صور من حياة الصحابة 4-5 ( معاذ بن جبل ) رضي الله عنه + طلحة بن عبيدالله
[color="darkolivegreen"] 98"]
* لما أشرَقتْ جزيرة العرَبِ بنور الهُدى والحقِّ، كان الغلامُ اليثربيُّ ( نسبة إلى يثرب، وهي المدينة المنورة ) مُعاذ ابنُ جبلٍ فتىً يافعاً.
كان يَمتاز من أترابهِ بحِدَّة الذكاءِ، وقوةِ العارضةِ ( قوة البديهة ) وروعةِ البيانِ، وعُلوِّ الهمةِ.
وكان إلى ذلك، قسيماً وسيماً ( بهي الطلعة جميلُ الملامحِ ) أكحلَ العينِ جعدَ الشعرِ براقَ الثنايا، يَملأ عين مُجتليه ( الناظر إليه ) ويملكُ عليه فؤاده.
أسلمَ الفتى مُعاذ بنُ جبلٍ على يدي الداعيةِ المكيِّ مصعبِ بن عُميرٍ، وفي ليلة العقبة امتدت يدهُ الفتية فصافحتْ يدَ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وبايعته...
فقد كانَ مُعاذ مع الرهط ِالاثنينِ والسبعين الذين قصدوا مكةَ، لِيسعدوا بلقاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَشرفوا ببيعتهِ، ولِيخطوا في سفر التاريخِ أروع صفحةٍ وأزهاها...
* * *
- وما إن عاد الفتى من مكة إلى المدينةِ حتى كونَ هو ونفرٌ صغيرٌ من لدَاته جماعةً لكسرِ الأوثانِ، وانتزاعها من بُيوت المشركين في يثربَ في السرِّ أو في العلنِ. وكان من أثرِ حركةِ هؤلاء الفتيانِ الصّغار أن أسلمَ رجلٌ كبيرٌ من رجالاتِ يثرب، وهو عمرُو بنُ الجموح.
* * *
- ولما قدِم الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم على المدينةِ مهاجراً، لزِمَه الفتى معاذ بن جبلٍ مُلازمة الظلِّ لصاحبه، فأخَذ عنه القرآنَ، وتلقى عليه شرائِع الإسلام، حتى غدا من أقرأ الصحابة لكتاب الله، وأعلمِهم بشرعِه...
حدّثَ يزيدُ بنُ قطيبٍ قال: دخلتُ مسجد حمصَ فإذا أنا بفتىً جعد الشعرِ ( ذو شعر أجعد )، قد اجتمعَ حوله الناس.
فإذا تكلم كأنما يَخرجُ من فيه نورٌ ولؤلؤ.
فقلت: من هذا؟!
فقالوا: معاذ بنُ جبل.
* * *
- وروى أبو مسلم الخولانيُّ ( أحد كبار التابعين وهو من اليمن ) قال: أتيتُ مسجدَ دمشقَ؛ فإذا حلقة ( مجلس العلم، وكانوا يتحلقون في هذه المجالس حول الشيخ ) فيها كهولٌ من أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وإذا شابٌ فيهم أكحلُ العين براق الثنايا، كلما اختلفوا في شيءٍ ردُّوه إلى الفتى؛ فقلت لجليسٍ لي:
من هذا؟!
فقال: معاذ بنُ جبل.
* * *
- ولا غروَ ( لا عجب ) فمعاذ رُبِّيَ في مدرسةِ الرسول صلوات الله وسلامه عليه مُنذ نعومةِ الأظفارِ ( كناية عن صغر السن لأن الصغير تكون أظفاره ناعمة ) وتخرَّج على يديهِ فنهل العلمَ من ينابيعِه الغزيرة.
وأخذ المعرفة من معينها الأصيل، فكان خير تلميذٍ لخير مُعلمٍ.
