الأخوة الأعزاء سبق وأن وعدتكم بنشر بحثي المنشور في مجلة المها قبل عشر سنوات حول القصيدة التي منها: (إما رميت الشيخ والا رماني) ويسرني تزويدكم بهذا البحث كما نشر ساباقً وهو كما يلي:
[center]إمّا رميت الشيخ والاّ رماني[/center]
هذا الشطر من قصيدة مشهورة، لكن الروايات حولها متضاربة جداً، وقد تعجبت من كثرة الرواة المدّعين لها، وكل منهم يرى أن روايته هي الصحيحة، ولذلك رأيت أن استعرض بعض هذه الروايات على سبيل المثال لا الحصر، ليعرف القارئ والباحث مدى هشاشة الرواية العامية، ومدى سطحية الكثير من الرواة، مما يحتم على المتلقي أن يرتقي بوعيه، وألاّ يقبل كل ما يسمع دون تمحيص وتدقيق..
هذه القصيدة نشرها الشيخ منديل الفهيد في كتابه، ولا أظن أحداً نشرها قبله، وأوردها منسوبة إلى دعيث السهلي رواية عن عقاب بن مصقال السهلي(وهما من قبيلة السهول العامرية وليس من السهلية من حرب)، قالها دعيث أمام الإمام عبدالله بن فيصل يتمنى فرساً أصيلة، فأعطاه الإمام فرساً، وفيما يلي قصيدته، كما نشرها الفهيد في كتابه: "من آدابنا الشعبية":
الله عـلـى لـو انـهـا بـالـتـمـانـي - عـز الله انـي كـان بالـخيـل ابا ختار
الله علـى صـفـرا قـصيـرة الاذانـي - تشوش لا اوحت نغمة الصوت مذعار
هـي منـوتـي يا ابن عريب المجاني - يا ابن الإمام اللـي لكم صيت واذكار
تكسـر بـذيـل كـنـه الـعيـسـبـانـي - ويـمنـى تطـرفهـا كـمـا لاحس الحار
والـى حرفتـه بالـرسـن والـعـنـانـي - كنـه تنـاجيـنـي تـبـى مـنـي اشـوار
ان كـان مـا جـيـت المجَـوّخ وجانـي - عـقـَّب دعـيـث كـان هالعـلـم مـا صـار
حلفـت ما انكس ذل والعمر فانـي - احرافة الفارس من العيـب والـعـار
لكن الرواة بعد ذلك شرقوا وغربوا في رواية هذه القصيدة، ومن هؤلاء مسْلِط بن سلامة الأدغم السبيعي الذي أعطانيها مكتوبةً بخطه منسوبةً إلى جده سلامة الأدغم، حيث يذكر أنه قالها يخاطب جدَيْع بن هذال أثناء قتاله مع مطير في وقائع كير سنة 1195هـ، وكان سلامة الأدغم السبيعي مع مطير – كما يقول - فقال القصيدة التالية بعد أن أبلغهم ابن هذال بأنه سيغير عليهم في اليوم التالي:
يا الله يـا عـالـم بـغـيـب وبـيـانـي - يـا معتـلـي يـا عـالـم غيب الاسـرار
إنك علـى الفـعـل الـحميـد اتهداني - حيث انك أنت الواحد النافع الضار
وخلاف ذا قولوا لراعـي الحصاني - اللي يتمنى حربنا سر واجهـار
يا جديع حنا من قديم الزماني - عدونا نسقيه من كاس الامرار
حنا مروية الغلب والسناني - هل الـمليحا اللي لهم صيت واذكار
حنا وعلوى مطلقين اليماني - عاداتنا ناخذ على الخيل مشوار
و ارجي من الله في صحاح بياني - بانحورنا يا جدَيْع ترميك الاقدار
وانا على الهدبا عريضة لباني - حيث إنها مغوارة بنت مغوار
اليا لويت احنوكها بالعناني - قامت تناجيني تـبي منـي اخبار
وذيل ترده كنه القوس حاني - ويمناً تشطرها مثل لامس الحار
اما رميت جديع والا رماني - يحرم علي ركوب زلبات الامهار
أبجدعه لعيون صافِ الثماني - واترك جوابي كان ذا العلم ما صار
ولا نحاني عن الخصم العنيد امتواني - ورومي معرّضها شبا كـل بـيـطـار
ليا اقبل الكافر على الـمسلماني - ادبارة الـمسلم عن الرافضي عـار
هذه رواية الأخ مسلط السبيعي، كما أعطاني إياها مكتوبةً سنة 1416هـ، وهي رواية لا أطمئن إليها لأن صاحبها قليل العناية بالتوثيق.
