ملتقى قبيلة حرب الرسمي

ملتقى قبيلة حرب الرسمي (http://www.m-harb.net/vb/index.php)
-   الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام (http://www.m-harb.net/vb/forumdisplay.php?f=47)
-   -   محاسن التأويل سورة الكهف (http://www.m-harb.net/vb/showthread.php?t=154295)

طلق المحيا 09-01-17 11:52 PM

محاسن التأويل سورة الكهف
 
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

منقول من سلسلة محاسن التأويل

سورة الكهف

للشيخ صالح المغامسي
جزاه الله خير.

طلق المحيا 09-01-17 11:52 PM

كتاب الله العزيز أعظم المعجزات، وأكبر الآيات، أنزله تبارك وتعالى سليماً من الاعوجاج والخلل، معافى من أي نقص، فاستحق الحمد جل شأنه على ما أنزل. ثم قرر حقيقة هي من أجل الحقائق ومن أعظم البراهين وهي أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وقد أعظم الفرية من قال بهذا؛ لأنه لا يملك في حوزته دليل على مثل هذا الشيء. وأخبر جل في علاه عن فتية في غابر الزمان آمنوا بربهم ففروا بدينهم إلى كهف ليستحيل بعد ذلك إلى حصن منيع، فآواهم ربهم فيه أعظم الإيواء، ورعاهم برعايته، وحرسهم بعينه التي لا تنام.

طلق المحيا 09-01-17 11:53 PM

القضايا التي عنيت بها سورة الكهف وسبب نزولها
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

سنشرع -بإذن الله تبارك وتعالى- في تفسير وتوضيح وبيان محاسن التأويل في سورة الكهف، ونحن بدراستنا لسورة الكهف نأخذ نوعاً من الانتقاء، فما مضى من الدروس كان يعنى بقصار السور، ومعلوم أن هذا البرنامج أو هذا اللقاء العلمي المبارك، إنما يعنى بتفسير القرآن بحسب ترتيب نزوله قدر الإمكان، ولا نعلم ضابطاً يضبط كل ما أنزل حسب ترتيبه لكننا -كما قلنا- حسب الإمكان العام، وحسب ما تبين لكثير من أهل العلم، وقد مضى القول في سورة (اقرأ) و(المدثر) و(القلم) و(الضحى) و(المسد) (والشمس وضحاها) ثم ننتقل اليوم إلى سورة الكهف.

وسورة الكهف مكية باتفاق إلا آيتين منها اختلف فيهما، لكن الأظهر أن جميع السورة مكية، هذه السورة من التلاد القديم، وفق تعبير عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهو أحد كبار الصحابة الذين أخذوا القرآن رطباً من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآراؤه في القرآن قوية معتبرة أكثر من غيره؛ لأنه كان يأخذ القرآن من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله في ذلك أقوال تبين رسوخ قدمه في علم القرآن.

سورة الكهف عنيت بعدة قضايا، ومن أجلها بلا شك: موضوع العقيدة، وهذا شأن السور المكية كلها، لكن عندما نقول: أن موضوع العقائد هو شأن السور المكية لا يعني ذلك أن السور المدنية لم تعنَ بالعقائد، وإنما المقصود: أن السور المكية قلما يكون فيها تشريع، والسور المدنية تعنى بالعقائد كذلك وهي محتوية على تشريع؛ لاستقرار الإسلام ووجود المجتمع المسلم والدولة الآمنة التي يمكن إجراء الأحكام الشرعية على أفرادها.

يقال في سبب نزول أول سورة الكهف: أن قريشاً بعثت إلى يهود تسألهم عن النبي الذي خرج عندهم ومن بين أظهرهم، وكانت قريش تقول لليهود: إنه فقير يزعم أن بين كتفيه خاتم النبوة، وأنه يتيم.. إلى غير ذلك، وكانوا يذكرونه بأوصافه التي يرون أنها معيبة ومنقصة، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يكون فيه شيء من ذلك.

فقالت لهم اليهود من باب الإرشاد: سلوه عن فتية ضاعوا في الزمن الأول، وسلوه عن ملك طواف، وسلوه عن الروح، فإن أجاب عنها فهو نبي وإلا فهو رجل يتقول، فلما عاد ذلك البعث القرشي إلى مكة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن: فتية ضاعوا في الزمن الأول، وعن ملك طواف، وعن الروح، فأجاب القرآن عنها في هذه السورة.

