وفي « مسند الإمام أحمد» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يحيى : لا يدري عوفٌ عبدالله أو الفضل : قال : « قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم غداةَ العقبة وهو واقف على راحلته : هاتِ القُطْ لي، قال فلقطت له حصيات هن حصا الخذف، فوضعهن في يده فقال : « بأمثال هؤلاء» مرتين، وقال بيده فأشار يحيى أنه رفعها وقال : « إياكم والغلو فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين».
وعن أُم سليمان بن عمرو بن الأحوص رضي الله عنها قالت : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر، وهو يقولُ : « يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضاً، وإذا رميتم الجمرة فارموها بمثل حصا الخذفِ» رواه أحمد.
وفي « صحيح البخاري» عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يُكبر على إثر كل حصاةٍ ثم يتقدم حتى يسهلَ فيقومَ مستقبلَ القِبلة فيقومَ طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذُ ذات الشمالِ فيسهل ويقومُ مستقبل القبلة فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفعُ يديه، ثم يرمي جمرة العقبة من بَطنِ الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرفُ فيقولُ : هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يفعله.
وروى أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكرِ الله».
والأخطاء التي يفعلها بعضُ الحجاج هي :
1 ـ اعتقادهم أنه لا بد ـ من أخذِ الحصا من مزدلفة فيتعبون أنفسهم بلقطها في الليل واستصحابها في أيام منى حتى إن الواحد منهم إذا أضاعَ حصاةً حزِنَ حُزناً كبيراً، وطلب من رفقته أن يتبرعوا له بفضلِ ما معهم من حصا مزدلفة.
وقد عُلم مما سبق أنه لا أصل لذلك عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وأنه أمر ابن عباس رضي الله عنهما بِلَقْطِ الحصا له وهو واقفٌ على راحلته، والظاهر أن هذا الوقوف كان عند الجمرة، إذ لم يُحفظ عنه أنه وقف بعد مسيرهِ من مزدلفة قبل ذلك، ولأن هذا وقت الحاجة إليه فلم يكن ليأمرَ بلقطها قبله لعدم الفائدة فيه وتكلف حمله.
2 ـ اعتقادهم أنهم برميهم الجمار يرمون الشيطانَ، ولهذا يُطلقون اسم الشياطين على الجِمارِ، فيقولون : رمينا الشيطان الكبير أو الصغير أو رمينا أبا الشياطين يَعنون به الجمرة الكبرى جمرة العقبة، ونحو ذلك من العبارات التي لا تليق بهذه المشاعر.
وتراهم أيضاً يرمون الحصا بشدة وعنف وصراخ وسب وشتم لهذه الشياطين على زعمهم حتى شاهدنا من يصعد فوقها يبطش بها ضرباً بالنعل والحصا الكبار بغضب وانفعال ! والحصا تصيبه من الناس، وهو لا يزداد إلا غضباً وعنفاً في الضرب، والناس حوله يضحكون ويقهقهون كأن المشهد مشهد مسرحية هزليّة ! شاهدنا هذا قبل أن تُبنى الجسورُ وترتفع أنصابُ الجمرات، وكلُّ هذا مبنيٌّ على هذه العقيدة أن الحجاج يرمون شياطين، وليس لها أصلٌ صحيحٌ يعتمد عليه.
وقد علمتَ مما سبقَ الحكمةَ في مشروعيةَ رمي الجمار، وأنه إنما شرع لإقامة ذكر الله عز وجل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم يكبر على إثرِ كل حصاة.
3 ـ رميهم الجمرات بحصا كبيرةِ. وبالحذاء ( النعل )، والخفاف ( الجزمات )، والأخشاب !! وهذا خطأٌ كبير مخالف لما شرعه النبي صلى الله عليه وسلّم لأُمته بفعله وأمره، حيث رمى صلى الله عليه وسلّم بمثل حصا الخذف، وأمر أُمته أن يرموا بمثله، وحذرهم من الغلو في الدين، وسبب هذا الخطأ الكبير ما سبق من اعتقادهم أنهم يرمون شياطين.
