عرض مشاركة واحدة
قديم 15-10-16, 09:21 PM   #1
عضو فضي
 
الصورة الرمزية طلق المحيا

 











 

طلق المحيا غير متواجد حالياً

طلق المحيا تم تعطيل التقييم

Talking الشاعر يتعالى على آلامه

الشاعر يتعالى على آلامه
جميل الشبيبي

تمتد تجربة الشاعر العراقي حسين عبد اللطيف الشعرية إلى أكثر من أربعين عاما أصدر خلالها خمسة دواوين شعرية ومجموعة من المقالات، وكان خلالها يتأمل حياته وحياة الناس من حوله، ولم يكن ديوانه الأول “على الطرقات أرقب المارة” الصادر عام 1977 هو بداية طريقه الشعري، بل أن نتاجه يرقى إلى منتصف الستينيات، غير أن الظروف الصعبة التي عاشها مع مجايليه من الشعراء والمثقفين البصريين، في الهامش المهمل من الثقافة العراقية كان سببا في تأخر ظهور نتاجاته الأولى، وخلال ثمانية عشر عاما ابتداء من عام 1977 لم يصدر لهذا الشاعر سوى ديوان واحد، في حين كان الشاعر دائما في قلب الحدث الثقافي والأدبي، قراءة ونشاطا ثقافيا يشهد له به عشرات الكتاب البصريين الذين قرأ أعمالهم وشجعهم على الكتابة، وكان يتوسط لهم لنشر نتاجاتهم في الصحف والمجلات العراقية بشكل خاص. وبهذا المعنى نستطيع أن نؤكد أن معظم أدباء مدينة البصرة ممن ظهرت نتاجاتهم منذ نهاية السبعينيات وحتى وقت قريب كانوا قد استفادوا من تجربة هذا الشاعر ومن نصائحه وتصحيحاته لنتاجاتهم، وبذلك يكتسب الشاعر حسين عبد اللطيف مكانة خاصة في المشهد الأدبي والشعري في البصرة بشكل خاص، ويمثل نتاجه الشعري عصارة حياة ثقافية ومعاناة في استخلاص جوهر الشعر من خلال النأي عن اليومي والمألوف، باستثمار لغة شعرية تكتنز بالمجازات والصور المبتكرة، وباطلاع واع على منجزات الشعر العربي والتأثر بترجمات الشعر الغربي، في مزاوجة اتضحت معالمها في دواوينه الصادرة وخصوصا ديوانه الثاني “نار القطرب” (وزارة الإعلام ـ بغداد 1995).


المسافة الطويلة
في ديوانه الجديد “بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة” (سلسلة كتب بصرية ـ وزارة الثقافة بغداد 2012) متوالية هايكو. يكتشف الشاعر حسين عبد اللطيف في قصيدة الهايكو فضاء رحبا، يتيح له حرية التأمل والحوار مع الذات بعلاقتها مع الطبيعة بعيدا عن منغصات الحياة والآلام المبرحة التي عانى منها كثيرا. وقصيدة الهايكو ـ كما كتب عنها مترجموها إلى العربية ـ هي قصيدة بثلاثة أبيات فقط تجسد فلسفة البساطة والشاعرية وتصوير اللحظة وتوقف الزمن من اجل التأمل، التي اشتهرت بها فلسفة الزن اليابانية. وهي تختلف عن كل أنماط الشعر العربي والغربي، ويكمن هذا الاختلاف حسب رأي الشاعر محمد الأسعد احد مترجميها الأوائل بكونها “تتجنب الأساسيات العزيزة للجمال الشعري المألوف: التشبيه والمجاز وتجريد الملموس وتجسيد المجرد، وتتمسك بتسمية الموضوع (موضوع الخبرة) مباشرة. وهي تتجنب التشخيص أو أنسنة الأشياء. فالإنسان ليس مركزا بل هو خيط في شبكة كلية، وكذلك بقية الموجودات من تراب ونبات وحيوان ونجوم وسديم”.

