كثيرا ما نسمع بالمثل القائل :
هفة مقيط ورشاه ، أو ، يا مقيط دوك رشاك
وهي قصة بطلها رجل سمي : مقيط و هو ضحيتها أيضا ، لعدم تقديره الأمور وغياب عدله مقابل عاطفته .
وأجدادنا لم يفوتوا فرصة إلا استغلوها لتعليمنا حتى أدق تفاصيل التعامل مع الآخرين ، بحيث يتم تحييد العاطفة وتحكيم العقل والعدل والإنصاف ولو لم ترض النفس ، لأن ذلك من المروءة ، ولأنه أيضا من أسباب دوام العلاقات بين الناس وتبادل المنافع ، وإلا لم يبق للشخص صديق ولا يقبل به أحد.
لقد عرفوا بغلبة العاطفة وهيمنتها على النفس وتحكمها في تصرفات الفرد وخافوا منها ونسجوا لها الحكاية ، ووصفوا لها الدواء ، وهذا الدواء يتضح من مضامين قصة مقيط .
مقيط الذي لم يستطع أن يحكم عقله ، وغلبت عليه عاطفته وجعل حبه في غير موضعه ونسي الوفاء وغيبه عن مكانه .
وتبدأ قصته مع هوايته ، كما أن نهايته في ثنايا عاطفته ، وولاءه الذي لم يكن في محله .
كان مقيط من هواة القنص والصيد ، خبير بمواكر الصقور وطيور الحرار وتفريخها ، يسترزق من الطيور صيداً وبيعاً .
يتتبع أماكن تواجدها ، يتمتع بقوة القلب والقدرة على النزول أو الصعود في الأماكن المرتفعة فهو لا يهابها ، وللأسف كانت نهايته في أماكن هوايته ، هكذا جعلها مخرج القصة وصانعها.
سبرله ماكرا ، أو عشاً يظن أن به فراخاً ، أو بيض صقور ، لكنه لا يقدر على النزول إليه من أعلى الجبل ، ولا هو يتمكن من الوصول إليه صعوداً ولا بد له من حبل يسمونه ( الرشا ) غليظ الفتل قوي النسج ، يمسك به معاون له من الأعلى ويدليه وهو مربوط في وسطه ، ولكن لن يعمل معه أحد بدون مقابل مجزي .
وفعلا وجد من يعاونه ، وفي الوقت نفسه يرافقه ويؤانسه ، وإن احتاج لمساعدة أكثر ساعده ، وبهذا يكون قد ضحى بوقته وجهده وتفرغ له فاستحق أن يشاد به ، وأن يوهب أحسن هبة مما سوف يوجد في العش من فراخ يتقاسمها الاثنان ( مقيط وصاحبه )
وفعلا نزل مقيط بالرشا من الأعلى حتى صار في مقابل العش متدلياً قبالته ، ثم بشر صاحبه بأن في الوكر ثلاثة فراخ .
ومن المعروف أن الفراخ تختلف من حيث الحجم لأجسامها وصحتها وتحملها بل سرعة نموها فيما بعد وثمنها .
فالأكبر هو الأحسن ، والأوسط أقل منه ، أما الصغير أو الأخير فإنه في الغالب لا يبقى حياً وربما نشأ ضعيفاً أو سقط من العش من حركة الكبار حوله .
أما تسمية الفراخ الثلاثة فيطلق عليها في بعض المناطق بالترتيب :
النادر ، والشبيبيط ، وتبيع المفرخة.
وكل هذه الثلاثة في الوكر ، وعقدة القصة تكمن هنا ، ومفتاح العدل والإنصاف وضع في العقدة التي ينتظرها المتلقي و يجودها القاص بمهارته التربوية التي يزرع من خلالها المثل والفضائل حتى نعي أهمية التعامل مع الآخرين دون جور أو جحود ، وهي في قرار مقيط وتصريحه النهائي .
قال مساعده ، بشر ؟
كيف ستقسم الطيور أو الفراخ التي سوف تأخذها الآن وتصعد بها ؟
قال : هي مقسومة مسبقاً .
فالنادر: لي
والشبيبيط : لولد عمي .
وتبيع المفرخة : لك
سأله مرة أخرى : أنا تعطيني تبيع المفرخة ؟!!
قال : نعم ، ليس لك سواه .
قسمة تخلو تماماً من معاني الحق وتقدير الجهد والرفقة والصحبة ، فقد برزت القبلية والعاطفة ونسي المعروف ، وهذا مغزى القصة وهدفها.
حاول رفيقه أن يثنيه عن قسمته ، وطلب منه أن يراجع نفسه ، ويفكر في ما هو فيه من حاجة لمن يمسك الآن بالرشا ، ومن هو السبب في سلامته والمحافظة على نزوله وصعوده ، لكن لم يسمع لقول ولا لنداء عقل ولا واجب.
فقال له رفيقه : أجل [ يا مقيط ، دوك رشاك ]
فأعطاه الرشا وألقاه عليه ، وبهذا يكون مقيط قد هوى من حافة الجبل ، حيث النهاية له ولرشاه وللفراخ أيضا .
نهاية مأساوية ، وفيلم مرعب ، ومشهد مؤسف ولكن مضمون القصة يقول : بالعدل تستقيم الأمور .