* كتب - حمود محمد القصيري الحربي (*):
برحيل الشاعر الكبير صياف الحربي، فقدت الساحة الشعرية علماً من أعلامها القلائل، ورائداً من روّاد المحاورة الأفذاذ، بل مدرسة الواقعية في شعر المحاورة .. شاعر موهوب، ونجم لامع في سماء شعر القلطة، عرفته حلبات المحاورة لأكثر من خمس وثلاثين سنة حتى اعتلى قمتها .. إنه شاعر موهوب بما تعنيه الكلمة من معنى، وهو الوجه المشرق الأصيل لهذا النوع من الشعر الشعبي المرغوب، نقي السريرة سمح المحيا، محبوب لدى جميع أطياف المجتمعات في المملكة ودول الخليج العربي وغيرها .. له صفات النباهة والألمعية، فهو حاضر الذهن، متقد الذكاء، عبقري يغرف من بحر، وبحر يصعب سبر أغواره، له نفس طويل، فهو كما وصفه سلفه في القلطة من شعراء قبيلة حرب الشاعر - معيض العجي حين قال: (إن صيافاً كالجنيه كلما طالت الملعبة وازدادت المحاورة نديّة، زاد هو بريقاً ولمعاناً وتألُّقاً حتى يتضح ضعف خصمه، لكنه لا يحب النعرات والعصبيات القبلية، ولا يسمح للشاعر المقابل أن يهبط بمستوى المحاورة بل يحاول أن يرتفع بها إلى الأعلى).
سيرة عبقري القلطة ورائدها
ينتسب صياف بن عواد بن شميلان إلى فرع آل محيمد من السحمان أحد فروع قبيلة عوف المشهورة من مسروح من حرب.
وُلد في حدود عام 1361هـ بمنازل قومه في وادي النقيع بمنطقة وادي الفرع الواقع إلى الجنوب من المدينة المنورة في حدود (80) كيلاً، وعاش في كنف والده ورعايته الخاصة حيث توفيت والدته وهو طفل صغير، فرافق صياف والده في الكثير من الرحلات وحضر معه مجالس البادية ومحافل الشعراء ومسامراتهم في المناسبات الاجتماعية، فقد كان والده حافظاً للشعر مما أثر في نفس الطفل وحدد ميوله المبكر الذي تولّدت معه شاعريته المتدفقة .. فقد فاجأ أباه والحاضرين معه ذات مساء حينما امتحنه أحد كبار شعراء قبيلته آنذاك (مهيل السحيمي) الذي قرأ في جبين هذا الصبي ملامح النبوغ فقال بيتاً على طرق المحاورة، يروي لي صياف - رحمه الله - تلك القصة بدقة فيقول: سمعت البيت وحفظته جيداً وجهزت الرد لكنني سكت حتى خفت ضوء النار الذي كان هو مصدر الإضاءة فقلت: اسمع الرد يا مهيل، وبعد أن انتهيت نظر الشاعر الكبير إليّ بإعجاب، وقال لأبي: إن ابنك سوف يكون شاعراً مقتدراً. وقد تفجّرت هذه الموهبة مبكراً وبدأ تجربته في شعر المحاورة في محيطه ومن ثم في منطقة الرياض بعد التحاقه بالعمل العسكري بالحرس الوطني في حدود عام 1381هـ وفي منطقة نجران حيث أضاف لنفسه تعلُّم شعر العرضة والشقر وغيرها.
وبعد انتقاله لجدة واستقراره فيها، قارع كبار فحول شعر المحاورة في الحجاز آنذاك أمثال: عبد الله المسعودي ومحمد بن تويم، ومحمد الجبرني ومطلق الثبيتي - رحمهم الله -، ومعيض العجي وأبوناب ومستور العصيمي وجار الله السواط وشليوع بن شلاح وغيرهم، فكان حضوره قوياً في مستوى عمره من حيث سرعة الرد وقوة المعنى وسلاسة العبارة والرمزية المتناهية، وقد بارز في بداياته سبعة شعراء في وقت واحد ورد عليهم وباقتدار مما لفت نظر الجمهور إليه. فهو لا يتأثر بشخصية خصمه بل عرف عنه أنه يقوى إذا وقف أمامه شاعر كبير، ولا ينفعل بسرعة ويحترم خصمه.
