( ابن المعتز الشاعر والخليفة )
ابن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد الهاشمي، أخذ الأدب عن المبرد، وثعلب، وغيرهما؛ كان أديبا، بليغا، شاعرا مطبوعا، مقتدرا على الشعر، قريب المأخذ، سهل اللفظ، جيد القريحة، حسن الإبداع للمعاني، مخالطا للعلماء والأدباء، معدودا في جملتهم، شديد السمرة، مسنون الوجه، يخضب بالسواد، رخيّ البال في عيش رغيد، إلى أن خُلع المقتدر، وبويع ابن المعتز، ولقبوه: المرتضي بالله. وقيل: المنصف بالله. وقيل: الغالب بالله. وقيل: الراضي بالله.
*****
من أقواله: العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلاً والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالماً ولذلك انصرف الجهال عن العلم وأهله
قال أيضا : لحظة القلب أسرع خطوة من لحظة العين، وابعد غاية وأوسع مجالاً، وهي الغائصة في أعماق أودية الفكر ولمتأمله لوجوه العواقب والجامعة بين ما غلب وحضر، والميزان الشاهد على ما نفع وضر، والقلب كالمملي للكلام على اللسان إذا نطق، واليد إذا كتبت، فالعاقل يكسو المعاني وشي الكلام في قلبه، ثم يبدئها بألفاظ كواش في أحسن زينة، والجاهل يستعجل بإظهار المعاني قبل العناية بتزيين معارضها واستكمال محاسنها.
*****
له من التصانيف: كتاب الزهر والرياض، وكتاب البديع، وكتاب مكاتبات الإخوان، وكتاب الجوارح والصيد، وكتاب السرقات، وكتاب أشعار الملوك، وكتاب الآداب، وكتاب حُلى الأخبار، وكتاب طبقات الشعراء، وكتاب الجامع في الغناء، وغير ذلك، وله أشعار رائقة، وتشبيهات بديعة فائقة،
له الأبيات المشهورة:
سقى المطيرة ذات الظل والشجر=ودير عبدون هطال من المطر
فطالما نبهتني بالصبوح لها=في غرة الفجر والعصفور لم يطر
أصوات رهبان دير في صلاتهم=سود المدارع نعارين في السحر
مزمزمين على الأوساط قد جعلوا=على الرؤوس أكاليلا من الشعر
كم فيهم من مليح الوجه مكتحل=بالسحر يطبق جفنيه على حور
لاحظته بالهوى حتى استقاد له=طوعا وأسلفني الميعاد بالنظر
وجاءني في قميص الليل مستترا= يستعجل الخطو أذيالي على الأثر
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا=مثل القلامة قد قدت من الظفر
وكان ما كان مما لست أذكره=فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
*****
قال في التقوى :-
خل الذنوب صغيرها= وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر=ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة=إن الجبال من الحصى
وفي الصبر.
عليكَ بحسنِ الصبرِ في كُلِّ موردٍ= من الأمرِ كي تَحْظىَ بحسنِ المصادر
وفي الجود والسخاء
يارُبَ جودٍ جرّ فقرَ امرئٍ=فقامَ للناسِ مقا مَ الذليلِ
-فاشدُدْ عرا مالكَ واستبقه=فالبخلُ خيرٌ من سؤالِ البخيلِ
وفي الحظ والجَد.
كم فُرْصَةٍ فعادَتْ غُصَّةً=تشجى بطولِ تَلَهُّفٍ وتَنَدُّمِ
وفي الحكم والولاية.
كم تائهٍ بولايةٍ=وبعزْلِه ركضَ البريدْ
سُكْرُ الولايةِ طيبٌ=وخمارُها صعبٌ شديدْ
وفي الدنيا.
يا من تبجحَ في الدنيا وزخرفِها=كنْ من صروفِ لياليها على حذرِ
ولا يغرنكَ عيشٌ إِن صفا وعفا=فالمرءُ غررِ الأيامِ في غررِ
إِن الزمانَ إِذا جربْتَ خِلْقَتَهُ=مقسَّمُ الأمرٍ بين الصفوِ والكدرِ
وفي الحسد
اصبرْ على كيدِ الحسو= دِ (الحسود) فإِن صَبْركَ قاتلهْ
-فالنارُ تأكلُ بعضَها=إِن لم تَجِدْ ما تأكلُهْ
*****
كتب للخليفة يعزيه ويسليه عن مصيبته جاريته :
يا إمام الهدى حياتك طالت=وعشت أنت سليما
أنت علمتنا على النعم الشك=ر وعند المصائب التسليما
فتسلى عن ما مضى وكأن التي=كانت سروراً صارت ثواباً عظيما
قد رضينا بأن نموت وتحيى=إن عندي في ذاك حظاً جسيما
من يمت طائعاً لمولاه فقد=أعطي فوزاً ومات موتاً كريما
*****
وقد رثى أبو العباس عبد الله بن المعتز العباسي بن عمر المعتضد بمرثاة :
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحداً=وأنت والد سوء تأكل الولدا
أستغفر الله بل ذا كله قدر=رضيت بالله رباً واحداً صمدا
يا ساكن القبر في غيراء مظلة=بالظاهرية مقصى الدار منفردا
أين الجيوش التي قد كنت تشحنها=أين الكنوز التي لم تحصها عددا
أين السرير الذي قد كنت تملؤه=مهابة من رأته عينه ارتعدا
أين القصور التي شيدتها فعلت=ولاح فيها سنا الإبريز فانقدا
قد أتعبوا كل مرقال مذكرة=وجناء تنثر من أشداقها الزبدا
أين الأعادي الألى ذللت صعبهم=أين الليوث التي صيرتها نقدا
أين الوفود على الأبواب عاكفة=ورد القطا صفر ما جال واطردا
أين الرجال قياماً في مراتبهم=من راح منهم ولم يطمر فقد سعدا
أين الجياد التي حجلتها بدم=وكن يحملن منك الضيغم الأسدا
أين الرماح التي غذيتها مَهجاً=مذ مت ما وردت قلباً ولا كبدا
أين السيوف وأين النبل مرسلة=يصبن من شئت من قرب وإن بعدا
أين المجانيق أمثال السيول إذا=رمين حائط حصن قائم قعدا
أين الفعال التي قد كنت تبدعها=ولا ترى أن عفواً نافعاً أبدا
أين الجنان التي تجري جداولها=ويستجيب إليها الطائر الغردا
أين الوصائف كالغزلان رائحة=يسحبن من حلل موشية جددا
أين الملاهي وأين الراح تحسبها=ياقوتة كسيت من فضة زردا
أين الوثوب إلى الأعداء مبتغياً=صلاح ملك بني العباس إذ فسدا
ما زلت تقسر منهم كل قسورة=وتحطم العاتي الجبار معتمدا
ثم انقضيت فلا عين ولا أثر=حتى كأنك يوماً لم تكن أحدا
لا شيء يبقى سوى خير تقدمه=ما دام ملك لإنسان ولا خَلد
|