الصيغ البلاغية

يصف الشاعر حسين عبد اللطيف تجربته هذه التي تغترف من أجواء قصيدة الهايكو بأنها (ومضات) أو توقيعات على مثال الإمضاءات التي يوقعها المعجب بهم لمعجبيهم في الاتوجرافات (...) ومن هنا قصرها وتشبهها بضربات القلب أو اقترابها من قصيدة الهايكو اليابانية. إذن هي ومضات أو ضربات قلب بقصرها وكثافة لغتها ووضوح الصورة فيها. ومن مميزات هذه المتوالية أنها تستفيد من منجزات قصيدة الهايكو اليابانية حين ترفض الصيغ البلاغية وتميل إلى “الوضوح في اللغة والموضوع” (ص7)، وتهتم “بالصفاء والتناغم مع الوجود أو التلاشي فيه مفضلة الابتعاد بكلماتها عن الاصطفاف وعن الاستبدال بأخرى بديلا عنها” (ص7). كما يؤكد في مقدمته لمتواليته.

إن ابتعاد الشاعر حسين عبد اللطيف عن الصيغ البلاغية في القصيدة العربية أو المجازات والصور التي أصبحت مكررة في قصيدة النثر العراقية الحديثة، هو نزوع شاعر باتجاه فضاء فسيح يتيح لتجربته وخبرته الطويلة التفتح على لغة قادرة على احتواء هذه التجربة التي تحمل خفايا نفس وأسرار ومعان تحتاج إلى قراءة متأنية، كما هي حال قصيدة الهايكو إضافة إلى أن (توقيعات) هذا الشاعر تحاول أن تتخطى لغتها ومجازاتها وصورها باتجاه قصيدة الهايكو ذات الثراء البصري والجو المتناغم لونيا وصوتيا، بالاتجاه إلى الطبيعة، باعتبارها مركزا وفضاء غير محدود.

وفي ديوانه الجديد تظهر قدرة الشاعر حسين عبد اللطيف في البوح الشعري، وتبدو فيه ثقافته وتشبعه بأجواء الشعراء الأجانب إضافة إلى شعراء العربية واضحة في هذا الديوان.

أفق الألم

يشيع العنوان “بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق لقالق ميتة” بنية مغلقة على حياة آفلة، مشبعة بالأحزان تتجسد في هذه الصورة الشعرية التي يدشنها هذا العنوان: متوالية من أسراب لقالق ميتة، يحتشد بها الأفق، تشبه جثامين ملفوفة بقماش ابيض تظهر وتختفي في فضاء هذه القصائد، لكن الشاعر يكسر جهامة هذا الأفق بالانفتاح على عالم الطبيعة الذي تتوارى فيه مظاهر الذات ومنغصاتها، وراء نصاعة ووضوح احتفال الكائنات بحياتها، بذلك التناغم الحي بين مكوناتها:

ولا يكتفي الشاعر بالاحتفاء بموجودات الطبيعة وتمجيد تضامن كائناتها، بل انه يعرض للانتهاكات بين كائناتها بطريقة ساخرة، تجعل من هذه الانتهاكات لعبة من ألعاب الطبيعة:

العقق الأب

يضع الأرنب بين مخالبه

يبدو أن العقائق الصغار

ستحصل على درس في التشريح

أو:

صاحت الشجرة بالحطاب

وهو يخرج من الغابة

بحزمة من أغصانها:

-عظامي

ـ عظامي.