يقول رحمه الله:
الكلام اللي يزل عن الحقيقة ما ولفته
ما اقدر أزعّلك وانته رجل تقرا ما تقّرا
لكنه معتز بنفسه وبموهبته، حيث يقول في بيت آخر رداً على شاعر من فحول الشعراء المعروفين:
الكلمة اللي قلتها والله لاخليها عدم
حتى الفشق منها يموت ولا تثور الثايرة
وفي موقف اعتزاز حينما هاجمه شاعر آخر وذكر عدداً من الشعراء الكبار الذين يخوف صيافاً منهم فرد عليه بقوله:
الحريبي يوم غنا حطكم في راس كمه
ثم خلاكم عجينه كن ما فيكم عظامي
ويقول في موقف آخر:
كم فارس قبلك يلوّح لي سلاحه وانهزم
والخوف يابو زيد ما فك القلوب النايرة
ثم يفاخر من باب المداعبة لأحد الشعراء الذي أراد التعالي عليه .. يقول:
ليا شافني بعض العرب ينثني ساقه
ولا كل شاعر في الملاعب يلاعبني
مارس - رحمه الله - هذا الفن (شعر المحاروة) ممارسة العاشق وأخلص له بكل جهده فجمع بين الإبداع في اللحن والتجديد في التنغيم والألحان والتزجيعات، وكذلك المعنى المعجز للخصم فهو المشهور بذلك، فحينما يصل الأمر إلى مطلب التعتيم والطلسمة فهو يختار العبارات القوية التي يتخالف فيها المفسرون، كما يقول في بيت له:
بعض السوالف لها بطن وظهر
ما كل واحد يعرف أسرارها
أما شعر النظم فهو يقرضه لكنه مقل نظراً لميوله لفن المحاورة وانشغاله بها، ويحوي ديوانه بعضاً من شعره المنظوم.
يتصف صياف بالخلق وبالأريحية والبساطة فهو لا يشعرك بمكانته الشعرية الرفيعة، لا يتحدث بالشعر إلاّ إذا أجبرته على ذلك بسؤاله عن قصيدة أو محاورة، لا يجب وصف الشعراء أو تفنيدهم ولكنه كثير الثناء والإطراء لهم.
جلست معه في منزله ورافقته في السفر وحضرت معه ميادين المحاورة، حينما كنت أسجل محاوراته وأدوِّنها في مسودات ديوانه، فاكنشفت بعض ملامح شخصيته ومنها:
- دقّة ملاحظته ونقده لبيت الشعر ونبذه اللفظة الشاذة قبل المعنى.
- معرفته لمفردات الشعراء قديمهم وجديدهم فهو يقول لكل شاعر بصمة خاصة.
- رددت أمامه محاورات قديمة له مع عبدالله المسعود والجبرني وغيرهما، فطلب مني أن يتذكر لحنها ثم رددها فصحح الخطأ وأخرج المفردة التي أدخلت على البيت وهي ليست منه.
- يعترف أن شعر المحاورة رمزي ولا يجب على الشاعر أن يبقى حتى يصل إلى المعنى المطلوب ولكنه يرد بالدوران حوله حتى لا يضعف أمام الجمهور.
- لا يحضّر ولا يذكر أنه قام بتحضير أي مقدمات لملاقاة الشاعر مهما كبرت شخصيته ويعد هذا نقصاً في شاعر المحاورة.
- سريع البديهة فهو قد يتحدث مع الجالسين أو الصحفيين داخل المحفل، وعندما يصل إليه الدور في الرد يسأل الشاعر عن البيت أو يسمع الصف ويقوم بالرد فوراً ويقول إنه يهتم بالأفضل أمّا الأبيات فهي تتناثر أمامه ويختار أفضلها.
