-لا يسعني كتم العلم!:
لما كان الامام ابن تيمية صادعاً بالحق، عقد له مجلس وأمر فيه بالانتهاء عن الافتاء، وصار غير مرخص له بالفتيا، فماذا فعل؟ يقول ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة ابن تيمية:
(ثم بعد مدة عقد له مجلس ثالث بسبب ذلك، وعوتب وحبس بالقلعة..، ومنع بسببه من الفتيا مطلقة، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: "لا يسعني كتم العلم" ).
وفي حادثة أخرى حكاها ابن تيمية عن نفسه حيث يقول:
(يجيئني الرجل المسترشد المستفتي بما أنزل الله على رسوله ، فيسألني مع بعده ، وهو محترق على طلب الهدى، أفيسعني في ديني أن أكتمه العلم؟! ) [الفتاوى 3/258]
هذا وهوشخص واحد من أهل العلم يرى أنه لا يحق للسلطان منع المؤهلين من الفتيا، فكيف بمن يريد منع عامة العلماء إلا من يوافقه الرأي!
وهذا الصدع بالحق من العلماء حتى لو لم يرض السلطان ليس شأن ابن تيمية فقط، بل هذا شأن السلف، كما وقع من مالك في مسألة طلاق المكره حتى جلد، وكما وقع من الإمام ابوسماعيل الأنصاري حيث يقول عنه الذهبي:
(كان سيفاً مسلولاً على المخالفين، وطوداً في السّنة لا تزعزعه الرّياح، وقد امتحن مرّات، قال الحافظ محمد بن طاهر: سمعت أبا إسماعيل الأنّصاري يقول بهراة: "عرضت على السّيف خمس مرّات، لا يقال لي: ارجع عن مذهبهم، لكن يقال لي: أسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت) [تاريخ الإسلام، الذهبي، 33/54]
وقصص السلف في الصدع بالحق كثيرة جداً ليس هذا موضع إيرادها، وكنت قبل سنتين قد جمعتها من سير أعلام النبلاء مبتدأً من عصر صغار الصحابة حتى أواخر القرن الثالث، فكانت مادة هائلة تعكس ضعفنا المعاصر في الصدع بالحق، وأتمنى أن تتاح فرصة لاحقة لتحريرها ونشرها.
والمراد أن أساس الخلل في هذا القرار هو الخلط بين (المنع العام) و (المنع الخاص)، فالمنع العام بأن يمنع جميع العلماء من بيان الحق إلا من يختارهم سلطان معين، وأما المنع الخاص فبأن يمنع الجاهل وصاحب الهوى ومن ظهرت مخالفته لصرائح النصوص ونحوهم.
فالأول، أعني المنع العام، هذا معلوم البطلان بالقطع من الشريعة، ولا يعرف له سابقة في تاريخ الإسلام، ويلاحظ أن القرار أشار للمنع الخاص، وبنى عليه المنع العام، وهذا خلط واضح.
ومما يدل على مخالفة هذا القرار للشريعة قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ** إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة، 159-160].
فهذه الآية من تدبرها علم قطعاً بطلان هذا القرار الذي يريد أن يربط بيان ما أنزل من الكتاب بقرار سياسي، فهذا واجب من الله على كل عالم، ولا يجوز للقرار السياسي أن يقيد الواجب الذي أوجبه الله على العلماء.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الشهير في الصحيحين (الدين النصيحة ثلاثاً، قيل: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم).فإذا كانت النصيحة واجبة على المسلمين لولاتهم فكيف يستأذن الولاة في النصيحة؟!
وفي السنن بسند صحيح (من سئل من علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)،فكيف يكتم العلم إلا بترخيص؟!
فإذا كان لا يجوز الصدع بالحق إلا بترخيص، فلماذا سمي صدعاً بالحق إذن؟!
ومما يدل على مخالفة هذا القرار للشريعة أن الفتيا بإجماع الفقهاء عن بكرة أبيهم (فرض كفاية) وعلى ذلك فإذا لم يقم المفتون المرخص لهم بالفتيا والبيان في منكرٍ من المنكرات وجب على غيرهم أن يقوموا بالبيان والإنكار والاحتساب.
اتفق الأصوليون عن بكرة ابيهم على أن المقلد هو الذي يجتهد في البحث عن الفقيه الذي يستفتيه بحيث يختار الأعلم والأتقى، ولم يقل أصولي واحد بجواز أن يمنع الناس من اختيار الفقيه الذي يرضونه!
وأما قولهم أن الفتاوى الخاطئة تجعل من السائغ منع الناس جميعاً من الفتيا إلا بإذن، فهذا مردود بكون الخلل في الفتيا وقع في عصر النبوة ولم يمنع الناس منعاً عاماً، بل منع المخطئ فقط، كما في حديث صاحب الشجة الذي أفتوه أصحابه في مسألة في التيمم خطأ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟! فإنما شفاء العى السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده).