وحسبُ معاذٍ شهادةً ( يكفيه شهادة ) أن يقولَ عنه الرسول صلوات الله عليه: ( أعلمُ أمّتي بالحلالِ والحرام مُعاذ بن جبلٍ )، وحسبُه فضلاً على أمة محمدٍ أنه كان أحَدَ النفر الستةِ الذين جمعُوا القرآن على عهدِ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
ولذا كان أصحابُ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تحدَّثوا وفيهم معاذ بن جبلٍ نظروا إليه هَيبة له وتعظيماً لِعلمه.
* * *
- وقد وَضعَ الرسولُ الكريمُ صلى الله عليه وسلم وصاحباهُ من بعدِه هذه الطاقة العلمية الفريدة في خدمةِ الإسلام والمُسلمين.
فهذا هُو النبيُّ عليه الصلاة والسلام يرى جُموع قريشٍ تدخُل في دين الله أفواجاً، بعد فتح مكة.
ويشعرُ بحاجة المُسلمين الجُدد إلى مُعلمٍ كبير يُعلمهمُ الإسلام، ويفقهُهم بشرائعهِ، فيعهدُ بخلافتهِ على مكة لِعتاب بن أسيدٍ، ويستبقي معهُ معاذ بن جبلٍ ليعلم الناس القرآن ويفقههُم في دينِ الله.
* * *
- ولما جاءَت رسلُ ملوك اليمنِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلنُ إسلامها وإسلامَ من ورائها، وتسأله أن يبعثَ معها من يُعلمُ الناس دينهم انتدَب لهذه المُهمة نفراً من الدُّعاة الهداة من أصحابه وأمّرَ عليهم معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه.
وقد خرجَ النبي الكريمُ صلوات الله وسلامه عليه يودعُ بَعثة الهدى والنور هذه...
وطفِق يمشي تحتَ راحلةِ معاذٍ... ومُعاذ راكبٌ...
وأطالَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مشيَه معه؛ حتى لكأنه كان يريدُ أن يتملى من معاذٍ...
ثم أوصاه وقال له: ( يا مُعاذ إنك عسى ألا تلقاني بعدَ عامي هذا... ولعلكَ أن تمُرَّ بمسجدي وقبري.. )
فبكى معاذ جزعاً لفراقِ نبيِّه وحبيبه محمدٍ صلوات الله عليه، وبكى معه المسلمون.
* * *
- وصَدقت نُبوءُة الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم فما اكتحلتْ عينا معاذٍ رضي الله عنه برؤيةِ النبي عليه الصلاة والسلام بعد تلك الساعة...
فقد فارقَ الرسولُ الكريمُ الحياة قبل أن يعودَ مُعاذ من اليمن.
ولا ريبَ في أن مُعاذاً بكى لمَّا عاد إلى المدينة فألفاها ( فوجدها ) قد أقفرَت من أنْسِ حبيبه رسول الله.
* * *
- ولما وليَ الخلافَة عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه؛ أرسلَ معاذاً إلى بني كِلابٍ ليقسم فيهم أعطياتهم، ويُوزع على فقرائِهم صدَقات أغنيائِهم، فقام بما عُهد إليه من أمرٍ، وعاد إلى زوجِه بحلسِهِ ( ما يوضع على ظهر الدابة تحت السرج ) الذي خرَج به يَلفه على رقبتهِ، فقالت له امرأته: أين ما جِئت به مما يأتي به الولاة من هديةٍ لأهليهم؟!.
فقال: لقد كان معي رقيبٌ يقظ يُحصي عليَّ ( يريد بالرقيب الله عز وجل على سبيل التورية )، فقالت: قد كنتَ أميناً عند رسول الله، وأبي بكرٍ، ثم جاء عمرُ فبعثَ معك رقيبا يُحصي عليك؟!!.
وأشاعَت ذلك في نِسوة عُمر، واشتكته لهُنَّ...
فبلغَ ذلك عُمر؛ فدعَا معاذاً وقال: أأنا بَعثتُ معكَ رقيباً يحصي عليك؟!
فقال: لا يا أميرَ المؤمنين، ولكنني لم أجِد شيئاً أعتذرُ به إليها إلا ذلك...
فضحِكَ عمرُ رضوان الله عليه، وأعطاه شيئاَ وقال له: أرضها به...
