تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم..)
قال الله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] الخطاب هنا لأهل الكتاب عامة وللمسلمين.
أما توجيه الخطاب لليهود فيكون: لأحفادهم وأسباطهم من بني إسرائيل أي: أن قرابتكم بأولئك الأخيار لا تنفعكم إن لم يصحبها عمل، وتوجيه الخطاب إليهم وإلى غيرهم يكون المعنى: إذا كان الله جل وعلا في حق أولئك الأخيار العظيمي الشأن أجرى عليهم ما كسبوا وأجرى عليهم ما اكتسبوا فمن باب أولى من كان غيرهم يكتب له ما كسب ويكتب عليه ما اكتسب، قال الله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] .
وإن من آفة العلم أن ينشغل الإنسان في أول أمره بالنقد، والانشغال بالنقد في أول طلب العلم أعظم آفاته.
في زمن العلامة الألباني رحمة الله تعالى عليه ظهر بعض علماء الحديث وهم فتية تتلمذوا على يد شيخ وكلهم أخيار، لكن أولئك الفتية أول ما بدءوا يطلبون علم الحديث لجئوا إلى ما صنفه الألباني وحكم عليه بالصحة فأخذوا يجربون قضية نقده، فكشفوا عن عوار شديد فيهم؛ لأنهم لم يصلوا إلى مرحلة الشيخ، واختطوا طريقاً، واعتلوا هرماً لم يرتقوا درجاته.
فمن جملة ما كتبه الشيخ رحمه الله تعالى آنذاك أنه عاتبهم على هذا الصنيع وعاتب شيخهم وقال: لو أشغلوا أنفسهم في تحرير مسائل علمية تنفع الناس خير لهم من أن يبدءوا الطريق بالنقد.
وتفصيل المسألة حتى ينتفع من يسمع: قد تكون أنت في أول الطلب، فتسمع من شيخ رأياً أنت قد سمعت من شيخ لك آخر رأياً مخالفاً، فلا يلبث أحدنا أن يصنع إذا غلب عليه حماسه دون عقله وعلمه أن يذهب ويحرر في الرد عليه، ولا يمكن أن يرد الإنسان وينتقد إلا إذا بلغ مرحلتين:
أن يعرف أدلة الفريقين تماماً، ثم يملك آلة علمية في الترجيح بينهما، فإذا عرف أدلة الفريقين ثم ملك آلة الترجيح حق له بعد ذلك أن يخاطب ويراسل ويكتب.
وغالب من يكون في أول الطريق يجهل ذلك كله، وقد مر معنا كثيراً أن الإنسان إذا تصدر في شيء لا يحسنه إنما يكشف عن عورته.
قول الله جل وعلا: وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] فيها تربية ربانية؛ لأن الإنسان إذا انشغل بما لا يسأل عنه معنى ذلك التفريط فيما يسأل عنه، وقد كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله تعالى عليه عندنا في المدينة، وكان في الحرم يدرس، ووافقت تلك الأيام موت زعيم عربي مشهور لكنه غير محمود السيرة، وهو شخصية جدلية الناس فيها بين مادح وناقد.
فعندما كان الشيخ في طيات الحديث يقول ما ينفع الناس قام أحد الحاضرين في الحلقة وقال: يا شيخ! مات فلان، ما تعليقكم؟ فسكت الشيخ عله أن يكون في ذلك تأديباً للسائل واستمر في حديثه، فأعاد الطالب أو الحاضر السؤال فسكت الشيخ، فرددها ظناً منه أن الشيخ لم يسمع، فأشار الشيخ بيده هكذا أن اسكت لأن الشيخ لا يبصر في الجهة التي حصل منها الصوت ثم قال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] ثم أكمل حديثه.
وهذه منزلة في التربية والعلم؛ لأن الإنسان إذا بلغ مرحلة متقدمة في العلم فتصبح رقاب الناس في ذمته، لا رقبته في ذمة الناس، فهو الموكل بأن يقودهم إلى الخير لا أن يقوده من حوله ممن حضروا أصلاً لينتفعوا منه، فلا يقودوه هم إلى حيث شاءوا، فإذا قادك من هو أدنى منك فلن يقودك إلا إلى السوء، وعلى أهل العلم أن يتصدروا لينفعوا الناس، لأنه إن لم يتصدر أهل العلم ويقودوا الناس بطريقة ربانية وصبغة إلهية إلى ما ينفعهم تصدر من لا يحسن شيئاً فهلك الناس، وقد قيل:
إذا كان الغراب دليل قوم دلهم على جيف الكلاب