وهذا الحديث رواه ابوداود وصححه ابن الملقن في البدرالمنير واعتمد عليه عامة الفقهاء في كتاب التيمم، والمراد أن هذا الخبر النبوي يوضح كيف تعامل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع ظاهرة الخطأ في الفتيا بالمنع الخاص لا بالمنع العام.
ولقد كان أهل العلم المحققين في شتى بقاع الإسلام يضجون من (التعصب المذهبي) الذي يحمل فيه الناس على (مذهب فقيه) بعينه، ويرون ذلك مخالفاً للشريعة، فكيف بالتعصب السلطاني الذي يحمل فيه الناس على المفتين الذين يختار فقههم سلطان بعينه؟! فكل ما قاله أهل العلم في إلزام الناس بمذهب بعينه فهو موجود وأضعافه في إلزام الناس بالمفتين الذين يختارهم سلطان بعينه.
بل إن الإمام ابن تيمية يرى أن ما تضمنه القرار من حمل الناس على مفتين معينين يختارهم السلطان يدخل في الحكم بغير ما أنزل الله كما يقول:
(وولي الأمر إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتى يعرف الحق حكم به؛ وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا؛ ترك المسلمين على ما هم عليه، كل يعبد الله على حسب اجتهاده؛ وليس له أن يلزم أحداً بقبول قول غيره وإن كان حاكمًا، وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله ووقع بأسهم بينهم، وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول) [الفتاوى، 35/387]
وأما ما جاء في القرار الملكي من قصر النهي عن المنكر على أصحاب الولايات حيث يقول القرار (ولا شك أن للاحتساب الصادق جادة يعلمها الجميع ، خاصة وأن الذمة تبرأ برفع محل الاحتساب إلى جهته المختصة)، (وفي مشمول هؤلاء كل من أولع بتدوين البيانات).
فهذا أيضاً خطأ مخالف للشريعة، فالجهة المختصة وهم أصحاب الولايات لهم قدر زائد وهو التغيير بالقوة والإلزام، بخلاف عامة المسلمين فعليهم واجب النهي عن المنكر باللسان والقلب والمخاطبة والمناصحة ونحوها بلا ولاية، وأهل العلم في كتب الحسبة يبينون دوماً الفرق بين المحتسب الذي يملك ولاية وعامة الناهين عن المنكر، بل نقل الجويني الإجماع على أن الإنكار ليس محصوراً في أهل الولايات، كما يقول النووي في شرح صحيح مسلم:
(قال العلماء: ولا يختص الامر بالمعروف والنهى عن المنكر باصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين، قال إمام الحرمين: والدليل عليه اجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذى يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين اياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من غير ولاية)
بل ذكر الغزالي ملحظاً لطيفاً وهو أن فرض استئذان الولاة للنهي عن المنكر هو منكر في حد ذاته يجب إنكاره! حيث يقول الغزالي في إحياء علوم الدين:
(واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، بل كل من أمر بمعروف؛ فإن كان الوالي راضيا به فذاك، وإن كان ساخطا له؛ فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه، فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه)
وهذا المعنى الذي ذكره الغزالي معنى طريف وتعليل بديع للغاية.
وهذا المعنى الذي ذكره العلماء هو الذي دلت عليه النصوص، كحديث (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ولو كان إنكاراً بإذن لم يكن جهاداً أصلاً، بل ولا كان أفضل الجهاد!.
وحديث (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأنكر عليه فقتله) فلو كان مأذوناً له لم يقتله.
وهكذا كان الصحابة ينكرون بقوة وبلا إذن، ففي صحيح مسلم (عن عمارة بن رؤيبة قال: رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه، فقال: "قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يزيد على أن يقول بيده هكذا" ) [مسلم، 2053].
وجاء في فتاوى ابن عثيمين أنه سئل:
(هل يجوز لمن أراد أن ينكر المنكرات أن ينكرها على المنابر، وهل هذا هو منهج أهل السنة والجماعة؟ الجواب: أما المنكرات إذا شاعت فلابد أن تنكر على المنابر) [لقاء الباب المفتوح، ل94]
ومن مفاسد هذا القرار تهييج الغضب في نفوس الشباب المتدين، عبر كبت العلماء المستقلين من قول كلمة الحق، وكلمة الحق من أعظم مصادر التنفيس السياسي، ولا تنفجر إلا الأنابيب المغلقة، وإغلاق الطرقات المشرعة يلجؤ الناس لحفر الأنفاق المظلمة.
وأما من يقول من العلماء أو الدعاة إنني أخشى كذا، وأخشى كذا، فالجواب أن الله تعالى بين أن تبليغ الدين لا ينفك عن الأذى والخوف من تسلط النافذين، ودواء ذلك، بل أنجع دواء على الإطلاق، هو "تجريد التوحيد" بأن لا يخاف الداعية إلا من الله كما قال تعالى (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) [الأحزاب، 39].