* * *
- وفي أيام الفاروق أرسلَ إليه والِيه على الشامِ يزيدُ بن أبي سُفيان يقول: يا أميرَ المؤمنين، إن أهلَ الشام قد كثرُوا وملؤوا المدائنَ، واحتاجُوا إلى من يُعلمهُم القرآن ويفقههُم بالدّين فأعنّي يا أميرَ المُؤمنين برجالٍ يُعلمونهم؛ فدعا النفرَ الخمسَة الذين جَمعوا القرآن الكريم في زمنِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام.
وهم: معاذ بنُ جبلٍ وعُبادة بنُ الصّامتِ وأبو أيوبَ الأنصاريُّ وأبيُّ بنُ كعبٍ وأبو الدَّرداء وقال لهم: إن إخوانكم من أهل الشامِ قد استعانوني بِمن يُعلمُهم القرآن ويفقهُهم في الدين فأعينوني رحمكم الله بثلاثةٍ منكم؛ فإن أحببتم فاقترعوا وإلا انتدبتُ ثلاثة منكم.
فقالوا: ولم نقترعُ؟
فأبو أيوبَ شيخ كبيرٌ، وأبيٌّ رجلٌ مريضٌ، وبقينا نحنُ الثلاثة، فقال عمر: ابدؤوا بحِمص فإذا رضيتم حال أهلِها؛ فخلفوا أحدكم فيها وليخرُج واحدٌ منكم إلى ذلك، والآخرُ إلى فلسطين.
فقام أصحابُ رسول الله الثلاثة بما أمَرهم به الفاروقُ في حمصَ...
ثم تركوا فيها عُبادة بن الصامتِ، وذهبَ أبو الدرداء إلى دمشقَ ومضى معاذ بنُ جبلٍ إلى فلسطينَ.
* * *
- وهناك أصيبَ معاذ بالوباء.
فلما حضرَته الوفاة استقبلَ القبلة وجعلَ يردّدُ هذا النشيد :
مرحباً بالموت مرحباً...
زائرٌ جاءَ بعد غياب...
وحبيب وَفدَ على شوْق...
ثم جعل ينظر إلى السماء ويقول: اللهُم إنك كنت تعلمُ أني لم أكن أحبُّ الدنيا وطولَ البقاءِ فيها لغرسِ الأشجار، وجريِ الأنهارِ...
ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدةِ الساعات، ومزاحمة العلماءِ بالرُّكب عند حلق الذكر...
اللهمَّ فتقبل نفسِي بخير ما تتقبلُ به نفساً مؤمنة.
ثم فاضت روحُه الطاهرة بعيداً عن الأهل والعشيرِ داعياً إلى الله، مهاجراً في سبيله.
طلحة بن عبيدالله
* كان طلحَة بنُ عبيدِ الله التميميُّ يَمضي مع قافِلةٍ من قوافِلِ قريشٍ في تجارةٍ له إلى بلادِ الشامِ، فلمَّا بلغتِ القافلة مدينة بُصرى ( مدينة في الشام، وهي الآن من محافظة حوران في سورية )، هبَّ الشيوخ من تجارِ قريشٍ إلى سُوقها العامرةِ يبيعونَ ويَشترون.
وعلى الرغمِ من أنَّ طلحةَ كان شاباً حدثاً ( صغير السن ) ليسَ له مثلُ خبرتِهم في التجارة، إلا أنّه كان يَملكُ من حدّة الذكاءِ ونفاذِ البصيرةِ ما يُتيحُ له مُنافستهم، والفوزَ من دونهم بأفضلِ الصَّفقاتِ.
وفيما كان طلحة يروحُ ويَغدو في السّوق التي تموجُ بالوافدينَ عليها مِن كلِّ مكان، حدثَ له أمرٌ لم يكنْ سبباً في تغيير مجرى حياتِه كلها فَحسبُ....
وإنّما كان بشيراً بتغيير سَيرِ التاريخِ كله...
فلنترُكِ الكلامَ لطلحَة بنِ عُبيد الله ليرويَ لنا قِصته المُثيرةَ.
