، ولارتقاء حضارة هذه الأمة. نقول ومع أهمية الوعظ والإرشاد بمكان، لكنهما لا يكفيان لتحرك العزيمة القوية،والتخطيط السليم، بل لا بد من الشحنة الفعلية العملية المباشرة المحسوسة. فإذا كان الوعظ والإرشاد هو الدافع الروحي،فإنَّ التدريب،والرعاية والتنظيم هو الدافع المادي للحركة،والعمل،والبناء،والتكوين،والمراقبة وتلك المراقبة والمتابعة من الرئيس للمرؤوس لا تتعارض والإخلاص بل هي تزيد من فاعلية المسلم،وتجعله في إخلاص دائم وعمل مستمر لا ينقطع. وإذا أردنا مهارة عالية،ومستوى فائقاً، وارتقاءاً واضحاً، وتزداد فعلية أبناءنا في جميع ميادين الحياة،فإننا ننصح بالاهتمام بالتعليم الفني خاصة من جانب أبناءنا الطلاب ليتم تدريبهم على أعلى مستوى تكنولوجي حديث خاصة في مجال الصناعة. وإننا في هذا البلد المبارك بلد الحرمين الشريفين،الذي يجمع بين الاهتمام بالأمور الشرعية، وبين الارتقاء بمظاهر الحياة العملية،ويتميز على سائر بلاد الدنيا في تحكيم شرع الله،نلحظ اهتماماً متميزاً في الصناعات والمصانع، وها هي الدولة تبذل بسخاء لمساعدة هذه المصانع على أداء رسالتها لكن الذي ينقصنا هو رغبة أبنائنا وشبابنا،وإقدامهم على المدارس الفنية وكلياتها،وهذا ما نتمنى أن يتحقق خلال الخطط القادمة إن شاء الله تعالى. وعلى كل فيجب على المسلم أن يصحح الخطأ،ويستفيد منه،ويقوم خبرته وتجربته، ويصحح نيته بالتوبة،والرجوع واللجوء إلى الله تعالى دائماً. والمسلم عندما يشارك في مجتمعه الذي يعيش فيه مشاركة فعالة ويجد خطأ من غيره،فعليه أن يقوم سريعاً بتصحيح هذا الخطأ،على أن لا يتتبع العورات،وأن ينصح بالحكمة والموعظة الحسنة،ويسدد ويقارب. عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(سددوا وقاربوا..)([88]). والمسلم كلما أخلص في عبادته لله تعالى أقبل بالحفاظ على الفرائض،ثم النوافل،والازدياد منها،ثم هجر البدع،والمنكرات،والمخالفات،ثم تقرب إلى الله تعالى بكل ما يستطيع،وقام ليسد على إبليس الملعون جميع مداخله،إذا حاول ذات مرة أن يبعده عن العمل،بأن يثبط همته،ويضعف عزيمته،فإذا بهذا المسلم المخلص ينتصر عليه بفضل الله تعالى،باللجوء إليه سبحانه،والتحصن بالأذكار الشرعية، والاستعاذة بالله من هذا العدو المضل آخذاً بقول أحد الصالحين وهو يقول: (إذا أردت أن تتغلب وتنتصر على من يراك ولا تراه فاستعذ منه بالذي يراك ويراه). فيحسن الظن بالله،ويتوكل عليه،ويزداد في العمل،ولا ينقطع عن فعل الخير،بل يستمر دائماً في طاعة الله وعبادته،وفي خدمة مجتمعه الذي يعيش فيه. ولقد شبه الله سبحانه وتعالى المخلصين تشبيهاً كريماً،حيث شبههم بالجنة التي هي في بستان عالٍ،وأصابها مطرٌ شديد فآتت ثمرها ضعفين،فإن لم يصبها هذا المطر الشديد فهي لينة بمطرها السابق وهذا كافيها،فكذلك المؤمن لا يبور عمله أبداً،ويتقبله الله ويكثره ويضاعفه كل بحسب عمله،والله لا يخفى عليه من أعمال العباد شيء([89]). قال الله تعالى:[ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]([90]). على الجانب الآخر شبه الله سبحانه وتعالى المرائين بالصخر الأملس،الذي عليه تراب ثم أصابه مطر شديد،فتركه أملساً يابساً، لم يبق عليه شيء من ذلك التراب. فكذلك أعمال المرائين تذهب سدى،وتضمحل عند الله،وإن ظهر لهم أعمال،فيما يرى الناس كالتراب([91] ). فالمراءون ليس لهم من أعمالهم شيء، بل هم يتوقفون في أماكنهم ولا يتقدمون خطوة واحدة نحو عبادة صحيحة مقبولة. قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]([92]). هكذا يضيع عمل المرائي وتمحق منه البركة. على العكس من المسلم الموحد المخلص المحافظ على الأذكار،والأوراد النبوية في كل شيء،ينطق بها في بدء كل عمل، ويجدد النية ويصححها،هذا يبارك الله له في جميع أعماله. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل كلام أو ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع)([93] ). لذلك نرى المخلص يستمر في أعماله الصالحة ولا ينقطع عنها،بل هو في سعادة عظيمة عندما يقوم بعمل في مرضاة الله تعالى،لأن جسد المؤمن هيأه الله تعالى للطاعة والعبادة، فلو ظل يعمل أكثر الوقت لكفاه. لأن الجسد ما دام في طاعة الله، ولا يبتغي بالعمل إلا وجه الله فإنه لا يكل ولا يتعب. على العكس من ذلك العاصي أو الكافر فإن جوارحه تتمنى اللحظة التي ينام فيها،من أجل أن تستريح من الذنوب وتتوقف شيئاً ما عن المعصية. إذن فالباعث على الأعمال،والدافع وراء حركة المرء له أهمية عظمى،وبالغة في استمرار الأعمال،وانقطاعها،وفي دناءتها،وعلوها،وفي الثواب والعقاب عليها،فليتحرَّ كل منا الإخلاص، لتستمر أعمال المرء إلى حين انتقاله إلى الدار الآخرة،فتنفعه هذه الأعمال الصالحة التي ابتغى بها وجه الله تعالى، في يوم لا ينفع مال ولا بنون. 4_ زيادة فاعلية المسلم لأن الدافع الأخروي للعمل أقوى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته من علَّم علماً أو أجرى نهراً أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورَّث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته)([94]). فالمسلم عندما يتوفر لديه الإخلاص تزداد فاعليته،ويقبل على فعل الخير،لما يعلم من أهمية الإخلاص في قبول العمل،وما ينتظره من ثواب عظيم يوم القيامة،وهو المتمثل في الدافع الأخروي لأنه أقوى من الدافع الدنيوي،وهذا الدافع الأخروي هو الذي يحرك المسلم للعمل. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:الإمام العادل،وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد،ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه،ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال:إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)([95]). ما أكثر أبواب الخير التي فتحها الله للمسلم،لتوصله إلى رحمة الله تعالى ويفوز بالنعيم المقيم،ويحظى بالدرجات العلى في الجنة. وإذا كانت الدنيا تعج بحمى ملذاتها وشهواتها المتعددة، ومحاولة التزود من متعها الزائلة، فإن الجائزة الكبرى التي تنتظر المخلصين يوم القيامة أن يتفيئوا ظلال رحمة الله يوم القيامة، يوم أن تدنو الشمس من الرؤوس،قاب قوسين أو أقل من ذلك،فيكون حر شديد،وعرق كثير،فمن الناس من يأتيه العرق إلى عقبيه ومنهم من يلجمه العرق تلجيماً، ومنهم من يسبح فيه سباحة([96]). فما أحوج الناس في يوم مثل هذا أن يكونوا في ظل عرش الرحمن يوم القيامة،فائزين برحمته التي وسعت كل شيء،ورضوانه الذي يعم به عباده المتقين. فإذا ما علم العبد هذا الدافع الأخروي،وهو النجاة من هذا الموقف العصيب يوم القيامة،الذي يتمنى فيه الكافر أن ينصرف من شمسه ولو إلى نار جهنم ([97]). لسارع المؤمن للعمل،وبادر إليه،ونظر باهتمام شديد إلى الغاية من عمله،هل هو مخلص فيه؟ فيحمد الله تعالى أم غير ذلك؟ فيتوب إلى الله، ويستغفر عن هذا التقصير ويجدد نيته ويصلحها ويعقد بيعة صحيحة مع الله تعالى ليدخل زمرة المخلصين. وفي الحديث السابق ذكره خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم سبعة من أصحاب الطاعات،يستمتعون بهذا الفضل المذكور في الحديث،وهو التنعم بظل الله يوم القيامة،وهؤلاء ممن زكت نفوسهم، واستقامت أحوالهم،وراقبوا ربَّهم في سرهم،وعلانيتهم،وأخلصوا أعمالهم،مبتغين بها وجه الكريم الجواد طامعين في الدافع الأخروي الذي حركهم للقيام بأعمالهم هذه، وهو أن يكونوا في كنف الله ورعايته. في يوم لا ناصر ولا معين إلا الله، ولا مَنْجى ولا ملتجأ إلاَّ إليه سبحانه. وعلى المسلم أن يعلم أن كل خير يقوم به سيكتب له في ميزان حسناته يوم القيامة إذا ابتغى بهذا الخير وجه الله تعالى. يبين ذلك الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)([98]). وكان الواحد من السلف يشكر أخاه أن أعانه على الحصول على الثواب من خلاله،أو القيام بطاعة، أو عبادة، تقربه من الله تعالى عن طريقه فيقول له: (جزى الله أخي عني خير الجزاء أن جعل لي من نفسه حظيرة لطاعة الله عز وجل). 