فلا يستجلب حفظ الله بمثل طاعة الله جل وعلا، ولا يستجلب الحفظ بمعصية الله أو بالتقصير في تبليغ دينه أبداً.
هذا بالنسبة للموقف الشرعي من القرار، أما موقف الإسلاميين من القرار فقد رأيتهم انقسموا ثلاثة أقسام: فريق فهموا القرار على ظاهره، وهو أنه يستهدف إيقاف الصوت الشرعي المعارض للمشروع التغريبي، وهؤلاء وقفوا منه موقفاً سلبياً ونشروا مواقفهم إما بتعليقات على الشبكة أو في استضافات فضائية.
والفريق الثاني: سعى إلى تأويل ألفاظ القرار لحملها على معنى شرعي صحيح، وصاروا يمدحون القرار ومقصودهم المعنى الشرعي الذي أبانوه، لا ظاهر القرار، وحجة هؤلاء أننا في معركة مع الليبراليين وليس من مصلحتنا أن نسلمهم القرار ببساطة ونقر أنه ضد الدعوة وأهلها، وهؤلاء اجتهادهم اجتهاد دعوي مقبول، وهم مشكورون على كل حال، ورأيت بعض الأفاضل ممن ينتقد القرار يشنع على هؤلاء الإخوة، وهذا خطأ، فالفرق بين الفريق الأول والثاني أشبه باختلاف الوسائل لا اختلاف المقاصد، واختلاف الوسائل يدخل في اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.
وأما الفريق الثالث: فقد مدح القرار مدحاً مطلقاً دون أن يحمله على معنى شرعي صحيح، وهؤلاء قليلون جداً، لكن موقفهم موقف خطير لتضمنه إقرار معنى باطل وإضفاء الشرعية عليه، وهو أن يتدين الناس بالدين الذي يختاره السلطان، لا باجتهادهم هم في اختيار من يرضون دينه.
ومن الأمور المستغربة عدم قابلية القرار للتطبيق، فلا الإعلام سيسكت عن إثارة الفتاوى التغريبية تحت ستار أنها رأي لا فتوى، أو مجرد عرض للخلاف الفقهي لا فتوى، ولا المشايخ المستقلين سيسكتون عن الصدع بالحق فليس لديهم رخص سيخسرونها، وهؤلاء هم طرفي المعادلة (الإعلام – العلماء المستقلين) وكلاهما لن يسكت عن الكلام في المسائل الشرعية، فإذا كان طرفا القضية لن يسكتا فما فائدة القرار إذن؟!.
وأي جهة سياسية تصدر أمراً من الصعب تطبيقه فإنها تصرف من رصيد هيبتها، فالحقيقة أن من أشار على الديوان بإصدار القرار لم يستهدف لهم الخير أبداً، فهذا فيه هز لهيبة القرارات الملكية، بتجرئ الناس على انتهاكها، وهذا ليس في مصلحة الجميع بتاتاً، بل من مصلحة الجميع أن تبقى الجهات التنظيمية لها احترامها، فبإجماع الباحثين في العلوم السياسية أن دولة النظام من أهم مؤشرات النضج السياسي، وليس من مصلحتنا جميعاً أن تصبح الأمور فوضى.
ثم إن القرار لاثمرة له عملياً، ولنأخذ مثالاً على ذلك، لنفترض أنه أنشئت جامعة أخرى مختلطة على غرار كاوست، وتهيب المرخص لهم بالفتيا من الفتيا خوفاً من أن تسحب رخصهم، فهاهنا يجب على غير المرخص لهم من أهل العلم أن يصدعوا بالحق، وعليه فإن فكرة هذا القرار لا فائدة لها عملياً في تقييد العلماء المستقلين.
على أية حال .. هذا القرار ليس قراراً عفوياً وتلقائياً، بل هو قرار خرج من رحم معركة، وآثار جراحات كاوست، وقرار تأنيث الصبيان، وقرار تكشير الفتيات؛ بادية عليه، فيجب أن نفهمه في هذا السياق.
وهل المقصود من هذا النقد تجرئ الناس والشباب على الفتيا؟ لا، قطعاً، ليس هذا المقصود، بل ما من طالب علم يزداد إيمانه وعلمه إلا ونقصت جرأته على الفتيا، سيما إذا استحضر قوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر 60]، وقوله تعالى (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود، 18] ، وكل من تكلم في المسائل الشرعية بلا بحث ولا علم فقد وقع في الكذب على الله، فليستعد ليوم يكون فيه وجهه مسوداً، بل ومن أكثر مشاهد سيرة السلف بهاء تلك الهيبة التي تعتريهم عند الفتيا، لاستحضارهم عظمة الله وكونهم يتكلمون عنه وينسبون إليه، ولكن المقصود إنكار الرغبة في منع كلمة الحق في الفتيا والاحتساب، لا تجرئ الشباب وصغار طلاب العلم على الفتيا.