- قال طلحَة: بينما نحنُ في سوقِ بُصرى، إذا راهبٌ ( رجل الدين عند النصارى ) يُنادي في الناسِ:
يا مَعشرَ التُّجار، سَلوا أهلَ هذا الموسِم ( مجتمع الناس للحج أو للبيع والشراء )، أفيهم أحدٌ من أهلِ الحَرَم ( أهل مكة؟ ).
وكنتُ قريباً منه فبادرتُ إليه وقلتُ: نعم أنا مِن أهلِ الحَرَم.
فقال: هَل ظهرَ فيكمْ أحمدُ؟
فقلت: ومَن أحمدُ؟ !
فقال: ابنُ عبدِ الله بنِ عبدِ المطلبِ....
وهذا شهرُه الذي يظهَرُ فيه...
وهو آخِرُ الأنبياءِ...
يخرجُ من أرضِكم من الحَرَم، ويُهاجرُ إلى أرضٍ ذات حجارةٍ سُودٍ، ونخيلٍ وسباخٍ ( أرض فيها نزِّ وملح ) يَنزُّ ( يتحلبُ ) منها الماءُ...
فإياك أن تسبقَ إليه يا فتى.
قال طلحة: فوقعَتْ مقالته في قلبي، فبادرتُ إلى مطاياي ( جمالي ) فرَحلتها ( وضعت عليها رحالها استعدادا للسفر ) ، وخَلفتُ القافِلةَ ورائِي، ومَضيتُ أهوِي هويّاً ( اندفع مسرعاً ) إلى مكةَ.
فلما بلغتهَا؛ قلت لأهلي: أكان مِن حدثٍ بَعدَنا في مكة؟
قالوا: نعم، قامَ محمدُ بنُ عبدِ الله، يزعمُ أنّه نبيُّ، وقد تبِعهُ ابنُ أبي قحافة ( يريدون أبا بكر ).
قال طلحة: وكنتُ أعرفُ أبا بكرٍ، فقد كان رجُلاً سهلاً محبَّباً مُوَطأ الأكنافِ ( لين الجانب )..
وكان تاجراً ذا خلقٍ واستقامةٍ، وكنّا نألفه، ونحبُّ مجالِسه، لِعلمِه بأخبَار قريشٍ، وحِفظهِ لأنسابها.
فمضيتُ إليه وقلتُ له: أحَقا ما يُقالُ مِن أنَّ محمَّدَ بنَ عبدِ الله أظهرَ النبوةَ، وأنكَ اتبعته؟!
قال: نعم... وجَعل يقصُّ عليَّ من خبره، ويُرغبُني في الدُّخول معه، فأخبرته خبر الرّاهبِ، فدهِش له وقال: هَلمَّ ( امض ) معِي على محمدٍ صلى الله عليه وسلم لتقصَّ عليه خبرَكَ، ولتِسمعَ ما يقول... ولِتدخل في دين الله...
قال طلحة: فمضَيتُ معه إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم فعرضَ عليَّ الإسلامَ، وقرأ عليَّ شيئاً من القرآن، وبَشرَني بخيري الدُّنيا والآخرةِ.
فشرحَ الله صدرِي إلى الإسلامِ، وقصَصتُ عليهِ قصةَ راهِبِ بُصرى فَسُرَّ بها سُروراً بَدا على وجهه...
ثم أعلنتُ بينَ يديهِ شهادةَ أنْ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله...
فكنتُ رابعَ ثلاثةٍ أسلموا على يَدي أبي بكر.
* * *
- ووقعَ إسلامُ الفتى القرشِي على أهلهِ وذويه وقع الصاعقةِ.
وكان أشدّهم جزعاً ( حزناً وهلعاً ) لإسلامه أمهُ؛ فقد كانت ترجو أن يسودَ قومَه لما يَتمتعُ به من كريم الشمائلِ وجليلِ الخصائل.....
* * *
- وقد بادَرَ إليه قومُه لِيثنوه عن دينهِ فوجدوه كالطودِ ( الجبل العظيم ) الراسخِ الذي لا يَتزعزعُ.