4 ـ تقدمهم إلى الجمرات بعنفٍ وشدةٍ، لا يخشعون لله تعالى، ولا يَرحمون عباد الله، فيحصلُ بفعلهم هذا من الأذية للمسلمين والإضرار بهم، والمشاتمة والمضاربة ما يقلب هذه العبادة وهذا المشعر إلى مشهد مشاتمة ومقاتلة، ويخرجها عما شُرعت من أجله، وعما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم.
ففي « المسند» عن قُدامة بن عبدالله بن عمار قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يوم النحر يرمي جمرة العقبة على ناقةٍ صهباء، لا ضرب ولا طرد ولا : إليكَ إليكَ» رواه الترمذي وقال : حسنٌ صحيح.
5 ـ تركهم الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولى والثانية في أيام التشريق، وقد علمَت أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقفُ بعد رميها مستقبل القبلة، رافعاً يديه يدعو دعاءً طويلاً.
وسبب ترك الناس لهذا الوقوف الجهل بالسنة، أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من العبادة.
ويا حبذا لو أن الحاج تعلم أحكام الحج قبل أن يحج، ليعبد الله تعالى على بصيرة، ويحقق متابعة النبي صلى الله عليه وسلّم.
ولو أن شخصاً أراد أن يُسافر إلى بلدٍ لرأيته يسألُ عن طريقها حتى يصل إليها عن دلالةٍ، فكيف بمن أراد أن يَسلُك الطريق الموصلة إلى الله تعالى، وإلى جنته، أفليس من الجدير به أن يسأل عنها قبل أن يسلُكها ليصل إلى المقصود !؟
6 ـ رميهم الحصا جميعاً بكفٍّ واحدة، وهذا خطأ فاحشٌ، وقد قال أهل العلم إنه إذا رمى بكفٍّ واحدةٍ أكثرَ من حصاةٍ لم يُحتَسب له سوى حصاةٍ واحدة.
فالواجب أن يرمي الحصا واحدة فواحدةً، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم.
7 ـ زيادتهم دعواتٍ عند الرمي لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلّم، مثل قولهم : اللهم اجعلها رضا للرحمن، وغَضَباً للشيطان، وربما قال ذلك وتركَ التكبير الواردَ عن النبي صلى الله عليه وسلّم.
والأولى الاقتصار على الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلّم من غير زيادةٍ ولا نقصٍ.
8 ـ تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم فتراهم يُوَكّلون من يرمي عنهم مع قُدرَتهِم على الرمي ليُسقطوا عن أنفسهم مُعاناةَ الزحامِ ومشقةَ العمل، وهذا مخالفٌ لما أمر الله تعالى به من إتمام الحج، حيث يقول سبحانه : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }، فالواجب على القادر على الرمي أن يُباشره بنفسه، ويصبر على المشقة والتعب فإن الحج نوعٌ من الجهاد، لا بد فيه من الكُلفة والمشقة.
فليتق الحاج ربه، وليتم نُسكه، كما أمره الله تعالى به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
طواف الوداع والأخطاء فيه
ثبت في « الصحيحين» عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : « أُمر الناس أن يكونَ آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض».
وفي لفظٍ لمسلم عنه قال : « كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون آخرَ عهده بالبيتِ».
ورواه أبو داود بلفظ : « حتى يكونَ آخرَ عهده الطوافُ بالبيت».
وفي « الصحيحين» عن أُم سلمة رضي الله عنهاقالت : « شكوتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أني أشتكي، فقال : « طُوفي من وراء الناس وأنتِ راكبةٌ»، فَطُفتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يُصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور».
وللنسائي عنها أنها قالت : « يا رسول الله، والله ما طُفتُ طوافَ الخروجِ فقال : « إذا أُقيمت الصلاةُ فطوفي على بعيرك من وراء الناس».
وفي « صحيح البخاري» عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رَقدَةً بالمُحَصب ثم ركب إلى البيت فطاف به.
وفي « الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها أن صفية رضي الله عنها حاضت بعد طوافِ الإفاضة فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « أحابِسَتُنا هي ؟» قالوا : إنها قد أفاضت وطافت بالبيت، قال : « فلتنفر إذن».
