آراء علماء الأمة في نوع وجوب الدعوة
اتفق العلماء في ضوء الأدلة السابقة على أصل الوجوب إلا أنهم اختلفوا في نوعه من حيث كونه عينياً أم كفائياً ، فذهب بعضهم بالقول بالوجوب العيني ، فيما ذهب أكثر العلماء إلى القول بالوجوب الكفائي
ويكن إجمال أقوال العلماء في قولين ، وهما :
القول الأول : الدعوة واجبة وجوبا عينياً عل كل مسلم
ذهب عدد من المتقدمين مثل ابن حزم وابن القيم الجوزية وابن كثير ، كذلك من المعاصرين إلى القول بالوجوب العيني للدعوة عل كل مسلم وقد استدلوا بالأدلة الآتية :
1- قال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }
والمقصدو بحرف الجر ( من ) في قوله ( منكم ) التبيين وليس التبعيض ، بمعنى أن أمر الوجوب يشمل الأمة كلها وليس بعضها ، وهذا يعني أن الآية تأمر أمة المسلمين كلها بالدعوة إلى الله .
يقول ابن كثير : ( والمقصود من هذه الآية أت تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن ، وإن كان واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه ) .
2- قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهو عن المنكر }
حيث جعلت الآية الدعوة إلى الله سمة عامة شملت أمة الإسلام ، دون استثناء ، فدل ذلك على وجوب الدعوة عليها جميعا ً.
لذا فإن معنى الأية ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ، كونوا أمة دعاة للخير تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر .
3- إن جميع المكلفين مطالبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إما باليد أو اللسان أو القلب وأنه يجب عليهم دفع الضرر عن النفس إذا ثبت .
يقول ابن حزم في المحلى : ( والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان ، على كل أحد على قدر طاقته ، فمن لم يقدر فبلسانه ، فمن لم يقدر فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ، ليس وراء ذلك من الإيمان ) .
عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت سول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) ..رواه مسلم
4- روى الإمام البخاري في صحيح بسنده عن أبي بكرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ) ، فالأمر في الحديث يفيد العموم ، إضافة لكونه أمر بمعروف ، بوصفه أمر شرعي فهو يفيد الوجوب العيني .
..
القول الثاني : الدعوة واجبة وجوباً كفائياً
ذهب كثير من العلماء المتقدمين كالإمام العيني والغزالي والقرطبي والنووي وابن تيمية والسيوطي والفخر الرازي ، والمتأخرين ، إلى القول بالوجوب الكفائي للدعوة ، بحيث إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين ، وقد استدلوا على رأيهم بالأدلة الآتية :
1- قال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }
فحرف الجر ( من ) في قوله ( منكم ) للتبعيض مما يفيد أن المخاطب هو البعض وليس الكل.
2- ينبغي لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن تتوفر فيه الشروط التي تمكنه من أمر الدعوة كالفقه والرفق والحلم والصبر ، ويجب أن يكون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر علماء ، مع التسليم أن ذلك غير متحقق في جميع الناس ، مما يدل على أن الوجوب كفائياً وليس عينياً .
3- إن ما يجلبه الجهلة من شرور على الأمة دليل لهذا الرأي ، إذ ربما يأمر أحدهم بالمنكر وينهى عن المعروف ، أو يغلظ في موضع اللين ، أو يلين في موضع الغلظة ، لذا يجب أن يحصر أمر الوجوب على العلماء.
4- لفظ ( من ) في الآية ( ولتكن منكم أمة ) ، تفيد أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ، ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين بشكل عام ، مما يعني تعذر القول بحمل أمر الوجوب على كافة الناس.
5- قال تعالى : { فولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } ، تفيد أن التكليف متوجه للعلماء وهم بعض الأمة .
....
وفي ضوء ما تقدم ينبغي الإشارة إلى الملاحظات الآتية :
1- كل من الفريقين اتفق على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل إلا أنهما اختلفا في نوع الوجوب ، فيما إذا كان وجوبا عينيا أم كفائيا .
2- ينبغي أن يراعى أن هناك نوعان من الدعاة في الفقه الإسلامي :
أولاهما : مكلف من الدولة ويروتزق من عمله ، والفرض في حقه متعين بحكم الولاية ، ويسمى بالمحتسب ، أي القائم بأمر الحسبة ، والتي هي : ( أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله ) .
ثانيهما : المتطوع : وهو من يقوم بأمر الدعوة من تلقاء نفسه دون أن ينتظر رزقا من الدولة على إنكاره المنكر ، والفرض في حقه على الكفاية .
[ إلا أن المقصود في دراستنا هو الداعية بمعناه الشامل لمفهوم الحسبة وغيرها .]
3- ذهب بعض القائلين بالوجوب العيني إلى عدم إسقاط أمر الدعوة عن غير المستطيعين بسبب العلم مثلا ، وذلك لأنهم مأمورون بالتعلم .
وذهب آخرون إلى تقييد الوجوب بالاستطاعة ، فمن لم يكن عالماً بحكم المنكر لا يعد مستطيعا بالاتفاق .
كما أن القائلين بالوجوب الكفائي أسقطوا الوجوب على من ليس عالماً ومن كان عاجزا عن تبليغ الدعوة .
4- اشتراط العلماء العلم بالنسبة للدعاة لا يعني بالضرورة أن يكون عالماً بكل مسألة ، فمن علم بمسألة فهو مطالب بتبليغها .
5- إن من بين القائلين بأن حرف الجر ( من ) في قوله تعالى : ( ولتكن منكم أمة ) ، أنها بيانية وليست تبعيضية ، استدلوا بها على وجوب الدعوة على آحاد الأمة كلها كل حسب طاقته ، إلا أنهم قالوا : بأن الوجوب متى قام به البعض سقط الإثم عن الباقين ، واستدلوا بالعموم الوارد في قوله تعالى ( انفروا خفافاً وثقالاً ) ، فقالوا : إذا قام بأمر الجهاد طائفة ووقعت الكفاية بهم سقط الإثم عن الباقين ، مما يعني أن حرف الجر ( من ) حال كونها بيانية فإنها لا تنافي القول بوجوب الدعوة الكفائي على الأمة .
6- إن القول بالوجوب الكفائي يعني أن الأمة مأمورة بأن توجد بينها من يقوم بهذه الفريضة ، وعند تحقق وجودهم يصبح أمر الدعوة في حقهم فرض عين مع سقوط الوجوب على الآخرين ، وإلا أثمت الأمة كلها .
7- استحب أصحاب الرأي الثاني الدعوة إلى الله من جميع المسلمين وندبهم إلى ذلك حال سقوط حكم الوجوب عليهم ، وذلك بقيام من تحقق فيهم الكفاية .
......
خلاصة كل ماسبق في ملاحظتين رئيستين :
الأولى : إن الخلاف بين الرأيين يكاد بنعدم خاصة في الناحية العملية ، وذلك لأن أمر الدعوة واجب التحقق إذا انعدم المعروف أو ظهر المنكر.
الثانية : إن اتفاق العلماء على وجوب الدعوة ولزوم تصدر طائفة كافية من المسلمين للقيام بأعبائها ، يعني أن كل ما من شأنه تحقيق أمر الوجوب ، كتأهيل الدعاة وإعداد المحتسب واجب إذ ما لا يتم الواجب به فهو واجب ، وما دام الأمر كذلك فإن الأمة مطالبة شرعا بالدعوة وإعداد الدعاة ، وأي تقصير في ذلك فإنه يترتب عليه إثم على الجميع ، كلا بحسبه.