فلمَّا يئسوا من إقناعِه بالحُسنى لجَؤوا إلى تعذيبهِ والتنكيلِ به...
حَدثَ مسعودُ بنُ خراشٍ قال: بينما كنت أسعى بينَ الصفا والمروةِ ( مشعران من مشاعر الحج يسعى الحجاج المعتمرون بينهما ) ، إذا أناسٌ كثيرٌ يَتبعُونَ فتىً أوثِقت يداه ( كتفت يداه وربطتا ) إلى عُنقهِ... وهم يُهرولون وراءه، ويدفعونه في ظهرِه، ويضربونه على رأسه...
وخلفه امرأةٌ عجوز تسُبه وتصيحُ به...
فقلت: ما شأنُ ( ما أمره وخبره ) هذا الفتى؟!
فقالوا: هذا طلحَة بنُ عبيد الله ، صَبأ ( رَجعَ ) عن دينه، وتبع غلامَ بني هاشم...
فقلت: ومن هذه العجوز التي وراءه؟
فقالوا: هي الصَّعبة بنتُ الحضرميِّ أمُّ الفتى...
* * *
- ثم إنَّ نوفلَ بن خويلدٍ المُلقبَ بأسدِ قريشٍ، قام إلى طلحة بن عبيد الله فأوثقه في حبلٍ، وأوثق معهُ أبا بكرٍ الصدّيق، وقرَنهما معاً وأسلمهُما إلى سُفهاءِ مكة، ليذيقوهما أشدّ العذابِ...
لذلك دُعي طلحَة بنُ عبيد الله وأبو بكرٍ الصديقُ بالقرينيْن.
* * *
- ثم جعلتِ الأيام تدورُ، والأحداثُ تتلاحقُ، وطلحة بن عبيد الله يزدادُ مع الأيام اكتمالاً، وبلاؤه في سبيلِ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يكبرُ ويَتعاظمُ، وبِره بالإسلامِ والمسلمين ينمو ويتسعُ، حتى أطلق عليه المُسلمون لقبَ الشهيدِ الحيِّ ودعاه الرسولُ عليه الصلاة والسلام بطلحةِ الخيرِ، وطلحةِ الجودِ، وطلحةِ الفيَّاض.
ولكلٍّ من هذه الألقاب قصة لا تقلُّ روعة عن أخواتها.
* * *
- أما قِصة تلقيبهِ بالشهيدِ الحيِّ فكانتْ يومَ أحُدٍ حين انهزمَ المُسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق معه غيرُ أحدَ عشرَ رجُلا من الأنصارِ وطلحة بن عبيد الله من المهاجرين.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يصعدُ هو ومنْ معه الجبلِ، فلحقتْ به عُصبة من المشركين تريدُ قتله.
فقال عليه الصلاة والسلام: ( من يرُدُّ عنا هؤلاءِ وهو رفيقي في الجنَّةِ؟ ).
فقال طلحة: أنا يا رسول الله.
فقال عليه الصلاة والسلامُ: ( لا، مكانَك "إلزم مكانك").
فقال رجلٌ من الأنصار: أنا يا رسول الله.
فقال: ( نعم، أنتَ ).
فقاتَلَ الأنصاريَّ حتى قتلَ، ثم صعدَ الرسولُ عليه الصلاة والسلامُ بمنْ معه فلحقه المشركون، فقال: ( ألا رَجلٌ لهؤلاءِ؟! ).
فقال طلحة: أنا يا رسول الله.
فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا، مكانكَ ).
فقال رجلٌ من الأنصار: أنا يا رسول الله.
فقال: ( نعم، أنتَ )، ثم قاتل الأنصاريُّ حتى قتل أيضاً.
* * *
- وتابع الرسولُ صعودهُ، فلحقَ به المشركون، فلم يزل يقولُ مثل قوله، ويقولُ طلحة: أنا يا رسول الله، فيمنعُه النبيُّ، ويأذنُ لرجلٍ من الأنصارِ حتى استشهدوا جميعاً، ولم يبقَ معه إلا طلحة فلحق به المشركون، فقال لطلحة: ( الآن، نعم....).
