تفسير قوله تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني..)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فما زلنا نتفيأ معكم ضلال كتاب ربنا جل وعلا، وقد انتهينا في اللقاء الذي سبق إلى قول الله جل وعلا عن خليله وصفيه وحبيبه إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130-131]، وبينا المقام العظيم الذي من الله به على هذا الخليل المبارك صلوات الله وسلامه عليه.
اليوم نفتتح اللقاء بقول الله جل وعلا: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] .
حصر الله النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام -كما يقول المؤرخون-: لم يرزق إناثاً وإنما رزق ذكراناً.
ومن أولاده الذكور الذين نص الله عليهم في كتابه إسماعيل وهو الأكبر، وإسحاق، ومن إسحاق جاء يعقوب عليه الصلاة والسلام، وله أبناء آخرون غير هذين، لكن هذين اللذين نبئا بنص القرآن، قال الله عن إسماعيل: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، وقال الله جل وعلا عن إسحاق: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ [الصافات:113]، وقال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا [الصافات:112]، فهذا دلالة قرآنية على أنهما كانا نبيين صلوات الله وسلامه عليهم.
والإنسان إذا حضرته الوفاة تحضر مقدماتها، أسبابها، دواعيها، أما الموت ذاته إذا حل لا يمكن لأحد أن يتكلم، فإذا ظهرت دلائل الموت وأسبابه ومقدماته، وشعر المرء أنه مفارق الحياة لا محالة يكون هناك فقه الأولويات في أوجه؛ لأن الإنسان في تلك اللحظات يصعب عليه أن يخادع نفسه، فيخرج ما في قلبه أكثر مما يخرج ما كان يردده بلسانه.
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما حملوا طيلة أيام حياتهم شيئاً أعظم من الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا، فلما كانت الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا أعظم ما حملوه وهم أحياء كانت أعظم ما تركوه عند موتهم، قال الله عن خليله: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:28] في عقبه أي: في ذريته.
فعندما حضرته الوفاة وصى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنيه إسماعيل وإسحاق وغيرهما كما دل عليه الجمع في قوله تبارك وتعالى: يَا بَنِيَّ [البقرة:132].
وهؤلاء الأخيار أولاد هذا النبي المبارك لما التفوا حوله وصاهم، قال الله: وَوَصَّى بِهَا [البقرة:132] والهاء إما أن تعود على الملة عموماً وهو الأظهر، أو تعود على الكلمة المسبوق الحديث عنها وهي قول الله جل وعلا عنه: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131] .
ولا ريب أن الإنسان يظهر كمال عقله عند موته، ويظهر ذلك الشيء الذي كان يحمله في سرائره على لسانه عندما يقرب من الآخرة.
أبو بكر رضي الله عنه لما وصى بالخلافة لـعمر قال: في ساعة يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر؛ لأن الإنسان لا يبلغ به الحال أن يخدع نفسه في تلك المرحلة وإنما يخرج معتقده.
وهناك وصية مالية ليس هذا الحديث عنها، وسيأتي الكلام عنها في آية الدين، لكن الوصية هنا قضية الثبات على المبدأ وعلى العقيدة، ولا عقيدة أعظم من توحيد الرب تعالى، ولعظم شأنها نص الله عليها: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:132] والواو عاطفة، ويعقوب معطوف على بنيه أو على إبراهيم، وبكل قرئ، وفي المصحف الذي بين أيديكم أنها معطوفة على إبراهيم؛ لأنها جاءت مرفوعة، فيصبح المعنى: ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه.
وإن قلنا: وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ونصبناها يصبح المعنى: وصى بها إبراهيم بنيه وحفيده الذي هو يعقوب.
وهذا ينجم عنه سؤال آخر: هل يعقوب أدرك إبراهيم أو لا؟ ظاهر القرآن أنه أدركه، لأن الإنسان لا يخلو من أحفاده، وقد قال الله جل وعلا: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، فهذه دلالة على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سيدرك يعقوب وسيراه.
وعلى القراءة الأولى بالرفع يصبح ما صنعه إبراهيم مع بينه انتفع به يعقوب فصنعه مع بنيه.
وعلى قراءة النصب يصبح أن إبراهيم أوصى بنيه عليه الصلاة والسلام، ومن جملة من حضر حفيده يعقوب.
قال الله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] اجتباكم واختاركم، ونعمة عظيمة أن يختاركم الله لهذا الدين.
ثم قال في كلمة ذات إيجاز: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] كل يدرك أنه لا يعلم متى تأتي ساعة موته، فحتى يتمسك بشيء وهو يجهل متى يموت عليه أن يلزم من الثبات والدوام على الدين.
نحرر المعنى: أراد خليل الله إبراهيم من قوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] الثبات والدوام والبقاء على الدين.