أما رواة عتيبة فإنهم ينسبون القصيدة للشيخ تركي بن حمَيْد، ويذكرون أنه قالها يخاطب الشيخ الفِرم شيخ بني علي من حرب، عندما علم أن الفرم يريد قتاله، وكان مع الفِرم حصان مشهور، وقد اطلعت على هذه الرواية مكتوبة بخط ناصر بن هندي بن حمَيْد:
يا الفِرْم حنا من بلاوي الزماني - وعدونا نسقيه مـن كاس الامرار
وحنا عـتـيـبة مطلقيني اليماني - عاداتنا ناخذ على الخيل مشوار
وراجي من الله في صحَاح بياني - بنحورنا يا الفرم ترميك الاقدار
وأنا على الصفراء عريضة لباني - مع لبـَةٍ تشدى لبيـبـان نجَّـار
وتكسر بذيلٍ مثل عسوٍ لياني - ويمناً اتطرّفها مثل واطي النار
واليا شكمت اِلـْحِـيـّها بالعناني - كنها تشاورني تبـي مني اسرار
اما رميت الشيخ والا رماني - واقفاية الـمسلم عن الرافضي عار
وهذه الرواية لا تختلف كثيراً عن سابقتها، حيث لا يخفى حجم التحريف والتعديل الذي دخل على هاتين الروايتين، وتأثرهما الواضح بميول الراوي، إضافة إلى افتقارهما إلى التوثيق الجيد.
أما رواة الدهَيْم من بني علي فيوردون القصيدة وقصتها بشكل مختلف تماماً، حيث يقول راويهم: كانت قبيلة بني علي من حرب تحاذي قبيلة عتيبة، وقحطان تحاذي عتيبة من الجنوب، وطلب الشيخ شرِي بن دهَيْم أحد شيوخ قبيلة بني علي من حرب العاني من عتيبة كما هي العوائد عند القبائل حيث إنها أمحلت ديارهم، فأمر الشيخ شرِي بن دهَيْم قبيلته فنزلت بين قبيلة عتيبة وقحطان، وأرسل مندوبه إلى محمد بن هادي شيخ قبيلة قحطان يطلب منه العاني، فرفض، وبقوا بلا عاني مدة من الزمن تتوالى عليه الغارات من قحطان، ومنها الواقعة التي تسمى واقعة (القِرْنَة) وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن هادي شيخ قبيلة قحطان:
الله على الحرقا كبيرة مثاني - حيث انها مغوارةٍ بنت مغوار
تكْسَر بذيلٍ كنـّه القوس حاني - وتشطح بيمنى كنها لامس الحار
ليا اعتليت قطِي بنت الحصاني - إدبارة الـمسلم عن الرافضي عار
إمَّا رميت الشيخ والاّ رماني - وترّك جوابي كان ذا الحكي ما صار
ورد عليه الشيخ شرِي بن دهَيم بقوله:
الله على قـبـَّا بنـات الحصـانـي - وُشِـلـْفٍ تلـَضَّـى كنها لاهب النار
أولاد عَلـْي إن رِفـّعـَن العَـوَانـي - ترعى بهم قطعانهم كل الاقـفـار
الدين دين الله ما هو بالتمانـي - والعز بيد الواحد النافع الضار
يا الشيخ ابن هادي عزيز الجنابي؟ - الله يسَـلـّطنـا على كـل غـدّار
من كف أخو؟ سبـلا زبون الجباني - شفلوت خليته وُ عَـطَـيـْت مِعْـبـَار
وهذه الرواية زودني بها الأخ مقبل بن ملفي العلوي بتاريخ 28/2/1417هـ، وأعطاني إياها مكتوبة ومنسوبة إلى الراوي: هزاع بن هدَيَّان العلوي الحربي..
لكن رواة الوهوب من بني السفر من حرب لهم رأي آخر، حيث ينسبون القصيدة إلى شبَاط بن سعدَى، وأنه قالها بمناسبة القتال بينه وبين جمل بن لبدة، سمعتها منهم في مجلس رضيمان بن يحيى بن جندل الوهبي في بريدة، وأورد منها الراوي الأبيات التالية:
الله على الحرقا كبيرة لباني - حيث إنها مغوارة بنت مغوار
أبي ليا جيت الـمدرع وجاني - احرافة الـمسلم عن الرافضي عار
أما رميته كان هو ما رماني - واترك جوابي كان ذا الحكي ما صار
هذه خمس روايات متناقضة ومتباينة، وهي لا تمثل كل الروايات المتداولة حول هذه القصيدة ومناسبتها وأطرافها، لكنها غيض من فيض، فأنا لم أستقصِ كل ما يروى وما يقال حولها، ولم اطلع على كل ما كتب عنها، وإنما اخترت هذه النماذج ليعرف القارئ الكريم مدى تضارب الرواية العامية، وسهولة دخول التحريف والتغيير عليها، والأهم من ذلك أن كل راوٍ ينسبها إلى قبيلته، وهذه ظاهرة عرفناها بالبحث، وخبرناها بالتجربة، وهذا ما يجعلنا ننادي دوماً بضرورة تمحيص الروايات، وعدم قبولها والتسليم بها قبل التحقق من صحتها، كما أن حجم التغيير والتبديل الذي لاحظناه على هذه القصيدة يمكن أن يدخل على أي قصيدة أخرى، وهذا ما يجعلنا نقول بأن الشعر العامي ليس دليلاً قوياً ولا حجةً فاصلة في إثبات القصص والبطولات، لقد رأينا كيف أن كل راوٍ يستطيع أن يورد القصيدة بلهجة قبيلته، فضلاً عن قدرته على تغيير الأسماء والمعلومات الواردة فيها، لتناسب ميوله، وتحقق أهداف روايته.. هذا والله أعلم بالصواب..