طلق المحيا 09-01-17 11:55 PM

سبب تسميتها بسورة الكهف
سميت بسورة الكهف؛ لذكر اسم الكهف فيها، قال جل شأنه: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9]، لكنها تعرضت لجملة من القضايا العديدة غير قصة أصحاب الكهف، لكن القرآن -كما بيناً- أحياناً يسمى بالقضية الأشهر في السورة، والله جل وعلا يتعرض لقصة أصحاب الكهف في القرآن الكريم وإنما ذكرها في هذه السورة فقط، نظيره في القرآن قصة يوسف، فإن الله لم يتعرض ولم يذكر في القرآن قصة يوسف بالتفصيل كما جاء في سورة يوسف، وإنما جاء ذكر يوسف كنبي فقط في سور متعددة كما في غافر وكما في الأنعام وغيرهما، وهذا نظيره سورة الكهف.

جاء في فضلها أنه يستحب قراءتها في يوم الجمعة، كما جاء في فضلها: (أن من قرأ أولها -في رواية أخرى- أن من قرأ أواخرها حفظ من فتنة الدجال)، وقد قال العلماء في بيان العلة في هذا: أن هؤلاء الفتية منّ الله عليهم بالوقوف أمام ملك جبار طاغية، فكان من قرأ أوائل سورة الكهف التي تذكر خبرهم جعل هذه القراءة سبباً في العصمة من الدجال ، فـالدجال نظير ذلك الطاغية في الزمان الأول وقراءة سورة الكهف نظير الأخذ بالسبب الذي فيه عصمة من فتنة الطغاة.

من فوائد السورة: أنها تبين أن أحوال المؤمنين تختلف، فإذا كانت العصبة المؤمنة لديها قدرة على محاربة أهل الإشراك، والعدد شبه متكافئ والقوة شبه متقاربة فإنه يتأكد الجهاد في حقهم، أما إذا كان هناك بون شاسع ما بين الفئتين فلا يتأكد الجهاد، إلا أن يكون هناك أمر رباني بعينه، لكن الأصل أنه لا يتأكد الجهاد، وفي هذه الحالة فإنه يحسن الفرار، وليس الفرار هنا هو الفرار من الزحف، ولكن الفرار بالدين، والفرق بين الأمرين هو أن هذا الفرار ما يسمى بالهجرة أو الاعتزال، لكن بعض العلماء كما صنع السيوطي رحمه الله في الإكليل أبعد النجعة، فجعل أن مجرد وجود الفساد داع إلى العزلة وهذا غير صحيح، ولا يسلم بهذا الإطلاق؛ لأن الفساد لا يخلو منه زمان، لكن الإنسان ينظر إلى الأمر بجملته، وينظر إلى قدراته على التكيف مع الأمر، وإلا فإن الفساد لا يخلو منه زمان ولا مكان، وقد كان حتى في عهد النبوة شيء من ذلك، هذا المستسقى الأول من معين هذه السورة، ولعلنا إذا دخلنا في طيات التفسير يتضح لنا أشياء أكثر من ذلك.

طلق المحيا 09-01-17 11:56 PM

تفسير قوله تعالى: (الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب ...)
قال الله جل وعلا في فاتحتها: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، وهذه السورة واسطة العقد في خمس سور افتتحها الله جل وعلا بحمد ذاته العلية، وهي سورة الفاتحة وسورة الأنعام، الواسطة الكهف، ثم سبأ، ثم فاطر، ولا يوجد غيرهن في القرآن افتتحها الله جل وعلا بحمده.

قال ربنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1] وجه الربط ما بين حمده جل وعلا وثنائه على ذاته العلية وما بين إنزال القرآن يستبين منه أولي النهى: أن إنزال القرآن من أعظم النعم، ولذلك ذكر الله جل وعلا الحمد في هذه السورة، فالرب الذي أنزل على عباده القرآن العظيم هداية للطريق الأقوم مستحق جل وعلا للحمد والثناء، وفيه بيان شرف وفضل ورفيع القرآن.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، العبد هنا المقصود به: النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، (والكتاب): الألف واللام في الكتاب للمعهود الذهني، المراد به القرآن العظيم.

(أنزل)، وهنا لابد من مبحث علمي؛ لأنه سيتكرر كثيراً، وعلى كل طالب علم إذا ضبط المسائل بجملة، وعرف طرائقها فإنه يستريح كثيراً في تفسير الآيات.

والإنزال في القرآن ورد مطلقاً وورد مقيداً، مع اتفاق السلف على أن المراد بالإنزال أنه يكون من أعلى إلى أدنى، وقلنا: إن الإنزال في القرآن ورد مطلقاً وورد مقيداً، وسنأخذ التقييد ثم نعرج على المطلق؛ لأن المطلق سنحيله بعد ذلك على المقيد.