5_ يمنع الإنسان من الشعور بالإعجاب ويشعره بالتقصير قال ابن القيم رحمه الله) أعمال القلوب هي الأصل،وأعمال الجوارح تبعٌ ومكملة،وإن النية بمنزلة الرُّوح،والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات،فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح)([99]). فإذا ما عرف المسلم الأحكام التي تتعلق بأعمال القلوب،أخذ يفتش في نفسه،ليرى هل هو مقصر أم لا؟ والذي يدفعه لذلك إخلاصه في العمل الذي يشعر الإنسان بتقصيره نحو خالقه،بالرغم من أنه يقوم على أوامر الله ويسارع في الخيرات،لكنه يخشى عدم القبول. قال تعالى:[ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]([100] ). هذا المسلم الذي يلتزم بما أمر الله به، ويخشى عدم القبول،ويحاسب نفسه دائماً، ليرقى بها إيمانياً،عن المستوى التي هي عليه. فإذا وصلت لمستوى أعلى منه،لم يقنع بذلك،بل هو يريد الأفضل،والأرقى،يريد أن يصل إلى مرحلة المخلصين. وهكذا تزداد فاعلية المسلم، ويستمر في تقدم بسبب هذا الإخلاص، الذي يمنع صاحبه من إعجابه بنفسه أو استكثار عمله،أو استصغار ذنبه،فهو يحاسب نفسه على الفرائض التي أمره الله بها،فإن تذكر أنَّ فيها نقصاً قام بقضائه، فإنه لا كفارة فيها إلا ذلك. ثم ينظر إلى ما نهاه الله عنه، فإن كان قد اقترف منها شيئاً،أسرع بالتوبة والأوبة إلى الغفار ثم ينظر هل هو قائم بالغاية التي من أجلها خلق الله العباد المتمثلة في قوله تعالى:[ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([101]). والمتمثلة أيضاً في قوله تعالى:[ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ ]([102]). فإن كان من المحافظين على طاعة الله وعبادته، ومن القائمين على تبليغ دين الله عز وجل،من المتعاونين على البر والتقوى، حَمد الله، وأرجع الفضل في ذلك كله لله وإن وجد تقصيراً اجتهد في إصلاحه. ثم يتنزه بنفسه عن الفضول من الكلام،والفضول من الطعام والشراب،والفضول من الثياب، وغير ذلك. ثم يسأل نفسه عند القيام بكل عمل،هل هذا العمل كان خالصاً لوجهه سبحانه وتعالى؟ أم أنه أراد به محمدة الناس،ورياءهم،وثناءهم عليه؟فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه. قال تعالى:[ وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى]([103]). ثم يسأل نفسه أيضاً كيف قام بهذا العمل؟ هل هو موافق لشرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبعيد عن البدع،والمنكرات وما حرَّم الله أم لا؟ هل روعي في هذا العمل أنه كان موافقاً للعقيدة الصحيحة التي لا يحول دونها أدنى مظاهر الشرك؟ هل اعتبر هذا المخلص الذي يحاسب نفسه من قوله تعالى: [لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً]([104]). ليت المرء يفكر في الآية السابقة ويعلم أن الصادقين سيسألون ويحاسبون عن صدقهم فما باله بالكاذبين! ! والذي يجعله يفكر في ذلك كله هو الإخلاص. إذن فالعبد كلما أخلص في عبادته وكان صادقاً مع نفسه،وجلس يحاسبها بصدق،شعر بالتقصير،وشعر أنه ليس على الحالة التي ترضي الله عنه، فقام ليصلح من أوضاعه،ويحسن من علاقته بربه. لأنه يخاف من الله سبحانه وتعالى يوم القيامة،وهذا الخوف الناتج من محاسبة النفس،يفيد المرء بفوائد عظيمة منها:([105]) 1_ الاطلاع على عيوب النفس،فإنه من لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى. روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه قال)لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله،ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً )([106]). وقال أبو حفص ( من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال،ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغروراً. ومن ينظر إليها بإستحسان فقد أهلكها)([107]). لأن النفس داعية إلى المهالك،معينة للأعداء ناظرة إلى كل قبيح سائرة وراء كل سوء،عابثة بطبعها في المخالفات. 2_ معرفة حق الله عليه. فإن لم يعرف حق الله عليه،لا تكاد عبادته تنفعه،وهذه المعرفة تورثه الإزراء على نفسه،وتخلصه من العجب،فتفتح له أبواب كثيرة واسعة للعمل، والاجتهاد في العبادة ودافعه في ذلك كله أيضاً هو الإخلاص،لأنه دائماً في محاسبة نفسه وفي حق الله تعالى عليه،ويجتهد في تأديته على النحو الذي يرضي الله عنه،ومع ذلك هو يخشى عدم القبول،وإن كان يرجوا ثواب الله ورحمته. أما المرائي فَلِمَ يحاسب نفسه؟ وَلِمَ يجلس مع نفسه في خلوة ليعرض أعماله على الكتاب والسنة؟وها هو قد رضي بثناء الناس ومحمدتهم له. وهذا النوع من الناس جاهل بربه، وبنفسه،ينظر في حقه على الله،ولا ينظر في حق الله عليه. فانقطع عن ربه،وحجب قلبه عن معرفة ما عليه لله،ومحبته والشوق إلى لقائه،والتنعم بذكره. والإخلاص تجارة رابحة ليس فيها كساد،ولا خسارة،وما أعظم أن يكون البيع،والصفقات التجارية مع الكريم سبحانه وتعالى،الذي لا تنفد خزائنه أبداً،حتى أن من كرم الله على عباده أنه سبحانه يرزقهم ويملكهم أسباب القوة،ثم يحثهم على بذلها،ويحسن لهم في الجزاء،ويجزل لهم في عطائه. مع أن الله الرازق هو الذي رزق عباده ما بذلوه. ونصوص هذه الصفقة وبنودها وشروطها نزل بها أمين الوحي جبريل عليه السلام من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بدستور المسلمين قال تعالى:[ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ ]([108]). 6_ يعين المسلم على تجاوز العقبات التي قد تقف في وجهه الإخلاص هو سبب نجاة العبد من مهالك كثيرة،بل أنه لا يستطيع أن يتغلب على الشيطان ويحصن نفسه منه إلا إذا كان مخلصاً في جميع أحواله،وفي جميع أعماله،ملتزماً بكل ما أمر الله،فيختاره الله،ويجتبيه من عباده بالحفظ من عدوه. قال الله تعالى مبيناً ذلك على لسان إبليس لعنه الله:[ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ]([109]) لأن هذا العدو الملعون هو الذي يحاول دائماً وأبداً أن يتسبب للعبد في إبطال أعمله،وهو الذي يدعوه إلى الرياء،والإخلاص هو المنجي له من ذلك. والناظر إلى البلاء الذي وقع يه يوسف عليه السلام،وهو التعرض للفتنة،في وجود مغريات كثيرة،منها شبابه الذي يفيض بالحيوية والجنس،وحُسْنُ وجهه حيث أنه أعطي شطر الحسن وهذا يجعل داعي الإغراء والإلحاح أشد،من ناحية امرأة العزيز،ومكان الحادث كان بعيداً عن أن يراه أحداً من أهله،أو أقاربه،فيفضح أمره. لكنه ثبت ثباتاً عظيماً في هذا الموقف العصيب فيرى الناظر لهذا البلاء أن يوسف عليه السلام قد نجاه الله سبحانه وتعالى،وكان سبب نجاته الإخلاص. يقول الله حاكياً عن نجاة يوسف عليه السلام:[ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]([110] )، فهل يتعظ، ويعتبر، ويستفيد الشباب والفتيات من هذا الدرس العظيم وهذه العبرة الطيبة التي حدثت من يوسف عليه السلام؟ أن من عباد الله عباداً لا يستطيعون غض البصر فقط،المأمور به شرعاً،ولا سبب لذلك إلا قلة التقوى،والإخلاص،والله الهادي إلى سواء الصراط. والمسلم يستطيع أن يتوسل إلى الله عز وجل بما أخلص من أعماله،فيكون إخلاصه منجاة له من الكروب،والعقبات التي قد تقف في وجهه. عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( انطلق ثلاثة رهط فيمن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه،فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار،فقالوا:إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم،قال رجل منهم:اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران،وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي في طلب شيء يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً،فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنَّا ما نحن فيهمن هذه الصخرة فانفرجت شيء لا يستطيعون الخروج،قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلىَّ فأردتها عن نفسها فامتنعت منِّي حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلِّي بيني وبين نفسها ففعلت،حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفضي الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها،فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ وتركت الذهب الذي أعطيتها،اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه،فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث:اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إلى أجري، فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل،والبقر والغنم والرقيق،فقال يا عبد الله:لا تستهزىء بي!! فقلت:إني لا أستهزىء بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً،اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)([111]). يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح هذا الحديث:(الإخلاص من أسباب تفريج الكربات لأن كل واحد منهم يقول:(اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه،أما الرياء والعياذ بالله والذي يعمل الأعمال رياءً وسمعة حتى يمدح عند الناس فإن هذا كالزبد يذهب جفاءً لا ينتفع منه صاحبه. . . )([112]). فهؤلاء الثلاثة أخلصوا في أعمالهم،وابتغوا بها وجه الله سبحانه وتعالى وحده،وقضية التوحيد عندهم واضحة،توحيدهم لله توحيد خالص،متضمن محبة الله،وإجلاله، وتعظيمه،والخوف منه ورجاءه وحده سبحانه ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض وما يبين إنقاذ العبد من أي مكروه قد يقع فيه،لأن هذا التوحيد لا تشوبه شائبة شرك. لأن الشرك كلما كان في العبد أغلب من الإخلاص كانت ذنوبه أكثر،ووقوعه في المضايق والكربات أكثر. لكن كلما كان الإخلاص أعظم كان العبد من الذنوب أبعد،وللمناجاة أقرب وأيسر. |
|
![]() |
![]() |
#3 |
![]() الطيار , ت 7_ بالإخلاص تنصر الأمة عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه أنَّه ظن أنَّ له فضلاً على من دونه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم:(إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم،وصلاتهم،وإخلاصهم)([113]). وصلاح الدين الأيوبي عندما كان يتفقد جنوده في إحدى المواقع الحربية،وجد بعضهم يقيم الليل فقال:(من هنا يأتي النصر) ووجد بعضهم نائماً فقال:(من ها هنا نُؤتى). 8_ يشرح صدر صاحبه للإنفاق في سبيل الله فالمخلص لا يخشى الفقر،ويعلم أن ما عند الله لا ينفد أبداً،لذلك هو ينفق ويبذل في وجوه الخير المختلفة،ويؤثرها بأعظم قدر مما ملكه الله من أسباب القوة،حتى وإن كان محتاجاً لما يبذل. قال تعالى:[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]([114]). 9_ يحمل طالب العلم على الاجتهاد والمعلم على الحرص في الإيضاح فكما يخلص التلميذ في حضوره لدروس العلم وأنه يتعلم ابتغاء وجه الله لينفع الناس في جميع أمور حياتهم. فكذلك يجعل الأستاذ يبذل كل ما في وسعه لإيضاح ما خفي عن التلميذ،ولا يبخل على الطلاب بما تسعه أفهامهم من المباحث المفيدة،ويكون الأستاذ حريصاً على أن يسلك في طريقه التدريس الأساليب التي تجدد نشاط تلاميذه وتحفزهم إلى التعمق في المسائل. وكلما أخلص العالم في عمله،وعمل بما عَلِم، علَّمه الله ما لم يعلم، ونفعه بما علَّمه،وصار علمه حُجة له لا عليه. 10_ يحمل صاحبه على تنظيم أعماله([115]) فالإسلام دين النظام،والانضباط،والدقة،والجمال. فتجد المخلص يحافظ على وقته،ويستغله أفضل استغلال،ويصرفه كله في طاعة الله عز وجل. لأنه يعلم أنه سيسأل عنه يوم القيامة. عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما تزال قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع:عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟..)([116]). 11_ يجعل صاحبه في منزلة عظيمة عند الناس فيحترمه الناس، ويوقرونه،ويجلونه،ويكون محبوباً لديهم. باش الوجه،حسن اللفظ،طيب الخلق. يقول الشاعر: وأحسن وجه في الورى وجه مخلص * * * لمن خلق الأشياء ربَّ ا لبشرية وأيمن كف في الورى كف مخلص * * * يريد رضا الخلاق نعم الإرادة([117] ). 12_ ينجو به المرء من عذاب الآخرة ويفوز بنعيم الجنة فالمخلص عندما يتصدق لا يريد من وراء صدقته إلا رضا الله تعالى عليه،وأن ينجو بهذا العمل من العذاب يوم القيامة،لما فيه من هول شديد،وأمور عظام قال تعالى: [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً )([118]). 13_ الإخلاص دواء لمرض البعد عن الله قابل شخص الفضيل بن عياض فسأله قائلاً: يا أبا علي: هل لمرض البعد عن الله دواء؟ عليك بعروق الإخلاص،وورق الصبر،وعصير التواضع،وضع هذا كله في إناء ا لتقوى وصبَّ عليه ماء الخشية والخوف من الله عز وجل وأوقد عليه نار الحزن والبكاء والندم،وصفِّه بمصفاة المراقبة مع الله جل وعلا،وتناوله بكف الصدق،واشربه بكأس الاستغفار وتمضمض بالورع،وابعد عن الحرص والطمع،تشفَ من مرض البعد عن الله([119]). قالوا في الإخلاص تحدث الكثير من علماء المسلمين،والتابعين،والسلف الصالح عن الإخلاص وذكروا باقات طيبة من كلامهم الذي يفوح بالمسك في هذا الأصل.وإليك باقة من كلامهم حول الإخلاص: قال إبراهيم بن أدهم ( الإخلاص صدق النية مع الله تعالى)([120]). وقال سهل: ( الإخلاص أن يكون سكون العبد،وحركاته لله خاصة)([121] ). وقال آخر : ( الإخلاص ما استتر عن الخلائق،وصفا عن العلائق)([122]). وقال سفيان بن عيينة:)ما أخلص عبد لله أربعين يوماً إلا أنبت الله الحكمة في قلبه نباتاً، وأنطق لسانه بها وبصره عيوب الدنيا داءها ودواءها)([123]). وقال الربيع بن خيثم: ( كل مالا يراد به وجه الله يضمحل)([124]). وسئل حمدون القصار: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ فقال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام،ونجاة النفوس،ورضا الرحمن،ونحن نتكلم لعز النفوس،وطلب الدنيا،ورضا الخلق([125] ). وقال أويس القرني رحمه الله: (وإذا قمت فادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك،فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما)([126]). وسئل سهل أي شيء أشد على النفس؟ فقال الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب)([127]). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:( فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس)([128]). وقال الفضيل بن عياض: ( ترك العمل من أجل الناس رياء،والعمل من أجل الناس شرك،والإخلاص أن يعافيك الله منهما)([129]). وقيل: الإخلاص دوام المراقبة،ونسيان الحظوظ كلها([130] ). وروي عن ابن مسعود أنه قال: ( لا ينفع قول إلا بعمل،ولا ينفع قول ولا عمل إلا بنية، ولا ينفع قول ولا عمل ولا نية إلا بما وافق السنة)([131]). وقال ا بن عبد الله التستري:(الإخلاص مسك مرصون في مسك القلب تنبه ريحه على حامله)([132] ). الرياء وأثره على الأعمال: الرياء يمحق الأعمال الصالحة، ويفرغها من آثرها الطيبة،ويبطلها، ويتركها خواء،ويصيرها هباء منثورا. يأكل الحسنات،ويضيع على العبد كل سعيه أشد فتكاً على المسلم في أعماله من الذئب في الغنم،أخطر على المسلمين من فتنة المسيح الدجال،يورث المرائي في الدنيا الصغار، والذل والهوان،وفي الآخرة سخط الله عليه، والزج به إلى نار جهنم،لأنه ابتغى بعمله غير الله تعالى. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال:فما عملت فيها؟قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه،وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته،وقرأت فيك القرآن،قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارىء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.ورجل وسع الله عليه،وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال:فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيل تحب أن ينفق فيها إلاَّ أنفقت فيها لك،قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال:هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم القي في النار)([133]). فالعمل قد يبطل،مع أن صاحبه قد عقد له الإخلاص قبل القيام به،لكنه جاء بعد فترة من الزمن،وذكره أمام الناس،على سبيل المن والافتخار،فيبطل ثوابه في توه. عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنَّ الاتقاء على العمل أشد من العمل،وإن الرجل ليعمل العمل فيكتب له عمل صالح معمول به في السر يضعف أجره سبعين ضعفاً،فلا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويعلنه،فيكتب علانية،ويمحى تضعيف أجره كله،ثم لا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس الثانية،ويحب أن يذكر به ويحمد عليه فيمحى من العلانية،ويكتب رياءً،فاتقى الله امرؤٌ صان دينه،وإن الرياء شرك)([134]). علاج الرياء إذا ما أراد العبد أن يخرج من دائرة الرياء،فعليه أن يُقرَّ بفضل الله عليه،وتوفيقه له،وأن يخاف مقت الله وغضبه عليه يوم القيامة وأن يطالع ما في نفسه من عيوب، تقصير فيعالج ما فيها، وأن يعرف مداخل الرياء وخفاياه،فيتم له الاحتراز منها،وأن يكثر من العبادات غير المرئية،ويخفيها،ولا يذكرها لأحد،كقيام الليل،والصدقة سراً،والبكاء من خشية الله تعالى وأعماله مقبوله بإذن الله تعالى. أمور لا تعد من الرياء: وحتى لا يتلبس على الإنسان في أعماله شيء،فليعلم أن الأمور الآتية ليست من الرياء ومنها: 1_ثناء الناس عليه ومدحهم لعمله دون قصده. عن أبي ذر رضي الله عنه قال:قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:( أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن)([135] ). 2_ كتمان الذنوب:المؤمن المخلص الصادق هو الذي يستر على نفسه،ولا يهتك سترها، لأن الذي يذكر ذنوبه بحجة أن ذلك توبيخ للنفس،وتواضع، ليقال عنه أنه لا يزكي نفسه، فما ذلك إلا تلبيس من إبليس لعنه الله. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول( كل أمتي معافاة إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل العبد العمل بالليل عملاً ثم يصبح قد ستره ربه،فيقول: يافلان!! قد عملت البارحة كذا وكذا،وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه([136]). فلا يظن أن كتمان الذنوب من الرياء. 3_ إظهار الطاعات:كالأعمال التعبدية التي لا يمكن إخفاؤها مثل الحج،والعمرة،والصلاة والجمعة، والجهاد،لأنه ربما قصد من إظهارها خيراً فلا يعد رياءً. كأن يقصد بذلك تعليم جاهل، أو الأخذ بيد لاهٍ غافل إلى طريق الله رب العالمين. عن أنس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(الإسلام علانية والإيمان في القلب..)([137]). 4_ تحسين الهيئة: فالإسلام دين الطهارة،والنظافة، والجمال،والمسلم يمثل أمته، ودينه،ودعوته. فظهوره بهيئة طيبة في أحواله كلها في حدود لا تخالف الشرع ليس من الرياء أو الكبر.قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنةً، قال: إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق،وغمط الناس)([138] ). دور المتابعة في الفاعلية: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نموذج عملي للحركة والعمل والفاعلية: قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]([139]). المؤمن التقي المخلص هو الذي لا يعرف الكسل لجسده طريقاً،فهو يسعى ويجتهد،ولا تتوقف حركته التي يبتغي من ورائها عز أمته،ورفع راية التوحيد مقتدياً في ذلك بالنبيصلى الله عليه وسلم الذي يقول الله تعالى عنه: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]([140]). وسنته الشريفة صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة فيها نماذج عظيمة تدعو إلى العمل، والفاعلية والحركة. والله سبحانه وتعالى يدعونا إلى العمل،والبحث عن الرزق، في قوله تعالى: [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]([141]). وغير ذلك من الآيات: وإذا نظرنا إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته لوجدنا الكثير الكثير. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خيرٌ من أن يسأل أحداً فيعطيعه أو يمنعه)([142]). وعن المقداد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ما أكل أحدٌ طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)([143] ). وقد عمل نبينا صلى الله عليه وسلم بحرفة رعي الغنم،وعمل بها من قبله الكثير من الأنبياء. وحدث هذا عندما بدأ الرسول يستأنف حياة الكد والكدح،والعمل،بعد عودته من رحلته التجارية من الشام التي خرج فيها مع عمه أبي طالب. واختار الرسول حرفة الرعي، التي كان قد بدأها مع إخته في بني سعد،تلك الحرفة التي تعلم منها الصبر،والحلم،والأناة والرحمة، والرأفة، والعناية بالضعيف حتى يقوى. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال)ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم،فقال أصحابه: وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)([144]). وكان يسيراً على الله عز وجل القادر على كل شيء أن يرزق النبي صلى الله عليه وسلم في بداية حياته بما يساعده على الترف، والراحة، ومظاهر العيش المترف المنعم بما يغنيه عن الكد، والتعب، ورعاية الأغنام سعياً وراء الرزق، حيث بدا له ما يلاقيه عمه أبو طالب من نصب بسبب ثقل عياله، ولكن حكمة الله تعالى تقتضي أن نعلم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بعناء، ولقاء ما يقدمه لمجتمعه من خدمات الخير، ويساعدهم فيه. وأن شر المال ما أصابه الإنسان وهو مستلق على ظهره على فراش لين،لم يبذل فيه مجهوداً، ولم يقدم شيئاً ولو قليلاً ينتفع به مجتمعه. وهكذا كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بين العمل في التجارة،ورعي الأغنام،وبين مساعدة المجتمع الذي يعيش فيه ليكون عنصراً فعالاً مفيداً لهذا المجتمع. أما بعد البعثة، فتضاعفت جهود النبي صلى الله عليه وسلم وحركته لأنه أصبح قدوة وأسوة للناس جميعاً فها هو صلوات الله وسلامه عليه يشارك أصحابه في حفر الخندق، يحمل معهم التراب على كتفه الشريف وكأنه يلبس ثوباً من تراب من كثرة العمل. ولما قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يخدمهم بنفسه، فقال أصحابه: نحن نكفيك يارسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:( إنهم كانوا لأصحابي مكرمين وأنا أحب أن أكافيهم)([145]). وهذا يدل على عظمة تواضعه صلى الله عليه وسلم وعلى حسن ضيافته وعلى مشاركته في كل شيء صغر أو كبر. والرسول صلى الله عليه وسلم يريد من أمته أن تكون أمة عاملة، فإذا به يعلمهم أن عليهم العمل، والأخذ بالأسباب،أما النتيجة فعلى الله تعالى. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها)([146]). والناظر لهذا الحديث من أول وهلة يتساءل إذا غرست هذه الفسيلة ومات الناس جميعاً بعد قيام الساعة فمن سيستفيد منها؟ هنا يعلمنا الرسول هذا الدرس العظيم،بأننا علينا العمل فقط، وليس علينا تحصيل النتائج لأننا لسنا مطالبين بها. وهكذا كانت حياته صلوات الله وسلامه عليه مفعمة بالفاعلية،والعمل والحركة،حياة كانت موزعة بين الدعوة لدين الله،وتبليغها،والجهاد في سبيل الله، والقيام بين يدي الله في الصلاة ليلاً حتى تورمت قدماه وبين القيام بأعباء بيته كأب، وزوج ومرب، يقوم على خدمة أهله ويجالسهم ويمازحهم،فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. وإن من فاعلية المسلم أن يخالط الناس ويأخذ بأيديهم إلى طريق الحق ويسع صدره لجهلهم. فيكون واسع الأفق، حسن التصرف،يشاركهم في أمورهم التعبدية ولا يكون في معزل عنهم،أو في منأى عن مسايرة العصر الذي يعيش فيه، فلا يكاد يدرك الحقائق أو البديهيات المسلَّم بها. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:( المسلم إذا كان مخالطاً للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)([147] ). لقد أمر الإسلام بزيارة المريض،وتشميت العاطس،ونصر المظلوم،وصلة الرحم،وإبرار المقسم،وإجابة الداعي، واتباع الجنائز،فإذا ما شارك المسلم في هذه الأمور صار فعالاً في مجتمعه،وحصل على الخير، وأفاد الناس بأخلاقه الطيبة، واستفاد ودهم،وحبهم له،وحظى برضا الله رب العالمين. أما إذا اعتزلهم فمن أين يأتيه الخير؟ ولقد ربى الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته على هذه المعاني العظيمة،وحثهم على التفاني في العمل،ودعاهم إلى الإخلاص في أعمالهم. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه بمجرد أن نطق بالشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم ما عليه من واجبات تجاه هذا الدين، وما له من حقوق، انطلق يدعو إلى دين الله،ويأخذ بيد الضال إلى طريق الله، لم يحصل على الخير ويقصره على نفسه، بل دعا له،وأرشد إليه،فإذا به يسلم على يديه خمسة من العشرة المشهود لهم بالجنة([148]). وإن مما يساعد في إنجاز الأعمال،الدقة في تنظيم الوقت،ومحاسبة النفس في كل دقيقة،هل صرفت هذه الدقيقة في طاعة الله أم لا؟ والذي ينظر إلى تاريخ الصحابة،والتابعين،والسلف الصالح يرى كيف كانوا يعيشون،ويرى ما قدموه لهذه الأمة من أعمال جليلة في سنوات قليلة،ما ذلك إلا لتقواهم،ودقتهم في تنظيم أوقاتهم،ومحافظتهم عليها فسجلوا بذلك صفحات بيضاء في جبين التاريخ،فهم رهبان بالليل، فرسان بالنهار. |
|
![]() |
![]() |
#4 |
![]() محمد راتب النابلسي الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس العاشر من دروس الحديث النبوي الشريف ، ومن كتاب رياض الصالحين ، ومن باب الصبر ، الحديث الشريف الذي نحن بصدده هو قول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أَبو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا )) . ( رواه مسلم ) وصلنا في الدرس لماضي إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام : " وَالصَّلَاةُ نُورٌ " ، واليوم بتوفيق الله أشرح لكم : " وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ " . الحقيقة أن الإنسان حينما يؤمن بالله عز وجل ، ماذا فعل ؟ يعني إذا آمنت أن هذه الآلة تعمل على الطاقة الكهربائية ، أنت إذا آمنت بهذه الحقيقة ، ماذا فعلت ؟ ماذا قدمت ؟ ماذا أحدثت ؟ الحقيقة إذا آمنت بالحقيقة لا تكون قد فعلت شيئاً إلا أن تأخذ منها موقفاً ، لذلك حينما يكتفي الإنسان بالإيمان بما هو حقيقي ، بما هو واقع من دون أن يكون له موقف دقيق ، من دون أن يكون ذا عمل يترجم إيمانه ، فإيمانه لا قيمة له . في بالإسلام تشريعات كثيرة ، هناك بعض التشريعات تتوافق مع طبيعة النفس ، فلو أن الإنسان ذهب في الشتاء إلى العمرة ، يستمتع بالحرمين المقدسين المكي والمدني ، وقد يكون له أهل وأقارب هناك يرحبون به ، ويمضي أياماً لطيفة جداً في الرحاب الطاهرة ، طبعاً العمرة واجبة بنص الكتاب والسنة : ( سورة البقرة : من آية " 196 " ) لكن الذهاب إلى العمرة ، وأخذ إجازة بعيداً عن مشاكل الحياة ، والإقامة في الحرمين المقدسين ، والتمتع بما عند المضيف من إكرام ، هذا يتوافق مع طبيعة النفس ، وقد يقدم الإنسان على الزواج ، ويقول : أنا أطبق سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، طبعاً كان يدخل إلى البيت ولا أحد يؤنس وحشته ، بعد الزواج صار له زوجة ترغب به ، ويرغب بها ، تؤنسه ويؤنسها ، ويقول : أنا أطبق السنة ، شيء جميل طبعاً ، فتطبيق هذه السنة توافق مع رغبتك ، لا يعد الزواج برهاناً على إيمان الإنسان ، لأن كل الناس يرغبون في الزواج ، ولا تسمى العمرة في الشتاء إلى الديار المقدسة برهاناً على الإيمان ، لأنه شيء ممتع ، ولكن الشيء الذي يؤكد إيمانك ، ويكون دليلاً عليه ، هو أن يكون الشيء متناقضاً مع حاجاتك الأساسية . فربنا سبحانه وتعالى أودع في قلب الإنسان حب المال لقوله تعالى: ( سورة آل عمران ) فالمال ذهباً ، أو فضة ، أو ورِقاً شيء أودع الله حبه في النفوس ، فإذا ما بذل يكون بذل المال متناقضاً مع حرص النفس عليه ، إذاً عندئذٍ يكون بذل المال شيئاً مؤكِّداً للإيمان ، ربنا سبحانه وتعالى يقول: ( سورة آل عمران ) المتقون ما صفاتهم ؟ لهم آلاف الصفات ، المتقون لهم صفات كثيرة ، ولكن الصفة لتي بدأ الله بها هي قوله تعالى : ( سورة آل عمران ) لماذا بدأ الله تعالى بهذه الصفة ؟ لأن هذه الصفة تؤكِّد تقواهم ، فالإنسان إذا جاءت الأوامر الإلهية متوافقةً مع طبيعة النفس ، لا تكون هذه الأوامر برهاناً على إيمانه ، ولكنها إذا جاءت متناقضةً مع طبيعة النفس ، عندئذٍ تكون الصدقة برهان ، أنت إذا أنفقت ألف ليرة أو مئة ليرة إنك بحاجة ماسة إليها ، إنك تقضي بها بعض الحوائج ، إنها شيء محبب ، إنها جهدك ، إن المال تعبير عن قيمة مطلقة ، إنها رمز الجهد، إنها رمز العمل ، إنها بذل رمز الطاقة التي أودعها الله في الإنسان ، فإذا أنفقتها أنفقت جزءً من طاقتك ، أنفقت جزءًا من عملك ، أنفقت جزءًا من جهدك، أنفقت جزءًا من وقتك ، الوقت إذا بذلته تكسب به المال ، فإذا أنفقت المال أنفقت وقتك ، وأنفقت خبرتك ، وأنفقت عملك ، وأنفقت جهدك ، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام : " وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ " . |
|
![]() |
![]() |
#5 |
