روائع شعريه |
روائع الكسرات |
|
||||||||||
الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام [للنقاش الهادف والبناء والمواضيع الاسلامية والعامه] |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
24-01-17, 12:46 PM | #91 |
مثل نور المؤمن
قال الله: مَثَلُ نُورِهِ [النور:35] هذا تقريب كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35] والمشكاة هي الكوة التي في الجدار الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ [النور:35] وفي زماننا نطلق المصباح على الآلة كلها، وأما في لغة القرآن فالمصباح المراد به الفتيلة، وهذا ظاهر؛ لأن الله قال: الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [النور:35] والفتيلة تقع داخل الزجاجة. قال تعالى: الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النور:35] لصفائه ونقائه يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ [النور:35]، فالله يشهد أن هذه الشجرة مباركة، أي: كثيرة النفع زَيْتُونِةٍ [النور:35] وهذا بيان لنوع الشجرة؛ لأن الشجر المبارك كثير، فلما قال الله: زَيْتُونِةٍ [النور:35] عرفنا أنها شجرة الزيتون، وأهل التاريخ يقولون: إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان، ودعا لها بالبركة سبعون نبياً، وموطنها الأرض المقدسة في الأرض المباركة في موطن الأنبياء، فموطنها الأول في الشام. فالله يقول: هذا الزيت يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، والشجرة الشرقية هي التي لا تتعرض للشمس حالة الغروب، والغربية عكسها. وأما الشجرة التي تتعرض للشمس دائماً فهي التي لا تسمى شرقية ولا غربية، قال الله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [النور:35]. ثم قال الله: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] وخلاصة الأمر أن الكوة -المشكاة- هي قلب المؤمن، ويجتمع فيه نوران: نور الفطرة ونور الوحي والعلم من عند الله. ففطرته ظاهرة عليه، وهذا معنى قول الله جل وعلا: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [النور:35]، وقوله: نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35] هو نور العلم والوحي والإيمان، على نور الفطرة. قال تعالى: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] وذلك لئلا يقول قائل: إن الأمر واضح، فنحن سنهتدي إليه، فأخبر الله جل وعلا أنه ليس الأمر كذلك، وإن كان واضحاً جلياً، فقال: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] والإنسان ينبغي له أن يدرك أن المقصود لا يطلب إلا بالرب تبارك وتعالى. فهذا مجمل ما دلت عليه الآية. |
|
24-01-17, 12:48 PM | #92 |
ذكر تفسير للآية غير مقصود بها
وبعض أهل العلم بنحو منحىً آخر في تفسير الآية، فيعدل عن ظاهر القرآن، فيقول: إن المقصود بالنور النبي صلى الله عليه وسلم، وإن المشكاة هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإن قول الله جل وعلا: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور:35] المقصود به اليهود يصلون جهة المغرب، والنصارى يصلون جهة المشرق، فيقولون: قوله: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور:35] أي: لا يهودياً ولا نصرانياً، وإن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ هذا من الشجرة المباركة التي هي إبراهيم لكونه أباً لأكثر الأنبياء. وهذا القول من حيث معناه صحيح، فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس يهودياً ولا نصرانياً، وهو وارث إبراهيم ومتبعه، وهذا لا خلاف فيه، ولكن القول بأنه المقصود بالآية بعيد جداً، فلا بد من أن تكون هناك آلة متفق عليها في التعامل مع آيات الكتاب، ولا يحق لنا ولا لغيرنا أن نغير الآلة التي نتعامل بها في آيات الكتاب حتى نصل إلى مقصودنا، على أنه ينبغي أن يعلم أن المعاني أحياناً تكون صحيحة، ولكن الوصول إليها قد يكون بطريقة خاطئة، فلو أصاب إنسان في المعنى فلا يعني ذلك أنه أصاب في الطريقة التي يتوصل بها إلى المعنى. |
|
24-01-17, 12:49 PM | #93 |
حصول نور الله في قلب المؤمن
قال ربنا: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35] وقد بينا قضية المثل في القرآن، وأن الله جل وعلا ذكره في أكثر من آية من كتابه، ولما كانت الحاجة داعية إلى معرفة مظان هذا النور قال الله بعدها: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]. وبعض العلماء جعل قوله: فِي بُيُوتٍ [النور:36] معلقاً بالمشكاة، وتكلم عن المصابيح، ثم قال: إن هذا الكلام منتقض تاريخياً؛ لأن نسل النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه مصابيح، وهذا كله نرى أنه لا حاجة لنا إليه، فالآية تتكلم عن نور الهداية، ولهذا قال الله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] . فإذا كان الإنسان بعد ذلك قد رغب فيما عند الله وعلم أن الله هو الهادي حق له أن يبحث عن الأمكنة التي يجد فيها نفحات الله ونوره وهدايته، فقال الله جل وعلا: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36] وهي المساجد. وبعض العلماء يقولون: إن كلمة (بيوت) محصورة في المساجد الأربعة التي بناها الأنبياء، وهي المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي، ومسجد قباء. فهذه الأربعة بناها الأنبياء، والصواب أن يقال: إن الأمر على إطلاقه، فالمساجد كلها بيوت الله، سواء بناها الأنبياء أو بناها غيرهم. |
