تفسير قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا..)
قال الله جل وعلا: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135] يقول اليهود: كونوا هوداً، ويقول النصارى: كونوا نصارى، ولا تقول النصارى: كونوا هوداً، ولا تقول اليهود: كونوا نصارى.
وأحرر كلمة (هوداً) قبل الشروع في القضية.
ذكر اليهود بثلاثة ألفاظ في الكتاب أو في السنة: يهود، اليهود، وهود، يهود، واليهود بالتعريف، وهوداً كالتي بين أيدينا. فما معنى كل واحدة منها؟
إذا فقهت الأصل يسهل عليك فهم القرآن بعد ذلك.
الله هنا يقول: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135] الأصل في المسألة: أن هؤلاء من ذرية يهوذا بن يعقوب ، فعربت الذال فأصبحت دالاً.
فيهود تطلق على معنيين: تطلق على النسب وعلى الصفة، فإذا قلنا: يهود أو اليهود فتحتمل الأمرين: تحتمل أن تكون مطلقة على الصفة التي هي الدين والملة، أو على النسب أي: إلى الجد الذي ينسبون إليه.
وإذا قلنا: هوداً كما في هذه الآية - وهو التفريع الثالث - فلا تطلق إلا على الملة والصفة ولا يراد بها النسب.
وفقهك لهذا الأمر يعينك بعد توفيق الله على فهم الكثير من الأمور التي جاء فيها ذكر اليهود، وسنبسط القول الآن حتى تتضح المسألة، فالإنسان لا يمكن أن يطالب بتغيير نسبه، لا سبيل له إلى ذلك، النسب لا يغير، فالنبي عليه الصلاة والسلام مثلاً هاشمي ولا يمكن أن نطلب منه أن يكون خزرجياً، وحسان بن ثابت خزرجي ولا يمكن أن يطلب الله أو رسوله من حسان أن يكون هاشمياً أو أن يكون قرشياً أو أن يكون خزاعياً، أو غير ذلك.
فالأنساب لا سبيل إلى تكليف الناس بها؛ لأن النسب لا يختاره الإنسان، هو يولد على نسب معين، يقول حسان :
ولدنا بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خالاً وأكرم بذا ابنما
إذاً قول الله جل وعلا: وَقَالُوا [البقرة:135] أي: اليهود.
كُونُوا هُودًا [البقرة:135] لا يقصدون: كونوا يهوداً نسباً، وإنما كونوا هوداً أي: ملة، على الصفة التي أرادها اليهود.
فاليهود كانوا يجاورون النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأول خطواته معهم تاريخياً الموادعة، حيث كتبت الصحيفة التي كانت وبينهم وبين المسلمين كما ذكرها أهل السير، وانتهى المطاف بهم بغزوة خيبر في المحرم من سنة سبع، وغزوة خيبر مرت بأحداث شهيرة عظيمة من أشهرها: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بعدها من صفية بنت حيي بن أخطب .
الآن نطبق القاعدة، صفية حصل بينها وبين إحدى أمهات المؤمنين ما يحصل بين الضرائر؛ لأنهن يتنافسن على شرف عظيم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت لها إحدى أمهات المؤمنين تعيرها: يا يهودية! وأم المؤمنين قطعاً لا تقصد أنها كافرة يهودية ملة أو دين، فهذا محال؛ لأن هذه مسلمة، لكن قصدت النسب.
مثال آخر: قال عليه الصلاة والسلام كما هو مروي عند أهل السير وذكره البيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخ دمشق وابن سعد في الطبقات: (المخيريق خير يهود)، ولا يقصد أنه خير يهود نسبة إلى الدين والملة؛ لأنه أسلم، لكنه خير يهود يعني: خير القوم الذين ينتسبون إلى يهود، فهذا خرج في يوم سبت واليهود تعظم يوم السبت وقال: معشر يهود! تعلمون أن نصرتكم للنبي حق، فأبوا واحتجوا بأنه يوم سبت، وهم حتى لو لم يكن يوم سبت لم يخرجوا، لكن يريدون أن يكفوا عن أنفسهم جداله، فخرج في يوم أحد وكان يوم سبت وقتل، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قتله قال: (مخيريق خير يهود) يهود هنا إضافة نسب، لكن الآية هنا لا تحتمل النسب: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:135].
إذا عدنا إلى خيبر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله) فأعطاها علي وهو القائل يومئذ:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة أضرب بالسيف رءوس الكفرة
أكيلهم بالصاع كيل السندرة
السندرة شجر عظيم يقطع منه مكاييل كبار عظام، وحيدرة اسم من أسماء علي ، واختلف من أين جيء له بهذا الاسم، وقيل: إنه اسم من أسماء .....، ترون الشيعة في يوم عاشوراء يضربون صدورهم ويحرقون أيديهم ويقولون: حيدر حيدر، يفرون من التأنيث مع أن علياً ارتضاه لنفسه؛ لأن التاء في التأنيث ليست عيباً إذا أطلقت على مذكر، مثل: حمزة، طلحة، معاوية، فيقولون: حيدر حيدر، ويضربون أيديهم وأرجلهم، فينطبق عليهم مثل عند العامة شهير، تقول العامة: من خف عقله تعبت قدماه!
الذي يعنينا أنك ترى أحياناً أشياء أمام عينيك في تاريخك المعاصر حسن ربطها بالقرآن، حسن تنميتك لثقافتك، حسن اطلاعك اطلاع شامل، وهذا يجعلك أهدأ بالاً، وأمكن في العلم، وأكثر ثقة في قيادة الناس.
قال الله: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135]، النصارى لم يكونوا محيطين بالنبي صلى الله عليه وسلم كإحاطة اليهود به، فالمدينة لم يكن يسكنها أحد من قبائل النصارى، قد يكون فيها أفراد لا يمكن أن نعرج إلى أحداث مرت بهم.
أما اليهود فكانوا قبائل: قينقاع، قريظة، النضير، بني زريق، وغيرهم ممن كانوا مستوطنين المدينة، فتجري أحداث كثيرة، وعندما تكلمنا عند اليهود ليس ذلك لزيادة علم فيهم ونقص علم في النصارى أو لبغض فيهم أقل من بغضنا للنصارى، لكن المسألة مسألة أحداث تاريخية كانت موجودة آنذاك.
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135] واقعة في جواب الأمر.
كُونُوا [البقرة:135] هذا أمر.
تَهْتَدُوا [البقرة:135] هذا رأيهم. فرد الله عليهم: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135] .
ومر معنا أن الحنف في اللغة: الميل، والمقصود به: أن الميل عن المعوج اعتدال.