فقد ورد الإنزال مضافاً إلى الرب تبارك وتعالى بمعنى أن يقال منزل من عند الله، وهذا لم يرد في كلام الله الإنزال على أنه من عند الله إلا في ذكر إنزال القرآن، قال الله جل وعلا: تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2] فهذا إخبار أنه منزل من عند الله، وقال جل وعلا: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ [النحل:102]، وقال جل ذكره: تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:80]، فأخبر جل وعلا أنه منزل من عنده، بنعته وبقوله جل وعلا، وهذا التقييد الأول، ولم يرد إلا في القرآن، أنه منزل من عند الله.

التقييد الثاني: أن يخبر أنه منزل من السماء: والسماء اسم جنس لكل ما علا، فقد أخبر الله جل وعلا عن أشياء أنها منزلة من السماء، قال الله جل وعلا: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [البقرة:22] والمقصود بالسماء هنا: السحب، بدليل قوله جل وعلا: أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ [الواقعة:69]، وبدليل قوله سبحانه: وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا [النبأ:14].

ومما أخبر الله جل وعلا أنه من السماء: العذاب، قال الله جل وعلا: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:59] فأخبر الله جل وعلا: أن الرجز من السماء.

ومما أخبر الله أنه أنزل من السماء قوله جل ذكره: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:95] فأخبر الله جل وعلا أن الملائكة تنزل من السماء، ولا ريب أن السماء في الرجز، والسماء في الملائكة، والسماء في الماء تختلف كل بحسبه لكن المقصود أن تفقه أن الإنزال في هذه الآيات مقيدة، لكنه لم ينسب أنه من عند الله، فلم ينسب الله جل وعلا شيئاً أنه من عنده إلا القرآن، وهذا التقييد.

الإطلاق: هو أن الله يذكر الإنزال ولا يذكر جهته، أو لا ينسبه إلى شيء معين، ومنه قول الله جل وعلا: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد:25]، وقوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6]، فهنا لم يخبر الله جل وعلا من أين نزل، فيقال فيه: أن كل شيء بحسبه.

والإطلاق يحمل على المقيد الذي أخبر الله جل وعلا أنه من عنده، فالإطلاق الذي لم يذكر الله عز وجل فيه جهة النزول يحمل على التقييد الذي فيه أن إنزال القرآن أخبر الله أنه من عنده.

فقول الله جل وعلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا [الكهف:1-2] ولم يخبر الله عن جهة الإنزال، ومثله قول الله جل وعلا: تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:80]، وقوله: تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2] إلى غيرها مما ذكرناه آنفاً.

من هنا: نفهم ونعتقد ما كان يعتقده سلف الأمة من قبل وهو: أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، اتفق السلف على هذا وأجمعت الأدلة عليه، وخالف في ذلك البعض من أصحاب الفرق الضالة لكن لا عبرة بخلافهم.

هذا معنى الإنزال، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا [الكهف:1-2]، تعلمون يقيناً أن هناك سكتة ما بين (عوجا) وما بين (قيما)، والسكتة وجدت لسبب مهم جداً، وهو أن الله قال: (لم يجعل) هذا نفي أنه لم يجعل له (عوجا)، لكن الله جعل القرآن (قيما) فلو قرأناها من غير سكتة لأوهم هذا أن يفهم أن القرآن لا عوجاً ولا قيماً، وهذا ليس مقصود كلام الله، وإنما المقصود نفي العوج، وليس المقصود نفي أنه قيم.

قال الله جل وعلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا [الكهف:1-2]، فـ(عوجا) مفعول لـ(يجعل)، وجملة: (ولم يجعل له عوجا) الجملة الفعلية كلها: حال من (الكتاب)، وكذلك (قيما) حال آخر، حال ثانٍ من (الكتاب).

إذاً: وصف الله جل وعلا الكتاب بحالتين: أنه أنزله على حال ليس بها عوج، وعلى حال أنه قيم، وهنا تفقه لماذا وجدت هذه السكتة اليسيرة ما بين (عوجا) وما بين (قيما).

وقد خالف في هذا الزمخشري رحمه الله لكن نفيه لهذا الأمر غير صحيح؛ لأن تعدد الحال نطق به القرآن، قال الله جل وعلا: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [الأعراف:150] فذكر الله حالين لموسى عندما رجع إلى قومه، قال الناظم:

والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم أو غير مفرد

(والحال قد يجيء ذا تعدد) يعني: يكثر من حال، (لمفرد) يعني: يكون صاحبه مفرداً، (فاعلم أو غير مفرد) أي: قد يكون صاحبه غير مفرد، والشاهد من البيت صدره وهو: أن الحال يأتي متعدداً.

وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1] أي: أن القرآن العظيم لا خلل في نظمه ولا تنافٍ في معانيه، بل إنه يدعو إلى الحق وإلى عدم العوج.

طلق المحيا 09-01-17 11:57 PM

تفسير قوله تعالى: (قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ... ماكثين فيه أبداً)
قَيِّمًا [الكهف:2]: اختلف فيها، والأظهر أن معناه: مهيمن على الكتب كلها، ثم بين الله قائلاً: لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف:2].

الإنذار: هو الإعلام المقترن بالتخويف والتهديد، فإذا كان غير مقترن بتخويف أو تهديد فلا يسمى إنذاراً وإنما يسمى إعلاماً، وعلى هذا فإن كل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذار.

لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف:2] كلمة (بأس) وردت في القرآن على ثلاثة معانٍ، وردت بمعنى: اللأواء والشدة والتضييق، ومنه قول الله جل وعلا: مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ [البقرة:214]، ووردت بمعنى: العذاب، وهو صريح آية الكهف التي بين أيدينا: لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا [الكهف:2] ونظيره قول الله جل وعلا في سورة غافر: فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29] والمقصود: عذاب الله، وتأتي بمعنى القتال والمعركة، ويدل عليه قول الله جل وعلا في سورة الأحزاب: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18] أي: أنهم لا يشهدون المعركة إلا ليروك وجوههم ثم ينصرفون، ومعنى البأس في آية الأحزاب: القتال واحتدام المعركة، وفي آية سورة الكهف معنى البأس: هو العذاب، لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف:2].

والفعل (أنذر) ينصب مفعولين: ذكر الله جل وعلا واحداً منهما وهو العذاب، ولم يذكر المعذبين، وسيأتي بعد ذلك: أن الله ذكر المعذبين ولم يذكر العذاب.

لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف:2]، (شديداً): للتأكيد، وإلا كونه من عند الله، يكفي هذا قرينة على أنه شديد.

فلما ذكر الله الإنذار لأهل الكفر، ذكر البشارة لأهل الإيمان، فقال جل ذكره: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف:2]، والأجر المذكور يحتمل خيري الدنيا والآخرة، لكن وجدت قرينة تدل على أن المقصود: الآخرة، وهي قول الله جل وعلا: مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [الكهف:3]، ومعلوم أن أجر ونعيم الدنيا لا خلود فيه، ولا يعني هذا أنه ليس لهم أجر في الدنيا، فقد جاء هذا في آيات أخر، لكن قوله جل ذكره: مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [الكهف:3]، قرينة على أن المقصود به: الأجر الأخروي.

وهذا يدفع طالب العلم إلى ألا يستعجل في التفسير حتى يقرأ الآية المراد تفسيرها كاملة حتى يستبين له من القرائن المصاحبة لما يريد تفسيره، ويتضح مراد الله جل وعلا من قوله.

طلق المحيا 09-01-17 11:58 PM

تفسير قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً)
قال تعالى: وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [الكهف:4]، هنا ذكر الله جل وعلا المعذبين المنذرين ولم يذكر العذاب، فعكس الأولى.

المخاطب بهذه الآية كفار قريش بشكل خاص، لكن الذين نسبوا لله الولد -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- هم ثلاث طوائف: اليهود والنصارى ومشركو العرب.

اليهود والنصارى جمعهم الله جل وعلا في آية واحدة وهي قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، وأما مشركو العرب فقد جعلوا الملائكة بنات لله، قال الله جل وعلا: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57]، وكلمة (سبحانه) في آية النحل تسمى عند البلاغيين: إطناب، أي: زيادة، لكنها زيادة محمودة؛ لأن المقصود منها تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به.

طلق المحيا 09-01-17 11:59 PM

تفسير قوله تعالى: (ما لهم به من علم ولا لآبائهم ...)
قال تعالى: مَا لَهُمْ [الكهف:5] نافية، بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ [الكهف:5] ليس لهم به علم؛ لأنه أصلاً غير موجود، ولا يتعلق العلم إلا بشيء موجود، العلم لا يتعلق إلا بشيء موجود، فلما نفى الله العلم عنهم كان هذا من باب اللزوم، ونفي الوجود، وإنما المسألة عندهم مسألة تقليد، يتبع آخرهم أولهم ويقلد آخرهم أولهم على غير بينة ولا برهان.

