الموضوع: الحرة المضطهدة
عرض مشاركة واحدة
قديم 29-12-13, 11:54 AM   #1
شـــــاعر

 










 

تركي مرزوق العوفي غير متواجد حالياً

تركي مرزوق العوفي is on a distinguished road

افتراضي الحرة المضطهدة




الحرة المضطهدة

لم تغتمض عيناي ليلة أمس جراء حديث حدثني إياه رجل فاضل لا يساور من يعرفه أدنى شك بصدقه وخلقه
لا يمله جليس ولا يُستثقل له حديث ساقنا تجاذب أطرافه إلى التعدد الذي انقلبت لسماعه حال صاحبي
كأن لفظي لهذه الكلمة قد تجسد خنجرا تخطى أضلع صاحبي وأصاب مصابا بين جنبيه لا يحتمل المزيد
بالغة بفؤاده لواعج الأحزان ومكامن الأشجان
مبلغها
فلم يجد لتنفيس ما يعالج سوى زفرة زفرها ثم اطرق برأسه يجاهد عبرة اختنق بها طريق كلماته
ويدافع دموع ضاق بها محجر عينيه ثم شرع يخبرني هذه المأساة قائلا :
ذهبت العالم الماضي ازور أخت لي من الرضاعة لا تلتقي معي بنسب توفيت والدتها وهي رضيعة
ظل والدها عدة سنين جوارنا عهدي بها رحيل أبيها من المدينة قبل ثلاثين عام خلت
تسكن قرية نائية لا يبلغها السالك حتى يلاقي من سفره إليها نصبا
يتبادر لذهنك وأنت تشرف عليها أن أصحاب القرية قد ارتكبوا في مكان آخر جريمة نكرا
يلاقون هنا جريرتها ويقضون مدة عقوبتها
لما تعانيه القرية من اوضاع تجعلها خارج التاريخ
ولما دونها من القفار الوعرة التي سترضى عن قطعها بشق الأنفس عندما تبدأ السبيل إلى
القرية بالتخلخل بين تلك الجبال والتلال التي لم تبقي من الجهد والتجلد باقية
حين أنخت المسير بعد العشاء الآخرة بساعة أو تزيد وسالت من دلني على من شددت
الرحال لأجلها وإذا ببيتٍ اكتسى بالبؤس خارجه واظلم بالمأساة والأسى داخله
تقطنه هي جدتها لأبيها التي أدخلتني إياه
منعت الجدة من إيقاظها لما أخبرتني بأنها مريضة
وحين أصبح الصباح أدخلتني عليها بتلك الغرفة المظلمة
التي لا تشمل على أكثر من
سرير بالٍ يتراءى فوقه شبح ماثل من أشباح الموتى
وإذا بها تأن متوجعة أنين من يشكو مرضا أليما ويعالج هما ثقيلا
لم يكن بجانبها معللا يعللها ولا جليسا يتوجع لها فسلمت وجلست إليها
أسالها عما الم بها فأنشأت تقص علي قصتها بصوت خافت متقطع
كأنني انتزعه من بين ماضغيها انتزاعا وتقول :

زوجني أبي منذ سنوات رجل مزواج مطلاق لديه زوجتان ثابتان
سواهما لا يكاد يصبر على امرأة واحده عاما واحدا
ولو كان للفتاة رأي في نفسها من دون رأي وليها لعرفت
كيف
أحسن الاختيار لنفسي بل لو لم يكن في الأمر إلا أن أتبتل كما تتبتل الراهبات
أو أتزوج زواجا ينتهي بي إلى هذا المصير
لكان لي في الرهبانية رأي ما يراه النساء جميعا
ولكنني عجزت فأذعنت وحملت إليه فاستقبلني بأحسن ما يستقبل به الزوج الكريم أحظى
نسائه لديه وأكرمهن عليه فكان يريبني من ذلك ما يريب الفريسة من ابتسامة الأسد وكنت
انتظر يوم الفراق كما ينتظر المجرم يوم القصاص فما أفقت من صرعة النفاس حتى علمت
أنه خطب فتزوج وأنني أصبحت في المنزل وحيدة منقطعة لا مؤنس لي إلا طفلتي الصغيرة
جزعت عند الصدمة الأولى ثم نزلت على حكم القضاء الذي لا املك رده ولا اعرف وجه الحيلة فيه
فاحتملت طفلتي إلى بيت أبي ووجدته مريضا مشرفا فبكى رحمة بي واستغفرني من ذنبه إليّ فغفرت له
وما هي إلا أيام قلائل حتى مضى لسبيله مفجوعا برزئي الذي نزل بي
فعلمت أن الدهر قد سجل عليّ في جريدة الشقاء أياما طوالا لا اعلم متى يكون انقضاؤها ولا ادري ما الله صانع فيها
فضللت استشفع الناس الشفاعة إلى ذلك الرجل
اسأله القوت لأستعين به على تربية ابنته أو التسريح
عسى أن يبدلني الله خيرا منه زكاة واقرب رحما
فضن بالأولى واستعظم الأخرى لحاجة في نفس يعقوب
ورغم مرضي لم أجد بُدا تحت وطأة الحاجة أن أتوسل أهل القرية بأن يمتن عليّ احدهم برعاية غنمه
فسوى ذلك لا يوجد في القرية عمل اكتسب منه
فتكرم علي احدهم بذلك ولبثت فترة من الزمن استقطر الرزق من سم الخياط فلا ابلغ منه الكفاف
ولم يقتنع الدهر مني بذلك حتى رماني بالداهية الدهياء التي يصغر جنبها كل عظيم من خطوبه ونكباته
قلت وهل بقى من خطوب الأيام وأرزائها أكثر مما سمعت ؟
قالت : نعم