وفي « الموطأ» عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال : « لا يَصدُرن أحدٌ من الحج حتى يطوف بالبيت، فإن آخرَ النسكِ الطوافُ بالبيت».
وفيه عن يحيى بن سعيد أنّ عمرَ رضي الله عنه رَدّ رجلاً مِن مرِّ الظهران لم يكن وَدّع البيتَ حتى ودّع.
والخطأ الذي يرتكبه بعضُ الناس هنا :
1 ـ نزولهم من منى يوم النفر قبل رمي الجمرات، فيطوفوا للوداع ثم يَرجعوا إلى منى فيرموا الجمرات، ثم يُسافروا إلى بلادهم من هناك.
وهذا لا يجوز، لأنه مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلّم أن يكون آخرَ عهدِ الحاجّ بالبيت، فإن من رمى بعد طواف الوداع فقد جعل آخرَ عهده بالجمار لا بالبيتِ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يَطُف للوداع إلا عند خروجه حين استكمل جميعَ مناسكِ الحج، وقد قال : « خُذوا عني مناسككم».
وأثرُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه صريحٌ في أن الطواف بالبيت آخرُ النسك، فمن طافَ للوداع ثم رمى بعده فطوافه غيرُ مجزىء لوقوعه في غير مَحَلِّه، فيجبُ عليه إعادتُه بعد الرمي، فإن لم يُعد كان حُكمُه حُكم مَن تركه.
2 ـ مُكثهم بمكة بعد طواف الوداع، فلا يكونُ آخرَ عهدهم بالبيت وهذا خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلّم، وبينه لأُمته بفعله، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَ أن يكون آخرَ عهدِ الحاج بالبيت، ولم يَطُف للوداع إلا عند خروجه، وهكذا فعل أصحابه، ولكن رخّص أهلُ العلم في الإقامةِ بعد طوافِ الوداع للحاجةِ إذا كانت عارضةً، كما لو أُقيمت الصلاة بعد طوافه للوداع فصلاها، أو حضرت جنازةٌ فصلى عليها أو كان له حاجةٌ تتعلق بسفره كشراء متاعٍ وانتظار رفقةٍ ونحو ذلك. فمن أقام بعد طواف الوداع إقامةً غيرَ مرخصٍ فيها وجبت عليه إعادتهُ.
3 ـ خروجهم من المسجد بعد طواف الوداعٍ على أقفيتهم يزعمون بذلك تعظيم الكعبة، وهذا خلافُ السنة، بل هو من البدع التي حذَّرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال فيها : « كل بدعةٍ ضلالة».
والبدعة : كل ما أُحدث من عقيدة أو عبادةٍ على خلافِ ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم وخُلفاؤه الراشدون، فهل يظنُّ هذا الراجعُ على قفاه تعظيماً للكعبة على زعمهِ أنه أشدُّ تعظيما لها من رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم، أو يظنّ أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن يعلمُ أنّ في ذلك تعظيماً لها، لا هو ولا خُلفاؤه الراشدون ؟!!
4 ـ التفاتهم إلى الكعبة عند باب المسجد بعد انتهائهم من طواف الوداع ودعاؤهم هناك كالمودعين للكعبة، وهذا من البدع لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولا عن خُلفائه الراشدين، وكل ما قُصد به التعبُّد لله تعالى وهو مما لم يَردْ به الشرعُ فهو باطلٌ مردودٌ على صاحبه، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَد»، أي : مردودٌ على صاحبه.
فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن يكونَ في عباداته مُتبعـاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيها لينال بذلك محبة الله ومغفرته، كما قال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
واتباعُ النبي صلى الله عليه وسلّم كما يكونُ في مفعولاته يكونُ كذلك في متروكاته.
فمتى وُجد مقتضى الفعل في عهده ولم يفعله كان ذلك دليلاً على أن السنة والشريعة تركه، فلا يجوز إحداثهُ في دين الله تعالى، ولو أحبه الإنسان وهواه.
قال الله تعالى : {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَـوَتُ وَالاٌّرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَـهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
نسألُ الله أن يهدينا صراطَه المستقيم، وأن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهبَ لنا منه رحمةً إنه هو الوهاب.