بين المتنبي … والمسعودي !
المتنبي … ذلك الشاعر العباسي الحكيم ، المعتد بنفسه المتباهي بذاته ، لا أظنّ أحدا ً لا يعرفه ، أو لم يسمعْ عنه .
ولو لم يصلنا من شعره إلا قوله : ـ
الخيل والليل والبيداء تعرفني ** والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
لكفى وشفى !! من يقرأ شعره يجد الحكم الرائعة ، والأمثال البديعة والصور الجميلة .
فإنْ تفق الأنام وأنت منهم ** فإنّ المسك بعض دم الغزالِ
والمتتبع لشعر المحاورة وشعرائه يجد أنّ الشاعر الكبير ( عبد الله المسعودي ) شاعر قبيلة هذيل قد سار على نفس الخط تقريباً ، فشعره حكم وأمثال ، وصور وخيالات ، وثقة بالنفس والذات .
استمع إلى هذا البيت وقارنه بالبيت الأول للمتنبي ، وستجد التوافق وتوارد الخواطر واضحاً جلياً : ـ
إيعرفني الخيل والليل والسيف الرهيف ** والإذاعة والصحافة وروس اقلامها
أمّا في مجال الحكمة فحدث ولا حرج … فأبيات شاعرنا حكيم زمانه يرددها الكبير والصغير ، المتعلم والجاهل ، لما فيها من نضج التجربة وصدورها عن رجل شرّق وغرّب ، وعرف أحوال الناس ، وطبائعها وعاداتها .
المطيّة ما تقدّم رجلها قدام يدها ** لوّ راعيها يخليها عشا حصني وذيبي
وكأن ( المسعودي ) يقول : ـ لكل شيء أوانه الذي لا يتقدم أو يتأخر عنه ، وكلٌ مسؤولٌ عن رعيته .
المخاطر نمشـّيها على كل ملّة ** مير للعيد ليلة تنعرف من عصاري
نعم … ونحن نقول : ـ المكتوب يُعرَف من عنوانه ، وكل شيء تدلّ عليه مقدماته .
ما تطول المراجل في يدين العصابة ** والفراشة ما تقطع جوع من يشتويها
انظر ـ عزيزي القارئ ـ إلى الحكمة في الشطر الثاني ، أليستْ من قول العرب : " الماء القليل لا يدفع الظمأ "
ليا طاح للأرض المطر يفرح الزرّاع ** ويزرع محل الحمض خوخ ورمّاني
إذا نزل المطر فرح به المزارعون ، وزرعوا الفواكه بدلاً من تلك الأشجار والحشائش التي تزدحم بها الأرض المهملة .
ألا واحلى والذوب راس اللسان يذوب ** ومن لا يعرْف المرّ ما يعرف الحالي
مَنْ لم يخوض الشدائد ، ويركب الأهوال لا يعرف قيمة العيش الرغد الهانئ ، وقبل كل فرج شدة .
يا قاضي ٍ حكمته من تحت كوعه ** من لا يعرْف الصقور ايتشوّاها
منْ وقع في يده شئ ثمينٌ ولم يعرف قيمته وقدره ؛ أصبح الثمين رخيصاً والغالي هيناً كمن أمسك صقراً ولم يعرفه فشواه .
لو عرفنا الدوا ما مات ميّت بعلّه ** كمّ عودٍ عوَج فيه الورق والثماري
لو أننا نعرف جميع أدوية الأمراض لما مات أحد بمرض ، وكم من أشياء توضع في غير مواضعها .
إن الشئ الجميل في هذه الحكم والأمثال الرائعة أنها تخدم المعنى ، ولكل ٍ منها توظيفه الصحيح ، فشاعرنا لا يأتي بأمثاله وحكمه إلا وهي تحمل في طياتها من المعاني ما قد يعجز عنه المحللون والنقاد .
ولقد أحسن المسعودي أيما إحسان وأجاد أيما إجادة حين قال : ـ
المرّ في القلب والحلو بلساني *** والبغض بالعين والحب بفوادي