- لا يخرج من الملعبة أو يعتذر لوجود شاعر أقل منه بل يأخذ بيده ويرتاح لذلك فهو قمة في كل شيء ومعلم مخلص للشعر.
من توجيهاته الشعرية وتلميحاته الذكية
* خل مشيك هويّن لا تطير الهدوم - ثم أصورك طيارة بجنحانها
* غيرت فالهرج وأخلفته - مريتها وانت متعدي
* لا تجيب السالفة وانت في ظلما وليل - ثم تلقى أم الكباير على برادها
لكن عندما يتمادى شاعر مبتدئ للتجرؤ عليه ينبهه بأنّ منهجه غلط في المحاورة .. يقول:
كم جمال بركت للحمل وتشله
لين عوّد يحزحز في غواريها
ويقول:
ما فيه بالدنيا غريب ولا شباب بدون شيب
والكحل ما كل العيون السالمة يصلح لها
ومع هذه المعالجات التي كان صياف - رحمه الله - يمتاز بها في الملعبة، فقد كان مبتسماً لخصمه وللناس ولا يميل للاستعلاء على الناس وحب الظهور، فهو محبوب بهيئته وشعره وتعامله. وقد لقِّب بألقاب كثيرة منها (شاعر الخليج، شاعر حرب، معجزة شعراء المحاورة).
من أقوال أعلام المحاورة الكبار عن صياف
* مطلق الثبيتي - رحمه الله - : (صياف أستاذ ماهر ويتميز بالذكاء والفطنة وسرعة البديهة ومن الصعب إحراجه).
* أحمد الناصر الشايع: (صياف من معلمي الشعر ومن لم يستفد منه لن يجيد شعر المحاورة، متأدب مع الخصم، يجيد الرد على أي طارون يوجه إليه وبيته مليان).
* رشيد الزلامي: (سطع نجم صياف ثم استمر يعلو ويبرز حتى اعتلى قمة شعر الرد، حلو اللفظ، سهل العبارة، قوي المعنى والإدراك وله منهج مرغوب في المحاورة ولا يحب خلق المشكلات مع خصمه فهو نموذج يحتذى).
* جار الله السواط: (هو بحر لا يعرف له قرار يختار الألفاظ ببساطة ويلبس المعنى العميق برداء ظريف).
* مستور العصيمي: (إنه شاعر ذكي ومتطور خلوق لا يحب الخطأ ولا يرضاه على نفسه، لا يخرج عن معنى الشاعر الخصم حتى يخرج الشاعر وهو قمة في كل شيء).
* علي الهجلة المطيري: (صياف فارس لا يشق له غبار في شعر المحاورة وعلم من أعلامها).
* أبو مشعاب: (هو مدرسة شعرية قائمة بذاتها سلس الكلمات له أبيات تميل إلى الحكمة ولا يمله الناس، خلقه رفيع ومعناه عميق).
* حبيب العازمي: (صياف من عمالقة شعر الرد الذين لا يتكررون، يطرح المعنى لخصمه بطريقة لا يفهمها إلا الخصم الذكي ويعرف كيف يتخلص من المعنى المحكم عليه).
رحم الله صيافاً فقد تسابق الناس من متذوِّقي الشعر والشعراء على إعطائه ما يستحق من الثناء والذِّكر الذي ينزله منزلته، وعزاؤنا لأُسرته خاصة وللأُسرة الشعبية ومحبيه كافة.
ونظراً لأنّني اعتزم إن شاء الله إصدار الجزء الثاني من ديوان صياف، فإنّني أهيب بكلِّ محبيه ممن لديه محاورات أو قصائد نظم لم تُطرح في الجزء الأول، أن يبعثها لنا لضمِّها لما لدينا في الجزء الثاني إن شاء الله، على صندوق البريد ص. ب 45279 الرياض 11512
(*) مؤلف ديوان (صياف الحربي)