أني لجالسة منذ عدة أشهر على هذا المقعد
أعد على الدهر ذنوبه إليّ وسيئاته عندي فلا افرغ من عقد إلا إلى عقد ولا انتهي إلا إلى حيث ابتدئ
وقد جلست طفلتي بين يدي أتطلع إلى وجهها الساطع في ظلمات تلك الخطوب
كما يتطلع الملاح في ظلمات بحره إلى نجمة القطب
إذ هجم عليّ ذلك الظالم الجبار فرمى إلي حبلي واختطف ابنتي من بين يدي
من حيث لا املك دفعا لما أنابني ولا أجد ما أذود به عن نفسي إلا زفرات لا يسمعها سامع وعبرات لا يرحمها راحم
فشعرت كان سهم الدهر الذي كان يروغ قبل اليوم هاهنا وهنا قد أصاب في هذه المرة المقتل
فبت ليلتي كما يجب أن تبيت امرأة بائسة معدومة قد فجعها الدهر بكل ما تملك يدها
وبكل ما تتعلق به آمالها
فأصبحت لا تجد أمامها يدا تنبسط إليها ولا عينا تبكي عليها في عالم انقرضت نخوته ومروءته وبادت معالم شفقته
فقاطعت شكواها التي تذيب الفؤاد وتجسد معنى الاضطهاد
كأني انظر بأم عيني غائر وها النازف وهي تحدثني وسألتها :
أين أنتي عن القضاء لرفع مظلمتك ؟
فأطبقت عن الكلام وأخذت تستجمع ما تبقى من الجهد الواهن
لتغترف من جحيم الحسرة المضطرم جوفها زفرات تصعّدها
للتخفيف مما لا يعلمه إلا الله ثم قالت
آه ثم آه وآحسرتاه على ابنتي
وهل أطبق باب اليأس عليها وقطّع حبال رجائي دونها إلا لجوئي إلى القضاء
طامعة بإنصافه وعدالته التي لا يتغنى بها إلا مستنفع يردد صداه السذج المخدوعين
أمثالي قبل أن استنفر للإنصاف مطايا السعي واضرب بأكبادها البيد لأجله
ليفتك بها في صحراء الاستنزاف
ويفنيها بمطاردة مواعيده المتنائية التي الهث بينها
واستصرخ الكون لأرى ابنتي
فلا يجيبني إلا صدى اليأس
حتى واريت بجرداء السراب جثة أملي بجانب ضريح الإنصاف
وعدت اجر أذيال خيبتي استحث السماء استحث السماء رحمة تعجل بريب المنون
لا يفتر لساني ولا يمنعه سوى النوم من هذا الدعاء
( اللهم لا ريبة في عدلك ولا ضنة في كرمك ولا اعترض على قضائك وقدرك
ولا سخط على ابتلائك ومحنتك
اللهم انهم حرموني فلذة كبدي فلا تمنعي حظي من الموت
اللهم استرد اليك عاريتك التي اعريتنيها فقد عجزت عن حملها
وضقت بها ذرعا انك رءوف رحيم )

وهاأنذا اشعر بسحابة الموت تغشى بصري

و((إني مفارقة هذا العالم قبل أن القي على ابنتي نظرة أتزود بها منها قبل موتي))


بهذه العبارة أنهت ما شرعت به من شرح هذه المأساة
وكأنها تستشف الغيب من ستر رقيق
فوالله ما تنفس فجر اليوم السابع لعودتي بها وإدخالها المستشفى
إلا وقد لفظت أنفاسها
رحمها الله ولعن كل من له يدا في مأساتها
اللهم آمين


بقلمي / تركي بن مرزوق العوفي






التوقيع :
    رد مع اقتباس