لم اعهد أن الحرف له قيمة غير قيمة الحبر . وأن الفاصلة والنقطة أغلى سعرا من كلمة "لا " أو " نعم " وإن ندرت . ولكن الموظف نظر إلى شدقي وفهم أن فمي مليء بالكلام ، وشاهد جيوبي وعرف أنها خاوية من الريالات . راتبه لو اجتمع حتى سن التقاعد لا يدفع قيمة جهاز البرق الذي يطبع عليه ، سألته عن حزن وألم وهم وغضب ، شياء كثيرة تشد الجد حول فمه وترسم على فمه ابتسامة حجرية .
قال لي : إني أقرأ كل يوم همي وهموما تجعلني أخلص لهمي وادعوا من الله أن يديمه ، واشكره على نعمته . إنني أطبع كل يوم جشعا وطمعا يثقل حتى على الأثير .
خفت أن اتحدث بشيء لا يفاجئه
وكلمات لا جديد فيها
وتذكرت أن قيمة البرقية تزداد كلما كانت الكلمات نادرة ومختلفة ، فكان ما أخافه سبيلا لتقليل كلفة كل البرقيات التي اهم بإرسالها ، ناولني الأوراق ، وشد شفتاه ليدل على أنه أكثر سعادة لحالي الذي اكره ويحسدني هو عليه .
كتبت :
البرقية الأولى (1)
" سيدي للحرمين رب يحميه وييسر له من يخدمه .
ولكن الناس لا حرمة لهم سوى سد رمقهم ، وستر عوراتهم ، وكفايتهم السؤال والبكاء على شاشات التلفاز .
نساء ورجال ، يسمعون وافر كرمك يهطل بأرقام فلكية لا يحصون أصفارها .
وطن متسع ، وخطواتك أوسع منه وتغطي ما حوله .
ولكن هناك من لا يجد مكانا يمد فيه قامته مستلقيا .
إنك تقرر خيرا ، ويصب في أقماع تنفيذ غائرة ، ولجان حائرة ، ورقابات نائمة . وهيئات ومؤسسات أجمل إنجازاتها فخامة منسوبيها ومكاتبهم ولوحات الإعلان عن أعمالهم .
سيدي .
إنهم يسرقوننا باسم البورصة العالمية ، والاسهم المحلية ، وجمل وكلمات لا نفهم منها إلا أن كل السوء والشر عفوي النزعة ، وأن الإنسان إنما طاهر بريء لا يمكنه سوى الانسياق لأقدار كان بدايتها خير منك وانتهى بها إلى الشرمن لا شيء او من أنفسنا .
إن السماء لم تعد ترحمنا ، والأرض لم تعد تنبت لنا الأمل . وكل خطواتنا تمشي على الجليد وتستحي إعلان العطش ولعق آثار خطوات من تذوب تحت وقع أحذيتهم .
سيدي .
رأيت بالأمس رجل يلبس زي يشبه ما ألبسه ، وإمرأة تلبس ما تلبسه أمي واختي ، وينطقان بنفس اللهجة ، ولكنهما يبكيان ، ويسألاني بعض المال . وما في جيبي لا يغنيهم ساعة قادمة ، ويحتاجون لكل مواطن آخر يحمل مثل ما احمل أو أقل ليعيشوا شهرا كريما مقبلا .
سيدي
إنك تسمع من أولئك الذين يسابقونك على الأبواب ولا يسمعون لنا ، يفتحونها أمامك ويقفلونها أمامنا .
أولئك الذين يقفون فوق رأسك ، ويتطاولون بالجلوس على رؤوسنا .
أولئك الذين يقولون لك " ابشر " و " سم " و " حاضر " ويقولون لنا " مازال الأمر تحت الدراسة " أو " عقدنا لجنة لبحث الموضوع " أو " قدم معروضا " أو " راجعنا غدا " .
سيدي أن الأوراق التي يصلك منها طن ليست سوى غرام واحد من مشاكل هؤلاء المواطنين .
والكلمات التي يصلك منها المليارات ، ليست سوى الأفضل حالا والأقل مأساة حتى لا يزعجوك ، إن من حولك يحبونك أكثر من حبهم لنا ، ويكرهوننا بقدر حبنا لك .
تحيتي سيدي . القارء
ابو لارا