|
24-01-17, 12:50 PM | #94 |
عمارة المساجد بالبناء
قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] نبه الله جل وعلا على أمرين: عمارتها مادياً وعمارتها معنوياً. فعمارتها مادياً بتشييدها وبنائها وحفظها عما يضر بها. وعمارتها معنوياً بإقامة ذكر الله جل وعلا فيها، والثاني هنا أشرف من الأول، وفي كل خير، ففي الحديث: (من بنا لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة). وأول بيت وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى، وجدده -أي: المسجد الأقصى- سليمان بن داود عليه السلام، وتزعم إسرائيل اليوم أن تحته هيكل سليمان. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فدخل المدينة من جهة الجنوب بنى مسجد قباء في بني عمرو بن عوف، فكان أول مسجد أسس في الإسلام، ثم أتى بطن المدينة فبنى مسجده عليه الصلاة والسلام، ولم تكن تقام الجمعة إلا في المسجد النبوي، ثم جاءه عليه الصلاة والسلام وفد من الأحساء من هجر ثم ارتحلوا عنه، فصلوا الجمعة في محافظة في الأحساء تسمى جواثا. وكثير من الفقهاء على أن ثاني جمعة أقيمت في الإسلام أقيمت في جواثا، لأنه لم تكن تقام الجمعة إلا في المدينة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وأقيمت بعد ذلك في جواثا في الأحساء، وقد مررت بها، ولكن لم يتيسر لي أن أدخلها، وهي ديار علم وفضل، يقول أهلها يفتخرون: والمسجد الثالث الشرقي كان لنا والمنبران وفصل القول في الخطب أيام لا مسجداً لله نعرفه إلا بطيبة والمحجوج بالحجب يقصدون المسجد الحرام. والمقصود من هذا تفصيل تاريخي عام عن المساجد في الأرض، ثم بنيت لله جل وعلا مساجد في كل مكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً) وهذا دعوة صريحة صحيحة لأهل الخير والفضل للتسابق في بناء المساجد. |
|
24-01-17, 12:51 PM | #95 |
عمارة المساجد بذكر الله
وأما عمارتها شرعياً ودينياً، فأعظم ذلك إقامة ذكر الله جل وعلا فيها، وهذا الذي قال الله فيه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا [النور:36] جل جلاله بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36] أي: ينزهه عما لا يليق به، ويحمده الحمد الذي يستحقه، ويثني عليه أقوام ركع سجد، قال الله عنهم: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] . وكلمة (رجال) هنا -وإن جاءت نكرة- مخصوصة بالوصف الذي بعدها، فالجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات، وكلمة (رجال) نكرة، فجملة: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] وصف لكلمة (رجال) وقد قال بعض السلف -وينسب ذلك إلى ابن مسعود -: إن المقصود بالآية في المقام الأول أصحاب الأسواق. قال الله تعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] فما الفرق ما بين التجارة والبيع؟ إن التجارة هي العمل برءوس الأموال بحثاً عن ربح، فحين يقال: فلان تاجر عنده رأس مال فمعنى ذلك أن رأس ماله يتضاعف، أما البيع فهو أخص من التجارة، فلا يلزم كل أحد يبيع أن يريد ربحاً، فالإنسان قد تضطره مشاكله أحياناً إلى أن يبيع شيئاً غالياً نفيساً له عنده مقام أو ذكرى حميدة، فيبيعه بأقل من قيمته وهو لا يريد ربحاً، وإنما يريد مالاً. وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين فهذا هو الفرق بين التجارة والبيع. والمشهد يتحقق إذا رأيت أهل سوق، فإذا سمعوا المؤذن تركوا ما في أيديهم وتسابقوا إلى المسجد، وقد ورد أن ابن مسعود رأى أقواماً بهذه الصنيعة فقال: هؤلاء الذين عنى الله بقوله: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] . فالآية -وإن دخل فيها هؤلاء الرجال دخولاً أولياً، وهم أهل الأسواق- لا تمنع دخول غيرهم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وما عمرت المساجد لأكثر من أن يذكر الله جل وعلا فيها. والغدو والآصال وقتان، ولكن يظهر لي أنه ليس المقصود حقيقة الوقتين، وإنما المقصود جملة الآناء من أطراف الليل والنهار. |
|
24-01-17, 12:52 PM | #96 |
ذكر ما يجازى عليه بالإحسان من الأعمال