وكان الرسولُ عليه الصلاة والسلام قد كسِرت رباعيَّته ( سنه التي بين الناب والثنية ) وشجَّ جبينُه، وجُرحتْ شفته، وسال الدمُ من وجههِ، وأصابه الإعياءُ ( التعب ) فجَعلَ طلحة يكرُّ ( يهجم ) على المُشركين حتى يدفعهم عن سول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينقلبُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيرقى به قليلاً في الجبل، ثم يسندُه إلى الأرضِ، ويكرُّ على المشركين من جديدٍ...
ومازال كذلك حتى صَدَّهم عنه...
قال أبو بكر: وكنتُ آنئذٍ أنا وأبو عبيدة بنُ الجراحِ بعيدين عن رسول الله، فلما أقبلنا عليه نريدُ إسعافه قال: ( أترُكاني وانصرِفا إلى صاحِبكما )، يُريدَ طلحَة.
فإذا طلحة تنزفُ دماؤه، وفيه بضعٌ وسبعون ضربةً بسيف أو طعنة برمحٍ أو رمية بِسهم...
وإذا هو قد قطِعت كفّه، وسقط في حُفرةٍ مغشيا عليه....
فكان الرسولِ عليه الصلاةُ والسلام يقول بعد ذلك: ( من سَره أن يَنظرَ إلى رجُلٍ يمشي على الأرض، قد قضَى نحبه فليَنظرْ إلى طلحة بنِ عُبيد الله ).
وكان الصدِّيقُ رضوانُ الله عليه إذا ذكر أحدٌ يقول: ذلكَ يومٌ كله لطلحة...
* * *
- هذه هي قصة نعتِ طلحة بن عبيدِ الله بالشهيدِ الحيِّ، أما تلقيبُه بطلحةِ الخير وطلحةِ الجودِ فله مائة قِصةٍ وقصة...
من ذلك أنَّ طلحة كان تاجراً واسع التجارةِ عظيمَ الثراءِ، فجاءَه ذات يومٍ مالٌ من حَضرمَوْتَ مقدارُه سبعمائةِ ألفِ درهمٍ، فبَاتَ ليلته وَجلاً ( خائفاً ) جزعاً محزوناً.
فدخلتْ عليه زوجته أم كلثوم بنتُ أبي بكرٍ الصديق وقالت: ما بك يا أبا محمد؟!!
لعَله رابَكَ ( أصابك وساءك ) منا شيءٌ !!
فقال: لا، ولنِعمَ حَليلة ( الزوجة ) الرجُل المُسلم أنتِ...
ولكن تفكرتُ منذ الليلةِ وقلتُ: ما ظنُّ رجلٍ بِربّه إذا كان ينامُ وهذا المال في بيته؟!
قالت: وما يُغمُّك ( يهمك ويدخل عليك الغم ) منه؟!
أينَ أنتَ من المحتاجين من قومك وأخلائِك؟!
فإذا أصبحتَ فقسِّمه بينهم.
فقال: رَحِمَك الله، إنك مُوفقة بنتُ موفقٍ....
فلما أصبحَ جعلَ المالَ في صُررٍ وجِفانٍ ( جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة ) وقسمَه بين فقراءِ المهاجرين والأنصارِ.
ورُوي أيضاً أنّ رجُلاً جاء إلى طلحة بن عُبيد الله يطلبُ رفدَه ( معونته وعطاءه ) وذكرَ له رحماً تربُطه به، فقال طلحة: هذا رحِمٌ ما ذكرها لي أحدٌ من قبلُ.
وإنَّ لي أرضاً دفعَ لي فيها عثمانُ بن عفانَ ثلاثمائةِ ألفٍ....
فإن شئتَ خُذها وإن شئت بِعتها لك مِنه بثلاثمائةِ ألفٍ، وأعطيتك الثمنَ، فقال الرجلُ: بَلْ آخذ ثمنَهَا...
فأعطاه إيَّاه...
* * *
- هنيئاً لطلحة الخيرِ والجودِ هذا اللقبُ الذي خلعُه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورضي الله عنه ونورَ له في قبره