قال سبحانه: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف:5] ليس المقصود بـ(كلمة) هنا كلمة واحدة أو مفردة، وإنما المقصود جنس الكلام، وهذا دلّ عليه القرآن في أكثر من موضع، قال الله جل وعلا: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:99-100] وهو قال جملة كاملة.

(كَبُرَ) جاء الماضي هنا بضم الباء، وإذا استخدمت هذه الكلمة للكلام عن العمر فإن الباء تكسر، وإذا كان الكلام عن غير العمر فتضم الباء سواء في الماضي والمضارع، تقول: كَبُر يكبُر، بمعنى يعظم الشيء السن.

وهنا لا يتكلم الله عن عمر ولا عن سن ولا عن أمد زمني، وإنما يتكلم عن فظاعة ما قالوه، (كبرت كلمة)، أما في الكلام عن السن فيقال في الماضي: كَبِرَ، بالكسر، وفي المضارع: يكْبَر، بالفتح، قال المجنون :

تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ

صغيرين نرعى البهْم يا ليتَ أننا إلى اليوم لم نَكْبَرْ ولم تَكْبَرِ البهم

وهو يقصد المرحلة الزمنية وامتداد العمر، والمجنون : هو قيس بن الملوح أحد الشعراء المعروفين، وإنما يذكره المفسرون هنا؛ لأن كلامه مما يستشهد به؛ لأنه في الحقبة التي يؤخذ منها كلام العرب، وقد جاءت حقبة لا يستشهد بكلام شعرائها، فمثلاً لا يُستشهد بقول المتنبي ، أو قول أبي تمام ؛ لأنهما متأخران، لكن ما كان قبل المائة عام، أو مائة وثلاثين فإنه يُستَشهد بكلامهم، وهذا يحتاجه طالب العلم، وسيأتي الاستشهاد بكثير من شعر العرب، وهذا أصل في تفسير كلام الرب تبارك وتعالى.

قال الله: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف:5]، وقول الله جل وعلا: (من أفواههم) دلالة على أن هذا الأمر ليس له أصل في قلوبهم، ولم يحرروه على بينة وبرهان؛ لأنه أصلاً لا يوجد وإنما تتلقفه الأسماع، وتقوله الأفواه، ولا أصل له قطعاً.

إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:5]، وتكذيبهم فيما قالوه ذكره الله جل وعلا في أكثر من موضع، قال الله تبارك وتعالى: فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ [الصافات:148-149]، إلى أن قال سبحانه: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الصافات:152] أي: فيما زعموا.

طلق المحيا 10-01-17 12:00 AM

تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم ...)
قال تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، (لعل) الأصل فيها أنها للإشفاق والترجي، لكنها في هذه الآية بمعنى النهي، فينهى الله نبيه ألا يُذهب نفسه حزناً على هؤلاء القوم؛ لأن هذه الأمور تجري بقدر الله، ولا يوجد أحد بيده هداية الخلق كلهم والله جل وعلا قد ذكر أن الخلق لن يُهدى كله، قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام:35]، فلا ينبغي أن يتقطع الإنسان حسرات على أمور أخبر الله جل وعلا أنها ستكون، فثمة أمور لا يستطيع أحد تغييرها ولا تبديلها، وسنة الله جل وعلا ماضية فلا مجال لأن تحزن فيصيبك الأسى ويغير طبعك ويثبط شأنك، هذه الأمور، وقد مضت ووقعت، ولا سبيل إلى تغييرها، قال تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62].

طلق المحيا 10-01-17 12:01 AM

تفسير قوله تعالى: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ... صعيداً جرزاً)
قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا [الكهف:7]، أي: زينة للأرض من الأشجار والثمار وغيرها مما يدل على وجود الله.

لِنَبْلُوَهُمْ [الكهف:7] أي: نأمرهم، فنبلوهم، فتكون هذه الآيات التي على الأرض قرينة لصحة ذلك الأمر، وإلا نفس ما على الأرض لا يكفي بأن يكون ابتلاءً، ونظيره قول الله جل وعلا في الإسراء: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء:16] ليس المقصود أن الله أمرهم بالفسق، لكن أمرهم بأمور فخرجوا فيها عن طاعة الله، فكان حقاً أن يكون العذاب عليهم.

أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، ومشهور هذا عند أهل العلم: أن العمل لا يكون صواباً إلا إذا اجتمع فيه شرطان: الإخلاص لله جل وعلا: والموافقة لهدي وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذه الآيات كلها فيها إجمال، ويأتي التفصيل في آيات أخرى، وبيان أن زينة الأرض من ثمار وأشجار ما تلبث أن تنتهي.

