عرض مشاركة واحدة
قديم 15-10-16, 06:45 PM   #11
عضو فضي
 
الصورة الرمزية طلق المحيا

 











 

طلق المحيا غير متواجد حالياً

طلق المحيا تم تعطيل التقييم

افتراضي

*نظرات نقدية في الشعر الشعبي (1)
*
من سقطات الشعراء
*
بقلم: الدكتور يونس عمر فنوش
*
في المقدمة التي وضعتها لكتابي "دراسات نقدية في الشعر الشعبي" تحدثت عن مفهوم الفن بصفة عامة، وقلت إننا يمكن أن نلخصه في القول بأنه "نقل رؤية الفنان للحقيقة على نحو فني". وحددت ما أقصده بتعبير "رؤية الفنان للحقيقة" بالقول بأن الفنان ليس معنياً بأن ينقل إلينا الحقيقة العلمية أو الواقعية الموضوعية التي نعيشها جميعنا أو نراها بأعيننا، ولكن رسالته أو مهمته تتمثل في محاولة نقل رؤيته الخاصة لهذه الحقيقة، وهي التي تتضمن بالضرورة ما تضفيه ذات الفنان كإنسان فرد على تلك الحقيقة من عواطف ومشاعر وأحلام ورؤى ذاتية، لا يلزم بالضرورة أن يشاركه فيها الآخرون. ثم قلت إن الفن أمر لا يتصل بالحقيقة من حيث مطابقتها أو مخالفتها، وإنما يتصل بالنحو الذي ينتهجه الفنان لنقل هذه الحقيقة. ولذا فإن الحكم الوحيد الذي من حقنا أن نصدره هو الحكم بنجاحه أو فشله في إتمام هذا النقل على النحو الفني المطلوب. وخلصنا إلى أنه دون إتمام هذا الشرط الأخير، أي نقل الحقيقة على نحو فني، لا نكون قد دخلنا بعد في إطار الفن.
*
ثم ركزت حديثي على فن الشعر وقلنا إن نقل الشاعر الحقيقة على أي نحو كان لا يصنع شعراً. وإلا لما تميز عن الشعر في شيء كل ما يصدر عنا، في حياة كل يوم، من أقوال نصف بها حقيقة ما نرى خارج ذواتنا، أو حقيقة ما نجد داخل ذواتنا من أفكار وعواطف وإحساسات. ثم وضعت السؤال المهم الآتي: ما الذي يصنعه الشعراء، وهم بشر مثلنا، حتى تتميز أقوالهم عن أقوالنا، وتستحق وحدها صفة الشعر؟
*
ثم حاولت الإجابة عن هذا السؤال بالقول: إننا والشعراء نشترك في محاولة نقل ما نرى، والتعبير عما نجد في أنفسنا من عواطف وإحساسات إلى الآخرين، ولكننا نفشل غالباً في الوصول إلى غاية ما نريد من التعبير، فيما ينجح الشعراء "غالباً" في الوصول إلى هذه الغاية. إننا كثيراً ما نكتشف، بمقارنة صنيعنا بصنيع الشعراء، عجزنا عن التعبير عما نريد التعبير عنه، ونميل عادة إلى إسقاط هذا العجز على اللغة، ونصفها بالقصور وعدم المطاوعة. ولكن صنيع الشعراء، الذين يستعملون اللغة نفسها التي نستعملها نحن، جدير بأن يجعلنا نعيد النظر في هذا الحكم، ونعترف بأن العجز والقصور هي صفات لنا نحن، وليست صفات للغة. إن الشعراء لا يستخدمون لغة مختلفة عن لغتنا، ولكنهم يتميزون عنا بأنهم قادرون على استخدام هذه اللغة على نحو خاص، يجعلها قادرة على النقل والتعبير. وهذا النحو الخاص لاستخدام اللغة هو ما نقصده بالنحو الفني، وبتعبير آخر هو الفن. وعلى هذا الأساس لا يكون الشعر شيئا آخر غير "المقدرة على استخدام اللغة على نحو يفجر طاقتها الكامنة على التعبير".
*
بيد أن ما يحدث أحياناً هو ألا يتمكن الشاعر، لأسباب مختلفة يعرفها ناقدو الشعر ودارسوه، وليس من غرضنا هنا التعرض لها، من إنجاز مهمة النقل والتعبير بنجاح، فيقصر، قليلاً أو كثيراً، عن أداء المعنى الذي يهدف إلى أدائه ونقله، وفي أحيان أخرى يفشل في أداء المهمة فشلاً تاماً وفاضحاً، على نحو قد يخفى في كثير من الأحيان على عين القارئ المتعجل أو غير المتمرس بالنظر في النصوص، أو على أذن المستمع الذي لا تتاح له فرصة التأني في تأمل تعبير الشاعر أو إعادة عرضه على حاسة التمييز والنقد لديه.
*
ولقد ملت إلى تسمية هذه الظاهرة، التي ثبت لدي أنها لا تقتصر فقط على صغار الشعراء أو غير المتمكنين منه، بل تشمل حتى من يعتبرون من كبار الشعراء وفحولهم، "سقطات الشعراء"، ربما بنفس الروح التي يتجه إليها القول السائر "لكل جواد كبوة"، من جهة أن هذه "السقطة" التي قد يقع فيها الشاعر، لأي سبب من الأسباب المعروفة، ليست جديرة بأن تقلل من قيمة شعره أو تنال من مرتبته الفنية، ولكنها شبيهة بتلك الكبوة التي لا يخلو أن يقع فيها الجواد الكريم الذي لم يعتد منه فارسه إلا الإجادة والتمام في ميدان الركض والنـزال والمنافسة.
*
ولقد مرت بي أثناء تداولي نصوص الشعر الشعبي المكتوب بالدارجة الليبية نماذج عجيبة وطريفة من هذه السقطات، وقد اختبرت اختباراً عملياً كيف أن الكثير منها يمر على القراء والسامعين دون أن يجدوا فيه أي عيب أو ملمز، ولكني حين أباشر وإياهم تحليل النص، والكشف عن جوانب القصور في التعبير فيه، لا يجدون إلا التسليم بما أبينه لهم من ملاحظات، ثم لا يملكون إلا التعجب من مرور تلك النصوص عليهم دون أن يلتفتوا أو ينتبهوا إلى ما فيها من عيوب في النقل والتعبير والتصوير الفني.
*
في هذه السلسلة من المقالات سوف أحاول أن أقدم أمثلة على ما تحدثت عنه مما أعتبره "من سقطات الشعراء"، ثم أبذل جهدي لكي أبين للقارئ وجه أو وجوه القصور في التعبير والنقل الفني التي أزعم وجودها في النص المعروض على النظر والتحليل.
* * *
*

