الموضوع: من مروج الذهب
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-17, 04:20 AM   #32
عضو فضي
 
الصورة الرمزية طلق المحيا

 











 

طلق المحيا غير متواجد حالياً

طلق المحيا تم تعطيل التقييم

افتراضي

حكي أن عمرَو بنَ مسعدة وزيرَ المعتصم قال : لما خرج المعتصم من بلاد الروم , وصار بناحية الرقة , قال لي : ويلَك , يا عمرُو ! لم تزل تخدعني حتى ولَّيتُ عُمر بن الفرج الرُّخَّجي الأهوازَ , وقد قعد في سُرَّة الدنيا , يأكلها خضْماً وقضْماً . فقلت : يا أمير المؤمنين , فأنا أبعث إليه حتى يُؤْخَذ بالأموال , ولو على أجنِحة الطير . قال : كلا بل تخرج إليه بنفسك, كما أشرت به . فقلت لنفسي : إن هذه منزلةٌ خسيسة , بعد الوزارة أكون مستحثاً لعامل خراج ! ولم أجد بداً من الخروج , رضاً لأمير المؤمنين , فقلت : هأنا خارج إليه بنفسي , يا أمير المؤمنين . قال : فضع يدك على رأسك , واحلفْ أنّك لا تقيم ببغداد . ففعلت وأحدثت عهداً بإخواني ومنزلي , وأُتيَ إليَّ بزورق ففُرش لي فيه , ومضيتُ حتى إذا صرتُ بين دير هرقل ودير العاقول إذا شاب على الشطِّ يقول : يا ملّاحُ , رجلٌ غريب يريد دير العاقول , فاحملني , يأجرك الله . فقلت : يا غلام , قرِّبْ له . فقال : جُعلتُ فداك ! يؤذيك ويضيِّق عليك . فقلت : قرِّب له , لا أمَّ لك ! فقرَّب له وحمله على مُؤْخِر الزّورق . وحضَر الطعامُ , فهممت ألا أدعوَه إلى طعامي , ثم قلت : هلمَّ , يا فتى , فوثب وجلس , فأكل أكْل جائع نَهِم , إلا أنه نظيف الأكل . فلما فرغ من الطعام أحببتُ أن يفعل ما يفعل العوامُّ فيتنحى ويغسلَ يديه ناحية , فلم يفعل . فغمزه الغلمان ليقوم , فلم يفعل . فتناومت عمداً لينهض فلم يفعل , فاستويت جالساً وقلت : يا فتى , ما صناعتك ؟ فقال : جُعلت فداك ! أنا حائك . فقلت في نفسي : أنا – والله – جلبت هذه البليّة , وتغير لوني , ففطِن أني استثقلْتُه , فقال : جعلت فداك ! إنك قد سألتني عن صناعتي فأجبتك . فأنت ما صناعتك ؟ فقلت : هذه – والله – أضرّ من الأولى . ألا ينظر إلى غلماني ونعمتي , فيعلمَ أنّ مثل هذا لا يُسأل عن الحِرفة . ولم أجد بداً من الجواب , فلم أذهب إلى المرتبة العظمى من الوزارة , لكني قرّبتُ عليه , فقلت : أنا كاتب . فقال : جعلت فداك ! الكُتَّاب خمسة . فأيُّهم أنت ؟ فأورد عليّ ما لم أسمع به من قبلُ . فقلت : بيِّنْهم لي. قال : نعم . هم كاتب رسائلَ يحتاج أن يعرف المفصول والموصول , والمقصور والممدود , والابتداء والجواب , حاذقا ً بالعقود والفتوح .قلت : أجل . وماذا؟قال : كاتب خراج يحتاج أن يعرف السطوح والمساحة والتقسيط , خبيراً بالحساب والمقاسمات . قلت : وماذا ؟ قال : كاتب قاض يحتاج أن يعرف الحلال والحرام , والتأويل والتنزيل , والمتشابه والحدود القائمة والفرائض , والاختلاف في الأموال والفروج , حافظاً للأحكام حاذقاً بالشروط . قلت : وماذا ؟قال : وكاتب جند يحتاج أن يعرف الحُِلى والشِّيَات . قلت : وماذا ؟ قال : وكاتب شرطة يحتاج أن يعرف القصاص والجراحات , وموضع الحدود , ومواقع العفو في الجنايات . قلت : حسنٌ . قال : فأيُّهم أنت ؟ فكنتُ متّكئاً فاستويت جالساً متعجباً من قوله , فقلت : أنا كاتب رسائل . قال : فإنّ أخاً من إخوانك واجبَ الحقِّ عليك معتنياً بأمورك لا يغفل منها عن صغير ولا كبير يكاتبك في كل محبوب ومكروه , وأنت له على مثل ذلك , تزوجَتْ أمه ؛ كيف تكتب إليه ؟ أتهنِّيه أم تعزيه ؟ قلت : أهنّيه . قال : فهَنِّه . فلم يتجه لي شيء . فقلت : لا أعَزِّيه ولا أهَنِّيه . فقال : إنك لا تغفل له عن شيء , ولا تجد بداً من أن تكتب إليه . فقلت : أقِلْني , فأنا كاتب خراج . قال : فإن أمير المؤمنين وجَّه بك إلى ناحية من عمله , وأمرك بالعدل والإنصاف وأنّك لا تدع شيئاً من حق السلطان يذهب ضَياعاً , وحذَّرك الظلمَ والجَور , فخرجتَ حتى قدِمْتَ الناحيةَ , فوقفوك على قراح أرض خطه قابل قسياً , كيف تمسحه ؟ قلت : آخذ وسطه وآخذ طوله فأضربه فيه . قال : تختلف عليك العطوف . قلت : آخذ طوله وعرضه من ثلاثة مواضع . قال : إنّ طرفيه محدودان , وفي تحديده تقويس , وذلك يختلف . فأعياني ذلك . فقلت : أقِلْني , فأنا كاتب قاضٍ . قال : فإنّ رجلاً هلَك , وخلّف زوجة حرة وسُرِّيَّة حاملتين , فوضعتا في ليلة واحدة : وضعت الحرة جارية ووضعت السُّرِّيَّة غلاماً , فوُضعتِ الجارية في مهد السُّرِّيَّة , فلما أصبحتِ السرية قالت : الغلام لي , وقالت الحرة : بل هو لي . كيف تحكم بينهما ؟ قلت : لا أدري , فأقلني , فأنا كاتب جند . قال : فإن رجلين من أصحاب السلطان أتياك اسمهما واحد , وأحدهما مشقوق الشفة العليا والآخر مشقوق الشفة السفلى , ورِزق أحدهما مِائَة والآخرِ ألفٌ . كيف تُحلِّيهما ؟ قلت : فلان الأعلم وفلان الأعلم . قال:إذن يجيءَ هذا , ورزقه مِائة , فيأخذ الألف , ويجيءَ هذا , ورزقه ألف , فيأخذ المائة . قلت : أقِلني , فأنا كاتب شرطة . قال: فإنّ رجلين تواثبا , فشج أحدهما صاحبه موضِحَة , وشجّه الآخر مأمُومة , كيف يكون الحكم ؟ قلت : لا أدري , فأقلني .قال : فقلت : إنك قد سألتني , فبيِّنْ لي . قال : نعم .
أما الذي تزوجت أمه فتكتب إليه : أما بعد , فإن الأمور تجري على غير مَحابِّ المخلوقين , والله يختار لعباده . فخار الله لك في قبضها إليه , فإن القبور أكرم الأكفاء . والسلام .
وأما القَراح من الأرض فإنك تمسح اعوجاجه , حتى تعلمَ :كم قبضةً تكون فيه ؟ فإذا استوى في يدك عَقْد تعرفه ضربت طرفه في وسطه .
وأما الحرة والسرية فيُوزن لبنُهما , فأيُّهما كان لبنها أخفَّ فالبنت لها .
وأما المشقوق الشفة العليا فأعلمُ , والمشقوق الشفةِ السُّفلى فأفْلجُ .
وأما المأمومة ففيها ثلُث الدِّيَة . وهي ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث .
وأما الموضحة ففيها خمس من الإبل .
فقلت : ألستَ تزعم أنّك حائك ؟ فقال : أنا حائك كلام , لا حائك نِساجة . قال عمرو بن مسعدة : فأحسنتُ جائزته , واستصحبتُه معي حتى عدتُ إلى المعتصم , فسألني عمّا لقيتُ في طريقي , فقصصتُ عليه القصة , فأُعجِب به وقال : لِمَ يصلُح ؟ فقلت : للعمائر . فقرَّره فيها وعلَتْ رتبتُه. فكنتُ ألقاه في الموكب النبيل فيترجَّل لي فأنهاه , فيقول : هذه نعمتك , وأنت أفدْتُها .

المشقوق الشفة العليا أعلم،
والمشقوق الشفة السفلى أفلح، بالحاء لا بالجيم..




التوقيع :
إذا أدمت قوارصكم فؤادي ***** صبرتُ على أذاكم وانطويتُ
وجئـت إليكـــم طلق المحيا ***** كأني ما سمعـتُ ولا رأيـــتُ

http://www.youtube.com/watch?v=3JqNh-btjvw


    رد مع اقتباس