قال تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا أي: ما على الأرض: صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف:8]، الجرز: الأرض التي لا ماء فيها ولا نبات، وهذا مآل الأرض بعد ذلك.

طلق المحيا 10-01-17 12:02 AM

تفسير قوله تعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ...)
ثم ذكر الله جل وعلا خبر أصحاب الكهف، وهي ما سميت السورة بسببه، والمؤمنون الذين أنزلت هذه السورة فيهم كانوا قلة يواجهون طغمة كافرة، فكان من تربيته لأوليائه والمؤمنين من عباده أن يبين لهم حال أقوام سابقين، كما ذكر للنبي أحوال الرسل، وقد ذكر للمؤمنين أحوال أناس قبلهم كيف صبروا على دين الله حتى يثبِّت قلوبهم، ويبين لهم أنهم ليسوا أول من سار على هذا الدرب، أو سلك هذا الطريق.

قال الله لنبيه: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [الكهف:9] (أم) بمعنى: بل، وأتي بها هنا لأمرين: للإضراب الانتقالي، ومعنى الإضراب الانتقالي: الانتقال من حديث إلى حديث، كما أُتي بها للاستفهام.

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9]، فكأن القرشيين سألوا النبي عن أصحاب الكهف باستعظام، وهذا الاستعظام جعل النبي عليه الصلاة والسلام، يعتقد أو يمر على خاطره، أو يجول بخلجه: أن أصحاب الكهف أعظم آيات الله.

فالله يقول لنبيه: أن خبر أصحاب الكهف، وإن كان خارقاً للعادات إلا أنه ليس أعظم الآيات، أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9]، أي: ليسوا بأعجب آيات الله، فقد جعل الله جل وعلا آيات أعظم وأعجب وأشد في الذهن والخلد من نبأ أصحاب الكهف، وإن كان نبؤهم عجيباً.

وأصحاب الكهف طائفة، وقد أضافهم الله جل وعلا إلى شيئين: أضافهم إلى الكهف، وأضافهم إلى الرقيم.

والفجوة التي في وسط الجبل إذا ضاقت فهي غار، وإذا اتسعت فهي كهف: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9]، وقد نسبهم الله جل وعلا إلى الكهف، والرقيم معطوف على الكهف، لكنه متعلق بأصحاب الكهف، ليس -كما فهم البعض- أن أصحاب الكهف طائفة وأصحاب الرقيم طائفة، وإنما هم طائفة واحدة، أضيفوا إلى الكهف باعتبار المكان الذي ناموا فيه، وأضيفوا إلى الرقيم عطفاً، باعتبار أن قومهم لما ظهروا عليهم دونوا أسماءهم، والأفضل أن يحمل اسم الرقيم على اللوح المكتوب فيه أسماؤهم، لا على القرية أو الوادي -كما قال بعض الفضلاء- والدليل على ذلك من القرآن، فإن أول ما نفسر به القرآن هو القرآن نفسه، وقد جاء ذكر الرقيم بمعنى المكتوب، كما قال الله جل وعلا: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:19-20]، فرقيم على وزن: فعيل بمعنى: مفعول، كما تقول: قتيل، بمعنى: مقتول، على وزن مفعول، فرقيم بمعنى مرقوم، أي: مكتوب.

طلق المحيا 10-01-17 12:03 AM

تفسير قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف ...)
ثم أجمل جل شأنه فقال: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:10] الفتية: جمع فتى، وقال بعض الفضلاء: إننا إذا جمعنا فتى بفتية فإننا نقصد قوماً صالحين أشرافاً ذوي هيئات، وإذا جمعنا فتى بفتيان فإننا نقصد الخدم والحشم، واحتجوا بأن الله أخبر أن يوسف قال لفتيانه، ولم يقل لفتيته، وهذا القول مقبول إلى حد ما، لكن يشكل أنه في قراءة: (إذا أوى الفتيان إلى الكهف)، والمقصود: هذا تخريج بعض الفضلاء وهو مقبول إلى حد ما كما قلت.

قال الله جل وعلا: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10]، فمن استهدى بالله هداه، ومن سأله أغناه، ومن لجأ إليه آواه، وليس للمؤمن أحد يلجأ إليه إلا ربه، قال الله جل وعلا: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن:22]، وهذه دعوة كل يدعيها لكن العطايا الإلهية والمنح الربانية إنما تكون بحسب ما في القلب، فالله جل وعلا يحاسب عباده بما علم في قلوبهم لا بما ظهر للناس منهم، وهذا أمر يعين الطالب في طلب العلم، وفي طلب أي مرغوب من الرب تبارك وتعالى.

