الحمدُ لله فاطرِ الأرض والسموات . عالم الأسرار والخفيات . المطلع على الضمائر والنيات .
أحاط بكل شيء علماً ، ووسع كل شيء رحمة وحلماً . وقهر كل مخلوق عزة وحكماً ، يعلم ما
بين أيديهم وما خلفَهم ولا يحيطون به علماً . لا تدركه الأبصار ، ولا تغيره الدهور والأعصار ،
ولا تتوهّمه الظنون والأفكار . وكل شيء عنده بمقدار ، أتقن كلَّ ما صنعه وأحكمه ، وأحصى
كلَّ شيء وقدره وخلق الإنسان وعلّمه .... وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من
عرف الحق والتزامه .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صدع بالحق وأسمعه ، اللهم
صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من نصره وكرمه . وسلم تسليماً كثيراً أمَّا بَعْــــــــد
عبــاد الله :- إن الإنسان بطبيعته البشرية يتمنى تحقيق رغبات والوصول إلى غايات خلال مسيرة حياته وكلما تحققت له رغبة أو وصل إلى غاية ظهرت أخرى ولا تنقضي ولا تنتهي ويستمر الصراع بين هذه النفس البشرية وبين طموحاتها وأمنياتها وشهواتها فيصل الإنسان إلى تحقيق بعضها أحياناً ويعجز أحياناً وقد تختلف هذه الأمنيات من حيث أهميتها وفضلها وأثرها ومن حيث أنها حق أو باطل أو خير أو شر ولذلك فإن الإسلام رغم أنه ترك للإنسان حرية التفكير والأمنيات والوصول إلى تحقيق الرغبات مهما كانت إلا أنه وضح الطريق الصحيح التي ينبغي أن يسلكها المرء لتحقيق أمنياته وربطها بالغايات السامية والقيم النبيلة التي تعمر الدنيا وتبني الآخرة وينال بها العبد رضوان الله ومغفرته وجنته .. فهناك من يتمنى أن يكون غنياً ذا مال لينفق على نفسه وأهله ويؤدي حق الله فيه ويقدم النفع لمن حوله وهناك من يتمنى أن يكون غنياً ليحقق شهواته ولا يؤدي حق الله فيه وربما ارتكب بسببه الظلم والعدوان على الناس من حوله وربما دفعه هذا المال إلى الكبر والشح والغرور وهكذا في كل الأمنيات والرغبات.. وشتان بين هذا وذاك و الله عز وجل يقول: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء 18-21) .. وقال تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ )(آل عمران 145).. وعن أَبُي كَبْشَةَ الأَنْمَارِيُّ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ : عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً ، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ ، يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا ، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا ، فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ.)(رواه التِّرمِذي وصححه الألباني 2325 ) .. ولقد وقف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً مع أصحاب النبي صل الله عليه وآله وسلم ينظر في أمنياتهم فَقَالَ: لَهُمْ: تَمَنَّوْا؟ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ عُمَرُ: تَمَنَّوْا؟ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ لُؤْلُؤًا وَجَوْهَرًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَلَكِنِّي أَتَمَنَّى رِجَالًا مِلْءَ هَذِهِ الدَّارِ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ وَمُعَاذ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، أَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَةِ اللهِ...) .. إنها أمنيات حقيقية ذات رسالة وهدف مرتبطة بسلوك المسلم وعقيدته ودينه ودنياه وآخرته وأما أمنياتنا اليوم فكثير منها سراب لأنها مرتبطة بمتاع الدنيا وحظوظ النفس وشهواتها .. يتمنى المرء الأموال والعقار والمناصب والأتباع ورغد العيش والأولاد وهذا من حقه ولا يحرم الإسلام ذلك لكن يبدأ الإنحراف عن طريق الحق والخير والصلاح ويحدث الفساد في الأرض بسبب سوء النية والمقصد وسوء العمل.
أيها المؤمنون /عبــاد الله :- إن الإنسان الذي لا يربط سلوكه وأعماله وأمنياته بما يحبه الله ويرضاه ويقصد من ذلك إقامة الحق وعمارة الأرض وإصلاح النفس .. الذي لا يعمل ذلك لا يمكن أن تشبع نفسه ولا يمكن أن يجد الراحة حتى وإن وصل إلى مبتغاه ولا يهمه أي طريق يسلك ، حق أم باطل ، خير أم شر ، حلال أم حرام .. فترتكب الآثام وتتضاعف الأوزار ويحرم الأجر ورضا الرب سبحانه وتعالى ولذلك عندما أعطى الله قارون تلك الأموال والكنوز العظيمة انقسم الناس في أمنياتهم ورغباتهم وهم ينظرون إلى هذه الأموال والكنوز التي تبهر العقول قال تعالى (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ )(القصص79-82) .. نعم هناك من يتمنى أي متاع في هذه الدنيا وليس له من الآخرة أي حظ أو نصيب .. يتمنى أن يكون موظف أو مدير أو وزير أو صاحب جاه ومركز اجتماعي لا ليخدم مجتمعه وأمته ويساهم في تحسين الأوضاع ومحاربة الفساد ولكن ليصل من خلال هذه الأمنية إلى مال وفير وبيت ضخم وسيارة فارهة كما يراها فيمن سبقة ولا غبار عليه إن جاءت هذه الأمور عن طريق الحلال والكد والعمل والإبداع .. لقد وجدنا من الآباء من يقول لأبنه الموظف الذي يتق الله في عمله لماذا لا تكون مثل فلان بن فلان فعنده أرض وبيت ورصيد وسيارة وكيف أنه رجل استطاع أن يدبر أموره ويمشي حاله .. وأنت لا تملك شيء وكأنه يريد منه أن يصل إلى مستواه ولو عن طريق الغش والرشوة والتحايل والتزوير إن أمكن ذلك .. هل فكر بمصالح الأمة و