![]() النابلسي , ت الإنسان أحياناً يأتيه الشيطان ، ويقول له : أنت لست مؤمناً ، أنت منافق ، الشيطان يوسوس للإنسان ، فإذا دفع الإنسان مبلغاً من المال من دون أن تعلم شماله ما أفقت يمينه فإن هذا الإنفاق يلقم الشيطان حجراً يسكته ، دفعت المال ، وقد حبب إليك ، دفعته ، ولم يدرِ بهذا الدفع أحد ، إنك بهذا ترجو الله عز وجل ، لذلك من كان في شكٍ من أمره ، من كان في شك من إيمانه ، مَن كان في شك من حبه لله عز وجل ، فلينفق دون أن يذكر إنفاقه ، فإن في هذا الإنفاق قطعاً لوسوسة الشيطان ، إن في هذا الإنفاق برهاناً . فأحياناً الإنسان يكون له صديق ، فيزوره ، يحتفل فيه ، يدعوه لزيارته ، فيرد الإكرام بإكرام مثله ، عواطف جيَّاشة ، وكلمات لطيفة ، كلمات حارة ، عبارات أنيقة ، يعلق على العلاقة، يقول له : أنا أحبك ، أنت جزء من كياني ، أنا أتعاطف معك ، هذا كله كلام ، والسهرات متع والرحلات فيها متع أيضاً ، ولكن إذا جاءك هذا الصديق ، وقال : هل معك مبلغ تقرضني إياه ، فأنا في أشد الحاجة إليه ؟ هنا تظهر المحبة الحقيقية ، ما دام الأمر لا يوجد فيه بذل ، في مجاملات ، في عبارات دافئة ، في كلمات رنَّانة ، في تعليقات عاطفية ، في تعبيرات عما في النفس من عواطف جياشة ، ما دام الأمر على مستوى الكلام ، فكله كلام بكلام ، ولكن حينما يأتيك طالباً منك بعض المال ، حينما تعطيه هذا المال ، وأنت حريص عليه ، فذا الدفع يؤكد إخلاصك له .. إن الصديق الحق مَن كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومَن إذا ريب الزمان صدعـك شتت فيك شمله ليجمعك * * * فلذلك " وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ " ، برهان على أنك تحب الله ورسوله ، برهان على أنك واثق بما عند الله من خيرٍ كبير ، برهانٌ على أن الذي قاله النبي عليه الصلاة والسلام من دعوة إلى الإنفاق في قلبك وفي سمعك وأنت مصدق النبي العدنان ، فلذلك ربنا عز وجل قال : ( سورة التوبة) من يقرأ القرآن الكريم في ثماني آيات فيما أذكر على سبيل الحصر يؤكد الله سبحانه وتعالى أن كل شيء تنفقه الله سبحانه وتعالى يخلفه .. ( سورة سبأ : من آية " 39 " ) فإذا قرأت القرآن ، وصدقت الله سبحانه وتعالى عندئذٍ تنفق ، فإذا أنفقت ، فإنفاقك تصديق وبرهان على أنك مصدق لكلام الله ، هذا معنى آخر ، إنفاق المال في حد ذاته برهان على طاعتك لله ، برهان على إيمانك ، برهان على محبتك ، ولكن إنفاق المال أيضاً دليل على أنك مصدق لوعد الله ، إذا أنفقت المال فالله سبحانه وتعالى لابد من أن يخلفه عليك ، من هنا تأتي كلمة : " وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ " . وذاق طعم القرب من أنفق ماله ابتغاء وجه الله ، إن الصدقة لتقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد الفقير ، إن الله سبحانه وتعالى يمكن أن يسترضى بالصدقة ، باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها ، ((صدقة السر تطفئ غضب الرب )) ، فإذا سنحت من الإنسان سانحة لا ترضي الله عز وجل ؛ وقع في مخالفة ، وقع في تقصير ، وقع في غيبة ، خطفت نفسه صورة امرأة من دون أن يشعر ، لم يكتف بالنظرة الأولى ، زلت قدمه ، زلَّت عينه ، خانته عينه ، وشعر أن الله ليس رضياً عنه ، وشعر بالحجاب ، وشعر بالتقصير ، شعر بالمخالفة ، إذا أسأت فأحسن ، ادفع من مالك الذي كسبته حلالاً استرضاءً لله عز وجل. والله الذي لا إله إلا هو لا يعلم هذه المعاني إلا من ذاقها ، إذا الإنسان وقع في غفلة ، وقع في حجاب ، وقع في مخالفة صغيرة عن غير قصد ، وكانت هذه المخالفة حجاباً بينه وبين الله ، بإمكانه أن يبادر في دفع صدقة تزيل هذه الجفوة بينه وبين الله ، تذيل هذا الحجاب الذي كان بينه وبين الله . لذلك " وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ " ، لا أعتقد في واحد من الإخوة الحاضرين لا يعرف عشرات بل مئات بل ألوف القصص التي تؤكد أنك إذا أنفقت المال عوض عليك ما أنفقه أضعافاً مضاعفة ، فالله سبحانه وتعالى يسترضى بالصدقة ، غضب الله عز وجل يطفأ بالصدقة ، البلاء يرد بالصدقة، المرض يعالج بالصدقة ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام : ((داووا مرضاكم بالصدقة)) . ( من الجامع الصغير : عن " ابن مسعود " ) يعني إذا أردت أن تتقرب إلى الله عز وجل ، فالمال جعله الله بين يديك مادةً للتقرب إلى الله عز وجل ، يقول لك : فلان كيف مفتاحه ؟ مع مَن مفتاح ؟ كيف نجعله يوافق على هذه الشيء ؟ يقال لك : فلان مفتاحه ويوجهه توجيه معين ، فالله سبحانه وتعالى إذا تصدقت فإن هذه الصدقة تطفئ غضب الرب ، إن هذه الصدقة تمنع البلاء ، إن الصدقة تمحو السيئة ، ((اتق الله حيث ما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن )) . " وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ "، ((أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً )) ، ورد في الحديث القدسي : ((عبدي أَنفق أُنفق عليك)) . ( من الجامع لأحكام القرآن ) ودرهم تنفقه في حياتك خير من مئة ألف درهم ينفق بعد مماتك ، لا تعلم قد يبدو للورثة أن يتهموا أباهم بالجنون ، ويقولون : هذا أبونا يحتاج إلى حجر صحي ، يريد حجرًا على عقله ، ربما لا تنفذ وصيتك ، ربما لا تنفذ وصيتك ، وقد يحتال في تنفيذه ، أما إذا قدمت مالك أمامك سرك اللحاق به ، أما إذا تركته خلفك آلمك تركه ، لذلك " وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ " . مرة ثانية : ( سورة التوبة) والذي لا إله إلا هو إذا أنفقت من مالك الحلال لا تبتغي سمعة ، ولا رياء ، ولا ضجيجاً ، ولا مكانة ، ولا علواً في الأرض ، ولا سمعة ، ولا تألقاً ، لا تبتغي إلا أن يرضى الله عنك ، كان هذا المال مطهراً لنفسك ، تُطَهِّرُهُمْ ، مزكياً لها ، مقرباً لك من الله عز وجل ، والإنسان لا يقول : ليس معي ، قال عليه الصلاة السلام ، وقد أنفق بعضاً من ماله ، قال : ((يا رب هذا جهد من مقل )) ، لأن رُبَّ درهم سبق ألف دهم ، إذا الإنسان دفع عشرة ليرات ، ولا يملك غيرها فقد دفع ماله كلها ، شاب ، له مخصصات أسبوعية ، خمسة وعشرين ليرة ، لو أنه دفع منها خمس ليرات ، ما معنى خمس ليرات ؟ أي دفع خمس ماله ، رب درهم سبق ألف درهم ، شيء آخر : درهم تنفقه في إخلاص خير من مئة ألف درهم ينفق في رياء . فهذه الصدقة أيها الإخوة برهان ، والله الذي لا إله إلا هو ، إخوة كثيرون يروون عشرات القصص كيف أنها تطفئ غضب الرب ، كيف أنها تمنع البلاء ، كيف أنها تقي مصارع السوء ، صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، كيف أنها تقرب من الله عز وجل ، كيف أنها تطهر النفس، كيف أنها تزكِّياه ، كيف أنها ترقى بصاحبها . فلذلك آيات الإنفاق التي وردت في القرآن الكريم أكثر من أن تعد ، كثيرةٌ جداً ، والأحاديث الشريفة التي بينت فضل الإنفاق ، أكثر من أن تحصى ، وإذا أردت أن تتعامل مع الله بهذه الأحاديث ، لا أقول لك : جرب . لأن الله لا يجرب ، الله سبحانه وتعالى لا يجرب ولا يشارط ، ولكن زوال الكون أهون على الله من أن تنفق نفقة من مالك الحلال ، ولا يعوضها الله عليك بعشرات الأمثال في الدنيا قبل الآخرة ، لذلك الحديث القدسي : ((عبدي أَنفق أُنفق عليك )) ، بل للصدقة معنى آخر ، يقول عليه الصلاة والسلام : ((استنزلوا الرزق بالصدقة)) . ( من الجامع الصغير : عن " أبي هريرة " ) والله أخ كريم حدثني أن عمله أوشك أن يقف ، ولا مورد له آخر، فاستمطر الرزق كما قال عليه الصلاة والسلام بالصدقة ؛ صار ينفق من ماله كل يوم مبلغاً يسيراً ، فالمبيعات كثرت إلى أن صار ينفق كل يوم مبلغاً كبيراً جداً يتناسب مع حجم مبيعاته ، استمطروا الرزق بالصدقة ، إذاً بالصدقة تجلب الرزق ، وبالصدقة تطفئ غضب الرب ، وبالصدقة تدفع البلاء ، وبالصدقة تمحو السيئة ، وبالصدقة تثبت لنفسك أنك مؤمن وأن الله يحبك ، وأن دفع المال رمٌز لإخلاصك في حب الله. بقي هذا الدفع ، الأفضل أن يكون في حياتك ، لأنه درهم تنفقه في حياتك خير من مئة ألف درهم ينفق بعد مماتك ، والأفضل أن يكون هذا الدفع بإخلاص شديد ، درهم أنفق في إخلاص خيرٌ من مئة ألف درهم أنفقت في رياء . والصبر ضياء .. ( سورة الزمر) لماذا هو ضياء ؟ الصبر تماماً كطفلٍ صغير جعل على مقعد طبيب الأسنان ، هذا الطفل الصغير لجهله بعلم الطبيب ، ولجهله بحكمته، ولجهله بأن هذا الذي يفعله في أسنانه لمصلحته ؛ تراه يصيح ، ويثور ، ويبكي ، ويرغي ، ويزبد ، أما الراشد الكبير قد يتألم ، وقد يشد على طرف المقعد من ألمه ، ولكنه لا يتكلم ، ولا يضجر ، ولا يقول إلا الكلام اللطيف مع الطبيب ، لأنه يعلم علم اليقين أن هذا الذي يفعله الطبيب لمصلحته. لذلك ، "الصَّبْرُ ضِيَاءٌ " ، معنى الصابر أنت تعلم أن هذا الذي يجري لمصلحتك عملية معالجة ، الدواء دائماً مر ، كان في تقصير ، كان في وقاية ، فربنا عز وجل أراد أن يقي هذا الإنسان أو أن يعالجه ، فساق له بعض الشدائد ، فالصابر هو الذي يعرف أن الله سبحانه وتعالى بيده الخير ، كل شيء وقع أراده الله ، وإرادة الله متعلقة بحكمته ، وحكمته متعلقة بالخير المطلق ، يجب أن تعلم علم اليقين أن الذي وقع هو خيرٌ مطلق ، فإذا سمَّاه علماء التوحيد شراً ، والإيمان بالقدر خيره وشره ، هذه التسمية بحسب ما نفهم نحن في أشياء مؤلمة ؛ الفقر مؤلم ، المرض مؤلم هذا الفقر في ظاهره مؤلم ، لكن في حقيقته ربما كان الطريق إلى الله عز وجل ، لذلك إن المصائب والحكم حكماً جليلة ، وهي أنها تدفع العبد إلى باب الله سبحانه وتعالى ، وتلجئه إلى أن يكون عبداً له ، لذلك ولو كشف الغطاء لاخترتم الواقع ، " ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر " .. ( سورة الشورى) ( سورة البقرة ) بعضهم قال في تفسير هذه الآية : وإنا راجعون إلى الله بها .. ( سورة البقرة ) إذاً " وَالصّبرُ ضياءٌ ، والقرآنُ حجةٌ لك أو عليك " ، القرآن إذا طبقته فهو حجة لك ، فإن لم تطبقه فهو حجة عليك ، إذا عرفت أن هذا الكلام كلام الله ، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأن كلام الله يعلو على كل كلام ، وان مصداقيته من أعلى درجة ، وأن السعادة كلها في تطبيقه ، وأن الشقاء كله في تركه ، وأن القرآن غنىً لا فقر بعده ، ولا غنى دونه ، إذا علمت هذا العلم وطبقته كان حجة لك ، فإذا علمت ولم تطبق كان حجة عليك . لذلك كلمة : صدق الله العظيم كلمة خطيرة جداً ، نقرأ جزءًا ، حزبًا ، عشرًا ، ونقول : صدق الله العظيم ، هل أنت مصدق ما في هذا الكتاب ؟ طبعاً ، كلمة نعم سهلة ، هل عملك في اليوم ، وهل كسبك للمال ، وهل علاقتك الاجتماعية ، وهل علاقتك الزوجية ، وهل منطلقاتك النظرية ، وهل ممارساتك العملية تنطلق من هذا القرآن أم من أشياء أخرى ؟ فيكفي أن الله سبحانه وتعالى يقول لك : ( سورة النور : من آية " 30" ) فإذا كنت مصدقاً قال : ( سورة النور : من آية " 30" ) رب العزة يقول : غض البصر أزكى لك وأطهر في الدنيا والآخرة ، فإذا رأيت أن في النظر متعةً ، فأنت بهذا لست مصدقاً ما قاله الله عز وجل . إذا قال الله : ( سورة البقرة ) ورأيت أنه لابد من أن يستثمر المال بفائدة لئلا تقل قيمته ، هكذا رأيت أنت ، رأيت شيئاً يخالف كلام الله ، عندئذٍ الله سبحانه وتعالى يمحق الله الربا ، فهذا الذي نقوله : " والقرآن حجة لك أو عليك " . " كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ، كل إنسان ينطلق في حياته ، إما أن يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله ، فينجو من عذاب الدنيا والآخرة ، وإما أن يبيعها للشيطان فيخسر الدنيا والآخرة ، إما أن يبيعها للرحمن فيكسب الدنيا والآخرة ، وإما أن يبيعها للشيطان فيهلكها في الدنيا والآخرة ، كل الناس يغدو .. ( سورة الليل) كل إنسان ينطلق ؛ هذا إلى عقد صفقة ، وهذا إلى كسب مال حرام ، وهذا إلى طلب علم شريف ، وهذا إلى خدمة أخ صادق ، وهذا إلى معاونة أرملة ، وهذا إلى رعاية أيتام ، وهذا يغدو إلى صلة الرحم ، وهذا يغدو إلى طلب العلم ، وهذا يغدو إلى تعليم العلم .. ( سورة الليل) متفاوتة بالدوافع والأهداف والنتائج ، فالإنسان العاقل هو الذي يسعى لمرضاة الله ، " كل الناس يغدو " ، كل يوم صباحاً الناس ينطلقون من بيوتهم هذا إلى إيقاع الأذى بالناس ، أعانه الله على مصيره ، وهذا إلى بث الحق في النفوس ، وهذا إلى تعليم الناس الخير ، وهذا إلى الأمر بالمعروف ، وهذا إلى النهي عن المنكر ، وهذا إلى عمارة مسجد من مساجد الله عز وجل ، وهذا إلى رعاية أرملة ، وهذا إلى رعاية يتيم ، " كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها " من النار ، " أو موبقها " . رواه الترمذي في الدعوات ، وقال : إنه حديث حسن ضعيف ، فقد روي من طريق فكان صحيحاً ، وروي من طريق فكان حسناً ، كلمة صحيح أعلى صفة في الحديث ، وأعلى منها المتواتر ، وبعد المتواتر الصحيح ، وبعد الصحيح الحسن ، وبعد الحسن الضعيف ، هذه مراتب الحديث ، فإذا مر معكم أن هذا الحديث صحيح حسن ، يعني من طريق هو صحيح ومن طريق آخر هو حسن ، هذا الحديث حسن صحيح صححه النسائي وابن عساكر ، وغيرهم ، وأخرجه الطبراني في معجمه الكبير . نعيده مرة سريعة لنجمع المعاني التي مَنَّ الله بها علينا في هذه الدروس الثلاث . عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا )) . ( رواه مسلم ) |
|
![]() |
![]() |
#6 |
![]() النابلسي , ت والآن إلى قصة تابعي من التابعين الأجلاء تابعي اليوم طاووس بن كُيسان ، هذا التابعي قال عنه كتاب السيرة بخمسين نجماً من نجوم الهداية استضاءت ، فغمره الثناء ، وتدفق عليه النور ؛ نور في قلبه ، ونور في لسانه ، ونور يسعى بين يديه ، وعلى خمسين علماً من أعلام مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم تخرج هذا التابعي الجليل ، فإذا هو صورة لصحابة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في رسوخ الإيمان ، وصدق اللهجة ، والتعالي على عرض الدنيا ، والتفاني في مرضاة الله ، والجهر بكلمة الحق مهما كان ثمن هذه الكلمة ، لقد علمته المدرسة المحمدية أن الدين النصيحة ، النصيحة لله ، وكتابه ، ورسوله ، وأئمة المسلمين وعامتهم . في غداة يوم بارد من أيام الشتاء دخل على والي اليمن طاووسٌ ومعه وهب بن منبِّه ، فلما أخذا مجلسيهما عنده ، طفق طاووس يعظه ، ويرغبه ، ويرَهِّبه ، والناس جلوس بين يديه ، فقال الوالي لأحد حجابه : يا غلام أحضر طيلساناً ـ الطيلسان كساء أخضر اللون غالي الثمن تلبسه الخاصة ، الطبقة العلية في المجتمع ـ وألقاه على كتفي أبي عبد الرحمن . فعمد الحاجب إلى طيلسان ثمين ، وألقاه على كتفي طاووس ، وظل طاووس متدفقاً في موعظته ، وجعل يحرك كتفيه في تؤدة حتى ألقى الطيلسان من على عاتقه ، وهب واقفاً وانصرف، وترك الطيلسان في المجلس . فغضب محمد غضباً ظهر في احمرار عينيه ، واحتقان وجهه ، غير أنه لم يقل شيئا ، فلما صار طاووسٌ وصاحبه خارج المجلس قال وهب لطاووس : ـ والله لقد كنا في غنىً عن إثارة غضبه علينا ، فماذا كان يضيرك لو أخذت الطيلسان منه ، ثم بعته ، ودفعت ثمنه للفقراء والمساكين ؟ خذه منه وبعه وادفع الثمن للفقراء والمساكين . ـ فقال طاووس : هو ما تقول ، لولا أنني خشيت أن يقول الناس من بعدي : نأخذ كما يأخذ طاووس ، ثم لا يصنعون فيما أخذوه ما تقول أنت ، هذا موقف من مواقفه الجريئة . ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بعث إلى طاووس يقول : ـ أوصني يا أبا عبد الرحمن . فكتب إليه طاووس رسالة في سطر واحد ، قال فيها : ـ إذا أردت أن يكون عملك خيراً كله ، فاستعمل أهل الخير والسلام . فلما قرأ عمر الرسالة قال : كفى بها موعظة كفى بها موعظة . ولما آلت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك ، كان لطاووس معه مواقف مأثورة ؛ من ذلك إلى أن هشاماً قدم البيت الحرام حاجاً فلما صار الحرم قال لخاصَّته من أهل مكة : ـ التمسوا لنا رجلاً من صحابة رسول الله . ـ فقالوا له : إن الصحابة يا أمير المؤمنين قد تلاحقوا بربهم لم يبق منهم أحد ، واحداً إثر آخر. ـ فقال : إذاً فمن التابعين . فأوتي بطاووس بن كيسان ، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ، وسلم عليه من غير أن يدعوه بأمير المؤمنين ، وخاطبه باسمه دون أن يكنيه ، وجلس قبل أن يأذن له بالجلوس . كم مخالفة ؟ أولاً دخل عليه ، وخلع نعليه بحاشية بساطه ، وسلم عليه من غير أن يدعوه بأمير المؤمنين ، وخاطبه باسمه دون أن يكنِّيه ، وجلس قبل أن يأذن له بالجلوس ، فاستشاط هشام غضباً حتى بدا الغيظ في عينيه ، ذلك أنه رأى في تصرفاته اجتراءً عليه ، ونيلاً من هيبته أمام جلسائه ورجال حاشيته ، بيد أنه ما لبث أن تذكر أنه في حرم الله عز وجل ، فرجع إلى نفسه وقال لطاووس : ـ ما حملك يا طاووس على ما صنعت ؟ ـ فقال : وما الذي صنعته ؟ ماذا فعلت ؟ ـ فعاد إلى الخليفة غضبه وغيظه وقال له : خلعت نعليك بحاشية بساطي ، وكان ينبغي أن تخلعهما خارج المكان ، ولم تسلم عليّ بإمرة المؤمنين ، وسميتني باسمي ولم تكنني ، ثم جلست من غير إذني !! ـ فقال طاووس بهدوء : أما خلع نعلي بحاشية بساطك فأنا أخلعهما بين يدي ربِّ العزة كل يوم خمس مرات ، فلا يعاتبني ، ولا يغضب علي ، وأما قولك : إني لم أسلم عليك بإمرة المؤمنين فلأن جميع المؤمنين ليس راضين بإمرتك ، وقد خشيت أن أكون كاذباً إن دعوتك بإمرة المؤمنين ، وأما ما أخذته عليَّ من أني ناديتك باسمك ولم أكنك ، فإن الله عز وجل نادى أنبيائه بأسمائهم ، فقال : يا داود ، ويا يحيى ، ويا عيسى ، وكنى أعداءه فقال : تبت يدا أبي لهب وتب ، وأما قولك : إني جلست قبل أن تأذن لي ، فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول : (إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار ، فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام بين يديه ) ، فكرهت أن تكون ذلك الرجل الذي عُدَّ من أهل النار. قال : فأطرق إلى الأرض خجلاً . وقد روى عطاء بن رباح قال : رآني طاووس في موقف لم يرتح له ، فقال : يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق في وجهك بابه ، وأقام دونك حُجَّابه ، وإنما اطلبها ممن أشرع لك أبوابه ، وطالبك بأن تدعوه ، ووعدك بالإجابة ، أي الله عز وجل .. لا تســألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تُحجب الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب * * * كان يقول لابنه : يا بني صاحب العقلاء تنسب إليهم ، وإن لم تكن منهم ، ولا تصاحب الجهال فإنك إن صحبتهم نسبت إليهم ، وإن لم تكن منهم . لذلك الفقهاء ذكروا حالات كثيرة تجرح العدالة منها : صحبة الأراذل ، إذا إنسان صفيه ، أو له سمعة منحطة ، أو منحرف الأخلاق ، يكفي أن تمشي معه فإن هذا يجرح عدالتك ، يجرحها ، وترفض شهادتك إذا سرت معه ، فالذي يصحب الأراذل ، والذي يتحدث عن النساء ، والذي يتنزه في الطرقات ، والذي يعلو صوته في البيت حتى يسمعه من في الطريق ، والذي يطفف بتمرة ، والذي يأكل لقمةً من حرام ، والذي يطلق لفرسه العنان ـ المسرع في المركبة ـ والذي يقود برذوناً ، والذي يمشي حافياً ، والذي يبول في الطريق ، والذي يأكل في الطريق ، والذي يلعب النرد ، هذه الأعمال كلها تجرح عدالتك ، وترفض شهادتك. ولا تصاحب الجهال ، فإنك إن صحبتهم نسبت إليهم ، وإن لم تكن منهم . وقد امتدت الحياة بطاووس حتى بلغ المئة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ((خيركم من طال |
|
![]() |
![]() |
#7 |
![]() النابلسي عمره وحسن عمله )) . ( من الجامع لأحكام القرآن ) أو جاوزه ، غير أن الكبر والشيخوخة لم ينالا شيئاً من صفاء ذهنه ، وحدة خاطره ، وسرعة بديهته ، بالمئة وهو حاد التفكير ، حاد الخاطر ، سريع البديهة . حدث عبد الله الشامي قال : أتيت طاووس في بيته لآخذ عنه ، وأنا لا أعرفه ، فلما طرقت الباب ، خرج لي شيخ كبير فحييته وقلت : ـ أأنت طاووس بن كيسان ؟ ـ قال : لا أنا ابنه . ـ فقلت : إن كنت ابنه فلا آمن أن يكون الشيخ قد هرم وخرف ، وإني قصدته من أماكن بعيدة لأفيد من علمه . ـ فقال : ويحك ، إن حملة كتاب الله لا يخرفون ، ادخل عليه . ـ فدخلت ، وسلمت ، وقلت : لقد أتيتك طالباً علمك راغباً في نصحك . ـ فقال : سل وأوجز . ـ فقلت : سأوجز ما وسعني الإيجاز إن شاء الله . ـ فقال : أتريد أن أجمع لك صفوة ما في التوراة والزبور والإنجيل والقرآن ؟ ـ فقلت : نعم . ـ قال : خف الله تعالى خوفاً حيث لا يكون شيء أخوف لك منه ، وارجه رجاءً أشد من خوفك إياه ، وأحب للناس ما تحب لنفسك . وفي ليلة العاشر من ذي الحجة سنة ستٍ ومئة أفاض الشيخ المعمَّر طاووس مع الحجيج من عرفات إلى المزدلفة للمرة أربعين ، فلما حط رحاله في رحابها الطاهرة ، وأدى المغرب مع العشاء ، وأسلم جنبيه إلى الأرض يلتمس شيئاً من الراحة أتاه اليقين .. ( سورة الحجر ) أي الموت ، فلقيه بعيداً عن الأهل والوطن تقرباً إلى الله ، ملبياً ، محرماً ، رجاءً لثواب الله، خارجاً من ذنوبه كما ولدته أمه بفضل الله ، فلما طلع عليه الصبح ، وأرادوا دفنه لم يتمكنوا من إخراج جنازته لكثرة ما ازدحم عليها من الناس ، فوجه إليهم أمير مكة حرساً ليزودوا الناس عن الجنازة ، حتى يتاح لهم دفنها ، وقد صلى عليه خلق كثير لا يحصى عددهم ، وكان في جملة المصلين خليفة المسلمين هشام بن عبد الملك ، هذا طاووس بن كيسان ، من التابعين الأجلاء كان مثلاً للعلم ، والورع والإخلاص والجرأة والزهد . * * * * * أخ كريم طلب إلي أن أتكلم كلمة عن مناسبة النصف من شعبان التي نحن على مشارفها . أولاً في هذه الليلة حولت القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرفة .. ( سورة البقرة ) إذاً هذه الليلة فيها تم تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، أما ما يظنه بعض الناس أن الآية التي تقول : ( سورة الدخان ) هذه الآية متعلقةٌ بليلة القدر ، وليس بليلة النصف من شعبان ، وقد ورد في صحيح البخاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم أكثر شعبان ، قالت عائشة : ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان )) ، هذا الذي ورد في صحيح البخاري . وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قلت : يا رسول الله لمَ أراك تصوم في هذا الشهر ما لم تصمه في شهور أخرى ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ((ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ، وهو شهرٌ ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين ، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)). ( رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة ) أما قيام ليلة النصف من شعبان ، وأما صوم يوم النصف من شعبان فلم يرد به دليلٌ صحيح ، ورد به حديث ضعيف ، ضعفه علماء الحديث، أما الذي ورد في كتب الصحاح هذا الذي قرأته عليكم ليس غير ، ما ورد حول ليلة النصف من شعبان بالذات ، وعن قيامها ، وعن صيام يوم النصف من شعبان ، الذي ورد لا يرقى إلى مستوى الصحة يبقى في الأحاديث الضعيفة ، على كل من أراد أن يصوم فهو صوم نفل ، وشعبان كله كان النبي عليه الصلاة والسلام يصوم أكثر أيامه إلا إذا فعلت نافلة أدت إلى ترك واجب . عندنا قاعدة أصولية : لا ينبغي أن تكون النافلة ذريعة إلى ترك واجب ، فهناك أشخاص لهم أعمال شاقة مثلاً ، عليهم تبعات كبيرة ، أعمالهم ضرورية ، فإذا كان الصوم متاحاً لهم فهو صوم نفل الله سبحانه وتعالى يثيب عليه ، أما إذا أدى صوم النفل إلى ترك واجب فالأولى القيام بالواجب ، وليس أكثر من هذا الذي ذكرته لكم في موضوع النصف من شعبان . النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم أكثر هذا الشهر ، لأنه يقول في هذا الشهر : ((يرفع العمل إلى الله عز وجل وأنا أحب أن يرفع عملي وأنا صائم )) . وفي هذا اليوم في اليوم النصف من شعبان حولت القبلة من المسجد الأقصى إلى البيت الحرام ، ومن زار المدينة المنورة من برنامج زيارته مسجد القبلتين ، ففيه تحوَّل الصحابة في أثناء الصلاة من قبلة إلى قبلة . والحمد لله رب العالمين |
|
![]() |
![]() |
|
|
![]() |
![]() |
![]() |