*يا الخايْلَة يا امّ الخَجَلْ مَبْجُودَة** بلاك الحياة شبْهة عْيُونك سَودا
*
هذا مطلع مشهور لقصيدة جميلة في عمومها، لشاعر لا يهمنا كثيراً أن نعرف به، بقدر ما يهمنا التحاور معه حول هذا المعنى الذي أراد التعبير عنه، وهو في إطار الحديث عن علاقة الحب التي تربطه بحبيبته البالغة الجمال والحسن "الخايلة"، ذات الشعر الجميل المجدولة خصائله في ضفائر، تنحدر على ظهرها وصدرها، فتفعل فعلها في إبراز جمالها وحسنها. يخاطب الشاعر حبيبته الفائقة الحسن والجمال، ويريد أن يعبر عن فكرة أنه يحبها حباً ملأ عليه حياته وكيانه كله، حتى أنه لم يعد يتخيل حياته بدونها. هذا المعنى أحضر إلى خيال الشاعر فكرة أو صورة مفترضة، هي فكرة حياته بدون الحبيبة، ولا شك أنه أطلق العنان لخياله لكي يذهب مع هذا الافتراض إلى غايته القصوى، وحده النهائي، وطفق يبحث عن صورة فنية تبلغه ما يتمناه من تجسيد هذا المعنى. إنه يريد أن يصور كيف أن حياته بدون الحبيبة هي حياة سيئة ورديئة، ولعله فكر أيضاً في الذهاب إلى حد القول بأنها بدون الحبيبة لا يعود لها معنى، وتصبح حياة زهيدة ممجوجة، ومن ثم فإنها لا تعود حياة تستحق أن تعاش، كما وصف إبراهيم بوجلاوي حياته بدون الإبل، التي أبدع في وصف مكانتها لديه وحبه إياها، بقوله: "بلاك الحياه مملحة طبوعة".
*
إذن فالشاعر كان يحاول معالجة التعبير عن هذا المعنى، أن حياته بدون الحبيب حياة "زهيدة" لا تستحق أن تعاش، ومن ثم فلعلها تصبح بالنسبة إليه متعادلة مع الموت نفسه. وهنا حدثت المقابلة في خياله وذهنه بين الطرفين المتناقضين، الحياة/الموت. وهذا التقابل بين المتناقضين، استدعى إلي خياله بطريقة التداعي تلك المقابلة اللازمة بين النهار والليل، بين النور والظلام، ثم تداعت إلى الذهن بالطريقة ذاتها المقابلة بين الأبيض والأسود. وهي المقابلة التي رسخت في نفوسنا رمزية "البياض" إلى الجانب الحسن والطيب من الأشياء، مقابل رمزية "السواد" إلى الجانب السيئ والرديء والخبيث، فبتنا نميل تلقائياً إلى وصف الشيء الرديء والخبيث بالسواد، فنقول "حظ اسود" أو "يوم أسود"، أو "فِعلة سودا"..إلخ.
*
ونظن أن هذه السلسلة من تداعي الصور والمعاني هي التي أوصلت الشاعر إلى فكرة أن حياته بدون الحبيب، هي بكل تأكيد "حياة سودا"، أي أنها رديئة وسيئة ومرفوضة ومكروهة. وهكذا وصل إلى المعنى الذي أراد أن يعبر عنه، أو يبحث له عن معادل موضوعي يكون أكثر بلاغة في تجسيده وتصويره، ولكنه -دون أن ينتبه- كبا تلك الكبوة الشنيعة، وسقط تلك السقطة القاتلة، فقال "بلاك الحياه، شبهة عيونك سودا". فخانه التوفيق خيانة بالغة، وجعله يتورط في نقل خطابه من عالم الحب والغزل وتصوير جمال المحبوب وحسنه وغلاوته، إلى ما يكاد يشبه الهجاء.
