إبطال الإسلام لقضية التبني
ثم قال الله جل وعلا: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4] الدعي: هو من ينسب إلى غير أبيه، ويجمع على: أدعياء باعتبار أنه دعي على فعيل بمعنى: مفعول، يعني: متبنى، وقد ثبت في الصحيحين وفي غيرهما من حديث ابن عمر : (أنا كنا لا ندعو زيد بن حارثة إلا بـزيد بن محمد صلى الله عليه وسلم، فلما أنزل الله جل وعلا ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5] قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أي: قال لـزيد : أنت زيد بن حارثة بن شراحيل) فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وسمى زيداً باسمه الحقيقي، فكان عليه الصلاة والسلام -وهو في كل أمر كذلك- أول من امتثل أمر الله في هذه الآية خاصة، قال الله جل وعلا: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4]؛ لأن ما بعدها: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5] وسيأتي هذا.
وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4] فلا يمكن أن يجتمع العارض مع الأصل، ولا يمكن أن يكون الابن ابناً لاثنين، فهو ابن لرجل واحد، وهذا كان مترسماً في الجاهلية، فـالخطاب أبو عمر بن الخطاب تبنى عامراً بن ربيعة ، وحذيفة تبنى سالماً ، ووقع هذا في كثير من البيوت القرشية وغير القرشية، ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة ، لكن التبني في الغالب يكون ردة فعل لإحسان يقوم به الابن، فلا يعقل أن أحداً يأتي لأحدٍ من الناس فيتبناه، لا بد من شيء وجده في هذا الابن، إما فلاح ظاهر فيتبناه ليستفيد منه، وإما محبة قلبية أو جميل صنعه له فيريد أن يكافئه عليه.
وزيد هذا رضي الله عنه وأرضاه اشتراه حكيم بن حزام ، ومر معنا أن حكيماً بن حزام هذا ابن أخ خديجة بنت خويلد ، وكانت خديجة قد أوصته أن يشتري لها غلاماً ظريفاً، فاشترى زيداً بن حارثة فكان مملوكاً، وكان في طيء وهم أخواله، فأهدته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما عرف أبوه وعمه أنه في يد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، والقصة شهيرة، جاءوا إلى مكة فاختار زيد النبي عليه الصلاة والسلام عليهم، ولم يكن يوم ذاك عليه الصلاة والسلام قد بعث ولا نبئ.
فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الفتى يختاره على أبيه وعمه وإخوانه أكبره، فقام خطيباً في الناس وقال: أشهدكم أن زيداً ابني يرثني وأرثه؛ حتى تقر أعين من كان معه من عصبته وأبيه وأعمامه وإخوانه.
فأصبح من ذلك اليوم لا يعرف إلا بـزيد بن محمد ، وقد عوضه الله عن هذا الشرف الذي نزع منه بأن ذكر اسمه في القرآن كما سيأتي في نفس السورة، فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا [الأحزاب:37]، وهذا حررناه مراراً وتكراراً في دروسنا، لكن نعيده؛ لأن المقام يقتضيه.
قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [الأحزاب:4]، وقبل أن نتجاوزها فقد جاء التغليظ الشديد في أن ينتسب الإنسان لغير أبيه؛ حتى جاء فيه التكفير، وإن كان ظاهر الأمر أنه كفر لا يخرج من الملة، مما يقال فيه هنا كفر، لكن أحياناً -وهذا استطراد تاريخي- أحياناً تأتي خطوب على أحد من الناس فيغير؛ فهذا عمران بن حطان الخارجي خرج يبحث عن نفسه، يعني: يبحث عن موطن ومأوى في القرى والبوادي، فكان من ذكائه وفطنته أنه كلما دخل بيتاً، أو نزل على وادٍ أو نزل على قوم، أو عشيرة ينتسب لهم انتساباً من كثرة معرفته بأخبار الناس وأنسابهم لا يعادونه ولا يعرفونه، وهذا يحتاج إلى ثقافة كبيرة جداً، فنزل ذات يومٍ على روح بن زنباع ، وكان روح بن زنباع يمنياً، والعرب تنقسم إلى: قحطانيين يمنيين، وعدنانيين من شمال الجزيرة.
وكان روح بن زنباع يجلس عند عبد الملك بن مروان ، وكان عمران يجلس معه، فانتسب له أنه من اليمن، فكان عبد الملك يأتي بأخبار وآثار فيقولها لـعمران ، وهو لا يدري أنه عمران ، فـعمران ما أن يبدأ روح بالخبر إلا ويزيده، ويأتيه بأصله، ويفصله له فيتعجب، فيعود إلى عبد الملك ويخبره، فيتعجب عبد الملك ، وعبد الملك ليس قليلاً في ثقافته، فيقول له: إن اللغة عدنانية، يعني: أن الذي يخاطبك عدناني وليس يمنياً، ثم إنهم ذات يومٍ في مجلس عبد الملك تحاوروا حول بيت يقول:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً
إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً
وهي لـعمران ، لكن جلساء عبد الملك لم يعرفوا من القائل، فقال عبد الملك لـروح بن زنباع : سل جليسك عن هذه الأبيات؟ فسأله فقال: هي لـعمران بن حطان يهجو علياً بن أبي طالب ، ويمدح قاتله، فذهب وأخبره الخبر، فلما أخبره الخبر قال له: هو عمران بن حطان ، فاطلبه إليّ، فلما عاد إليه قال له: إن أمير المؤمنين يريد أن يراك، فتظاهر بالموافقة وقال: وأنا كذلك أريد أن أراه، لكني كنت أستحي أن أطلب منك هذا الطلب، فاذهب وأنا وراءك، فذهب روح إلى عبد الملك ، فلما وصل إليه وأخبره الخبر، قال له عبد الملك وكان فطناً: والله! لن يأتي، وستعود ولن تجده، فعاد ولم يجده، ووجد رقعة فيها أبيات لا يتسع وقت البرنامج لإلقائها، لكن لعلنا في اللقاء القادم نبدأ بالقصة، ونذكر الأبيات.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.