قال تعالى: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:37-38] . أعمال الناس على ثلاثة أقسام: عمل أذن الله به وأباحه ولم يأمر به، فهذا يسمى حسناً. وعمل أمر الله به وتعبد خلقه به، فهذا يسمى أحسن. وعمل نهى الله عنه وحرمه، فهذا يسمى قبيحاً مستهجناً. فإذا كان يوم القيامة جوزي العباد على الأحسن، وبهذا تفهم معنى قول الله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا [النور:38] ولا يأتين أحد فيقول: إن العبد يعمل عملاً حسناً وعملاً أحسن منه، فيكافئه الله على الأحسن، فهذا من غير أن يشعر نسب إلى الله الظلم، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، ولكن نقول: إن هذا الذي صنفناه على أنه أحسن هو في ذاته مراتب عدة. ولا يقتصر فضل الله على المجازاة على أعمالنا، بل قال الله: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النور:38] جاءت منصوبة لأنها معطوفة على الفعل (يجزي)، والفعل (يجزي) جاء منصوباً؛ لأنه مسبوق بلام التعليل. قال تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38]. هذا بيان لفضل الله الرب تبارك وتعالى، وأن الله جل وعلا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وقد تحرر معنا كثيراً أننا نقول: إن الله جل وعلا يقدم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله عن مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله. |
|
24-01-17, 12:53 PM | #97 |
خلاصة ما سبق تفسيره
وخلاصة هذا الدرس أنه سلف ذكر آيات أحكام تكلمت عن النكاح وأحكام المكاتبة، ثم بين الله جل وعلا بآية فصلت بين القضايا الفقهية والقضايا الإيمانية بأن الله أنزل الله هذا القرآن موعظة ومثلاً. ثم تكلم الرب جل وعلا عن نوره الذي ملأ أركان عرشه، ثم قرب هذا المثال للناس بشيء يرونه بين أيديهم وأذكر في هذا أن أبا تمام الشاعر العباسي المسمى حبيب بن أوس الطائي دخل على أحد الخلفاء فمدحه بقوله: إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس وهؤلاء كانوا من المشاهير في العرب فـأحنف في حلمه، وإياس القاضي في ذكائهـ وعمرو في شجاعته، وحاتم في كرمه، وأي إنسان يظهر في بلاط الأمراء يكون له حساد، فقام أحد الناس يحسد أبا تمام وقد أصبح له مكان عند الخليفة، فقال: إن الأمير أكبر وأشرف ممن ذكرت، تصف أمير المؤمنين بأجلاف العرب! ومن يستطيع أن يقول في مجلس الأمير: إن هؤلاء ليسوا أجلافاً؟! فقال أبو تمام في ساعته يدافع عن نفسه: لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والبأس فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس وهذه تدل على ذكائه، ويقولون: إن الطبيب الكندي كان حاضراً، فلما فتشوا في أوراق أبي تمام لم يجدوا فيها هذين البيتين، بمعنى أن أبا تمام ارتجلهما مباشرة ليدافع عن نفسه، فقال: هذا رجل سيأكل الذكاء دماغه. أو كلمة نحوها، فمات أبو تمام صغيراً في الأربعينات، فقد يكون هذا بسبب ذكائه كما يزعم هذا الطبيب، والأصل أنه بقدر الله، وقد يكون هناك أسباب أخرى لم يطلع عليها الطبيب. وأياً كان فقد تخلص أبو تمام هنا تخلصاً عظيماً. وإنك لتعجب ممن يأتيك أحياناً فيحاول أن يكتب شعراً، وهو لم يقرأ قرآناً ولا حديثاً ولا شعر العرب، فمن أين تأتي الدرر والمعلومات والألفاظ حتى تستطيع أن تحررها إلى أبيات؟ فهذا محال. فعدم الأخذ بأسباب الشيء يحول بينك وبين الوصول، والله يقول عن ذي القرنين: وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84]، فمن رام مجداً فلا بد له من أن يعلم أن لكل مجد طرائق وسبلاً توصل إليه، فيأخذ بها متوكلاً على الله جل وعلا ويرجو من الله التوفيق والسداد. وأقول: إن الله جل وعلا ذكر المساجد وحرمتها، وبين أن أعظم ما يمكن أن يقال فيها هو ذكر الله تبارك وتعالى، فطر الله قلبي وقلوبكم على توحيده، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. فهذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وفي الدرس القادم -بإذن الله تعالى- سنعرج على أعمال الذين كفروا، ثم نذكر ما ذكر الله جل وعلا من دلائل قدرته وجليل صنعته في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43]. نسأل الله التوفيق والسداد والعون والقبول، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين. |
|
01-02-17, 01:12 PM | #98 |
تضمنت سورة النور بيان مآل أعمال الكافرين، إذ لم يقترن بها إيمان بالله تعالى ينفعهم، وضرب الله تعالى لهم في ذلك مثلاً لكبرائهم وآخر للأتباع والمقلدين. كما تضمنت السورة بيان عظيم قدرة الله تعالى في سوق السحاب وإنزال المطر، وتقليب الليل والنهار، وخلق أنواع الدواب، مع ذكر إفراد الكائنات له تعالى بالتسبيح والتقديس الذي علمه تعالى وعلم غيره مما يفعلون.
|
|
01-02-17, 01:14 PM | #99 |
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ..)
بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده، ونستعنيه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيره، ولم يسع الناس غيره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله شرح الله له صدره، ورفع الله له ذكره، ووضع الله عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فنشرع في تكملة ما كنا قد بدأناه في الدرس الماضي في سورة النور، وكنا قد ذكرنا نعت الله جل وعلا لعباده المؤمنين، ووعده إياهم بقوله: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212]. وفي هذا الدرس سنشرع في تفسير آيات أخرى. يقول الرب تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]. هذا مثل ضربه الله جل وعلا لأعمال الكفار لبيان أنهم لا ينتفعون بها. فهؤلاء المشركون كفرة، ولكن لديهم قدرة في المجادلة، ومن مجادلتهم أنهم يقولون: نحن لم نعكف في بيوتنا، بل لدينا أصنام نعبدها، وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فإذا كان يوم القيامة سنجد حصيلة أعمالنا، فنحن نطعم كما تُطعمون، ونسقي كما تُسقون، ونفعل الخيرات، ونقوم بواجبات، فالله جل وعلا يصور حال تلك الأعمال التي اتكلوا عليها، فقال ربنا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39]. والقيعة: جمع لقاع، والقاع هو الأرض المنبسطة التي لم تعلها الجبال والآكام، فأصبحت واضحة مرئية، والسراب يسمى سراباً إذا لاح في أول النهار، وفي آخر النهار لا يسمى سراباً، بل يسمى (الآل)، والمعنى واحد، فهذا السراب يلوح لرائيه كأنه ماء، فإذا كان الرائي ظمآن فإنه سيتعطش للوصول إليه، ولهذا قال الله جل وعلا: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً [النور:39]. أما غير الظمآن فهو يراه سراباً كما يراه غيره، ولكن لعدم وجود تعلق به لا يلتفت إليه، ولا يعطيه كبير اهتمام، فلهذا قال الله جل وعلا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ [النور:39] أي: جاء إلى ما كان يعتقد أنه ماء (فلم يجده شيئاً) وليته خلص لا له ولا عليه، ولم يتكلف إلا المجيء، ولكن الله قال موبخاً لهم: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النور:39]، فهو يزعم أنه لا رب ولا إله، وأن هذه الأعمال هي التي تنفعه، فيفعل الكافر المشرك تلك الأعمال، حتى إذا كان يوم القيامة لم يجد تلك الأعمال، كمن كان يبحث عن السراب، ولكن من يبحث عن السراب غاية أمره أنه لم يجد شيئاً، وأما هذا فقال الله عنه: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النور:39] أي: يوم القيامة فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39] أي أن الله جل وعلا لا يبطئ في حسابه إذا ظهر مقتضاه، وحسابه قد وقته الله جل وعلا أن يكون في يوم موعود محدود، كما قال تعالى: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:104-105]. |
|
01-02-17, 07:52 PM | #100 |
تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي ...)
ثم قال ربنا: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:40]. (أو) حرف عطف بالاتفاق، ولكن هل هي للتنويع، أو للتخيير؟ والصواب أنها للتنويع، فإذا قلنا: إنها للتنويع فإنه لابد من إيجاد طرف ثان، فنقول: إن المثال الأول للأئمة من أهل الكفر، وأما المثال الثاني فلأتباعهم ومقلديهم. قال الله جل وعلا: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:40] وفي اللغة (لُجة): بضم اللام، وفيها (لَجة) بفتح اللام، واللجة: كثرة الأصوات وارتفاعها، ولا علاقة لها بالآية، وأما اللجة فهي معظم البحر، والبحر اللجي: هو البحر الكثير الماء البعيد القعر. قال تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ [النور:40] أي: ظلم وجهل وكفر وعناد، فمثالهم كرجل في قاع البحار ومن فوقه موج والفرق بين الموج واللجة أن اللجة هي البحر نفسه، وأما الموج فما يخرج عن البحر ويرتفع، وهو شهير ظاهر. قال ربنا: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [النور:40] وليست الظلمات في الموج والسحاب، وإنما هذا نظير مثال، فالظلمات هي كفره وجهله وعناده. |
|
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|