وفي قصيدة أخرى:

آه يا لمشط (الواوي)/ من مشط/ يرجل به/ ريش الدجاج

وإذا كانت قصيدة الهايكو ترسم مشاهدها بشكل مباشر يشي بالتأمل والسكون ودون حاجة إلى لغة استعارية، فإن الشاعر ينحو إلى كسر رتابة هذه الجملة الشعرية بالمفارقة الساخرة مرة أو بتشكيل علاقة مع الذات مرة أخرى ليبعث الحركة والحياة في هذه الجملة الشعرية التي تعاند للحفاظ على شكلها الساكن، تماهيا مع الشكل المألوف لقصيدة الهايكو:

نعيب الغراب

قطار يرحل آخر الليل

مخلفا شريطا من الدخان

حيث يشبه صوت نعيب الغراب بالقطار ليشير إلى حركة باتجاهين متعاكسين: الأمام والخلف، وليرسم صورة مبتكرة، يستبدل فيها الغراب بالنعيب وكأن النعيب سرب من الغربان السود.

صورة مألوفة

في قصيدة أخرى تعقد علاقة سبب ونتيجة، في تشكيل صورة مألوفة ومعروفة للخنجر ولكنها مفارقة باتجاه تأويل تكشفه علاقة الكلمات المتناحرة والمتآلفة في آن:

لأن الجريمة/ تثقله/ تقوس ظهر الخنجر/ وانحنى

أو هذه المفارقة الدامية:

الطعنة.. قبلة المدية/ والجرح: أحمر شفاهها

أما الصور الشعرية الشفافة التي تشي بقدرة فائقة على التخييل فأنها كثيرة في هذه المتواليات الموقعة:

ندبة سوداء، غراب/ يحط هناك..، في الثلج.

أو:

هلموا/ هلموا/ أريكم زهرة/ كنور القمر

أو:

مالك الحزين/ يطير فرحا/ بكلته الثلجية

فضاء الفرح

لقد منحت قصيدة الهايكو الشاعر فضاء جديدا استقبل الحياة من خلالها بنافذة تنفتح على جمال الطبيعة بمشاهد تتجلى فيها مظاهر ذلك الجمال بجمل شعرية اكتنزت بالعديد من الصور المبتكرة التي أسهمت في انفتاح تجربة الشاعر على عالم التأمل والجمال بعيدا عن آلامه وحزنه المستديم بعد أن فقد ابنه البكر وتعرض إلى عملية بتر إحدى أصابع قدمه إضافة إلى الآلام الكثيرة التي يسببها إنصاته وتفاعله مع حياة الناس الشائكة في وطنه، غير أن ذلك لم يكن سببا كافيا كي يتخلص من تلك الآلام والإحزان فجاءت في هذا الديوان مشذبة ومكثفة وبعيدة عن الشكوى والرثاء المر الذي كان واضحا في قصائده التي نشرها خلال العامين الماضيين، وبذلك استطاع أن يعبر بحر المرارة والألم في ديوانه هذا، من خلال عقد علاقة ألفة وحب مع الكائنات التي تحيط به، مستثنيا الآخر الإنسان من هذه الألفة والحب بمجموعة دافئة وحميمية من هذه التوقيعات:

نعاق الإوز البري

وهو يرحل عائدا

يترك في نفسي ذكرى أليمة

أو:

أرد يدي/ إلى جيبي/ فلا أحد لأودعه

وعندما يستعيد ذكرى ولده الراحل: “ظلي الذي لم يمتد طويلا ليظللني..(حازم)” تأتي الذكرى على شكل توسل أو نداء إغاثة موجه إلى (اورشنابي) الملاح الذي ساعد كلكامش في عبور نهر الموت في ملحمة كلكامش مرة وبـ (ييتسو jizo) مرافق الموتى في الأساطير اليابانية مرة أخرى كي يلتحق ولده برحلة الخلود الأسطورية، بعدما كانت رحلته في الحياة رحلة ألم ومعاناة.




التوقيع :
إذا أدمت قوارصكم فؤادي ***** صبرتُ على أذاكم وانطويتُ
وجئـت إليكـــم طلق المحيا ***** كأني ما سمعـتُ ولا رأيـــتُ

http://www.youtube.com/watch?v=3JqNh-btjvw


    رد مع اقتباس