وبالطبع لا نحتاج إلى كثير من التفصيل لكي نعيد إلى ذهن القارئ كيف أنه من الراسخ في وعينا الثقافي عامة أن قمة ما يمكن أن يبلغه الواصف أو المتغزل في المرأة وحمالها هو وصف عينيها بالسواد، وكيف أن هذا الموضع بالذات قد يكون في الحقيقة هو الموضع الوحيد الذي يتحول فيه السواد إلى رمز مطلق للجمال والحسن في سياق وصف المرأة والتغزل بجمالها وحسنها، وبات قول أحدنا في امرأة إن عينيها سوداوان، هو أرقى تعبير عن إحساسه بجمالها الفائق.
*
فماذا أراد شاعرنا هذا أن يقول؟ إن التحليل يقودنا بالضرورة إلى اكتشاف أنه قد ارتكب ما يشبه الجريمة الفنية الكبرى، حين قابل بين حياته بدون الحبيب "بلاك الحياه" وبين عينيها السوداوين "شبهة عيونك سودا". فهل أراد فعلا أن يقول إن حياته بدون الحبيب، هي حياة بالغة الحسن والجمال، مثل عيني الحبيب السوداوين؟ وإلا فكيف يمكننا أن نأخذ هذه الصورة التي تقابل بين طرفين متناقضين كل التناقض:
*
- حياة المحب بدون حبيبه، وهو معادل موضوعي لمنتهى السوء والرداءة والسلب.
- عينا الحبيبة السوداوان، وهما معادل موضوعي لمنتهى الحسن والجمال والسحر.
*
ومن هنا اعتبرنا أن الشاعر قد سقط سقطة فاضحة، وخانه التوفيق في التعبير خيانة قصوى، ولا نشك مطلقاً في أنه في الحقيقة كان يهدف إلى البحث عن صورة يستطيع أن يقدم من خلالها أقوى معادل يمكن أن يجسد إحساسه بكآبة وسوء ورداءة حياته بدون حبيبيه الذي يضفي عليها المعنى، ويمثل فيها الضياء (1) والنور والسرور والسعادة. ولكنه لم يوفق إلى ذلك مطلقاً.
*
وعلى كل حال لم يكن شاعرنا هذا وحده من سقط هذه السقطة، ففي بيت للشاعر المعروف مراد البرعصي، يقول واصفاً عيون الحبيبة الجميلة ذات السواد الطبيعي، وليس المصطنع بواسطة "الكحل":
*
عْيُونك سُود بلا مَسْحُون* اسود من عام حْداش وْشَرّ
*
ولا نحسب إلا أن الفكرة قد باتت واضحة لدى القارئ، فكيف نكون هذه العيون التي هي أشد "سواداً" وأكثر "شرا" من عام حداش الذي نكب فيه الشعب الليبي بالاحتلال الإيطالي. وبالطبع يكفي ذكر "عام حداش" لكي تحتشد في أذهاننا كل الإيحاءات والمعاني المتصلة بالاحتلال وما جره على الليبيين من مآس ونكبات، وما خلفته هذه المآسي من أحاسيس الألم والعذاب. فهل يمكن بأي شكل من الأشكال أن يتسق هذا مع معنى "سواد" عيون الحبيبة، الذي هو في ذاته رمز مطلق لمنتهى الجمال والحسن والسحر.
*
(1) للقارئ أن يقارن صنيع شاعرنا هذا بالمعنى الذي وفق فيه الشاعر العربي الأندلسي ابن زيدون في نونيته المشهورة، مصوراً كيف تحولت أيامه المنيرة لبعد الحبيب فصارت "سودا" مظلمة من الحزن والكآبة، بعدما كانت لياليه في قرب الحبيب بيضاً منيرة، من السرور والسعادة، وذلك حيث يقول: حالت لبعدكم أيامنا فغدت* سودا، وكانت بكم بيضاً ليالينا




التوقيع :
إذا أدمت قوارصكم فؤادي ***** صبرتُ على أذاكم وانطويتُ
وجئـت إليكـــم طلق المحيا ***** كأني ما سمعـتُ ولا رأيـــتُ

http://www.youtube.com/watch?v=3JqNh-btjvw


    رد مع اقتباس