فعلموا الذي عليهم وأخذوا بالأسباب، وفروا من قومهم، وسألوا الله جل وعلا الإيواء والرحمة.

طلق المحيا 10-01-17 12:04 AM

تفسير قوله تعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً)
قال ربنا: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [الكهف:11]، لم يذكر الله جل وعلا هنا عدد السنين، ولكنه فسرها في آخر القصة، قال الله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]، فهذا من تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالقرآن له ثلاثة أنواع: تفسير في نفس الآية، وتفسير في نفس السورة لكنه يأتي بعد مرحلة، وتفسير في غير السورة يعني: في سورة أخرى. وهذا من التفسير الذي جاء في نفس السورة، أما مثال النوع الأول قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة:5-6]، وقد مر معنا هذا.

يقول الله جل وعلا يقول: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [الكهف:11]، الضرب هنا: بمعنى الإلصاق، واللزوم والمباشرة، وقد جاء: ضربت له القبة بنمرة صلى الله عليه وسلم. وهذه القبة ضربت بوتد في الأرض، وهذا أمر تستخدمه العرب فنسمع أنهم يقولون: ضربت عليهم الجزية، يعني: ألصقت بهم، وهذا أسلوب العرب في كلامهم، قال الفرزدق يخاطب جريراً :

ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزلُ

ويقصد بذلك: الإلصاق، وقد قلنا: إن الاستشهاد يكون بالعصور التي يصح فيها الاستشهاد والفرزدق ممن يُستشهد بكلامه، بل قيل: لولا الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب، والمرء كطالب علم ينبغي أن يفقه ويقرأ كثيراً في شعره؛ لأن في شعره غرائب ألفاظ وقوة وفخامة، لا توجد عند غيره. ومما يعين على تفسير كلام الله فقه وإدراك وحفظ كلام العرب.

وقال آخر وهو يتكلم عن شخص ميت:

إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج

والذي يهم من هذه الشواهد الشعرية معرفة معنى قول الله جل وعلا: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [الكهف:11]، وخص الله جل وعلا الأذن بالذكر هنا دون البصر ليخبر بذلك أن نومهم يصبح ممتنعاً على غيرهم ولا يستطيع أن يوقظهم أحد، ومر كثيراً الحديث النبوي عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر ذلك الرجل الذي نومه ثقيل، ولا يقوم في الليل ليصلي، قال: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه)، حتى يبين أن القضية تتعلق بالأذن، فلما أراد الله أن يرحم هذه الفئة قال: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [الكهف:11].

طلق المحيا 10-01-17 12:05 AM

تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين ...)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:12] والمقصود: أيقظناهم، وإلا فهم ليسوا بموتى، وأي لفظ (نعلم) في القرآن جاء بهذه الصيغة: (لنعلم) معناه: ليظهر علم الله.

لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12]، اختلف العلماء بالمقصود بالحزبين، والأظهر أنهم الناس الذين اختلفوا في عددهم كما سيأتي بيانه في آخر القصة، لكن يأتي اعتراض هنا: ما الفائدة من معرفة عددهم بالنسبة للأولين، لا بالنسبة لنا؟ ما في معرفة عدد السنين التي لبثوها بالنسبة للأولين؟ فهنا يذكر مسألة مهمة، قالوا: إن هذا لم يذكر إلا لشيء مهم، وهو قوله سبحانه: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12] ومع ذلك -وهذا بقدر الله- لم يتعرض المفسرون لحل هذا الإشكال.

قال الإمام الشنقيطي رحمه الله في (أضواء البيان): ولم أقف على أحد تعرض لهذا الأمر. ثم حاول -رحمه الله- أن يجيب فقال في جملة كلامه: لعل المقصود في أن يكون أنهم إذا علموا طول الزمن، كان بالنسبة لهم دليلاً على قدرة الله، أن أخرجهم طرية أجسادهم أحياء رغم طول المكث، فلو فرضنا أن الناس لم يعلموا عدد السنين لقالوا هؤلاء طيبون وأبدانهم طرية ربما ناموا يوماً واحداً، أو ناموا يومين، لا غرابة في هذا ولا ضرورة وليس هناك آية من آيات الله خارقة للعادة، لكن عندما يعلم الناس أن هؤلاء لبثوا أكثر من ثلاثمائة سنة أو ثلاثمائة وتسع سنين فيقع في خلجهم صحة هذا المكوث، وهذا يزيدهم علماً بخالقهم جل جلاله؛ لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق، وعظمة المصنوع تدل على جلال الصانع جل شأنه.

لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12]، هذا كله إجمال، ثم فصل تبارك اسمه وعلا شأنه.

طلق المحيا 10-01-17 12:05 AM

تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق ... قلنا إذاً شططاً)
قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13]، فالقرآن هو الأصدق في أخباره، والأسمى في عباراته، والأفصح في أسلوبه.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، وهذا إجمال عظيم، فليس المقصود أن هناك أشياء عديدة يراد تبيينها أكثر من أن الله جل وعلا قذف في قلوبهم الإيمان، وزادهم هدى جل شأنه، وهذه منقبة عظيمة وخصلة حميدة، لهؤلاء القوم وتزكية من العلي الكبير لهم، تشرئب لها الأعناق.

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14]، كل سائر إلى الله يحتاج إلى الثبات، ومن الثبات أن يربط الله جل وعلا على القلب، خاصة عند حلول النوازل والمصائب والكوارث، أو عند ورود الشبه أو عند شيوع الفتن، فإن المؤمن يحتاج إلى أن يربط الله جل وعلا على قلبه، ولهذا كثر في دعائه صلى الله عليه وسلم أن يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، وقد يمر في أحوال الناس مما يقرأ الإنسان أو يسمع أو يشاهد كثيراً من الناس يبدو متحمساً للدين ثم لا يلبث -عياذاً بالله- أن ينتكس، ولا حاجة لضرب الأمثلة، لكن الحاجة ملحة إلى أن نسأل الله جل وعلا الثبات على دينه، وأن يربط تبارك وتعالى على قلوبنا، أينما حللنا وحيثما نزلنا.

قال الله ممتناً على تلك الفئة المباركة: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا [الكهف:14] والمشهور: أنهم قاموا بين يدي ذلك الملك الطاغية، فَقَالُوا [الكهف:14] أي: للملك، رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14]، أي: ميلاً عظيماً عن الحق، وأي شطط أعظم من أن يميل الإنسان عن توحيد الله تبارك وتعالى.

طلق المحيا 10-01-17 12:07 AM

تفسير قوله تعالى: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة ...)
هَؤُلاءِ قَوْمُنَا [الكهف:15] يقولون له: انظر إليهم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15] ومحال أن يوجد أحد سلطان بيّن على أن مع الله آلهة؛ لأنه أصلاً ليس مع الله آلهة، فالشيء غير الموجود يستحيل إثباته، فليس مع الله شريك فلا يمكن أن يأتي أحد بسلطان على أن مع الله شريك؛ لأنه ليس مع الله شريك أصلاً.

لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:15]، وهذا فسرته السنة: أنه لا ذنب أعظم من أن يزعم أحد أن مع الله شريك كما فسره القرآن من قبل وهو قوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

طلق المحيا 10-01-17 12:08 AM

تفسير قوله تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله ...)
ثم ذكر الله خطاب الفتية بعضهم إلى بعض، فهم يحتاجون إلى أن يثبت بعضهم بعضاً. ومن هنا ينبغي أن تكون الحوارات في المنزل المؤمن والأسرة المؤمنة وبين الأصدقاء المؤمنين حوارات تثبيت، وحوارات إيمانية تزيد في الإيمان.

قال الله جل وعلا: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ [الكهف:16] يخاطب بعضهم بعضاً، وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16]، فجزمت (ينشرْ)، وجزمت (يهيئْ)؛ لأنهما واقعان في جواب الطلب وهو قوله تعالى: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16] فأخذوا بهذا الرأي، ولجئوا إلى الكهف فنشر الله جل وعلا عليهم من رحمته، وأفاء الرب تبارك وتعالى عليهم من عطائه، وآواهم جل وعلا أعظم الإيواء، وهذا الإيواء سيأتي بيانه بعد ذلك في قول الله جل وعلا: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ [الكهف:17].

إن الله جل وعلا رحيم بخلقه شفيق بعباده، قال سبحانه: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [الشورى:19] لكن كلما عظم إيمان المرء ورسخ في قلبه محبة الله وتبرأ المؤمن من كل أحد غير الله كان أقرب إلى رحمة الله جل وعلا وفضله ولطفه، وينال من عند الله بمقدار ما لله جل وعلا في قلبه.

طلق المحيا 10-01-17 12:09 AM

ما يستفاد من الآيات
وما مر من آيات فيها فوائد جمة نلخصها فيما يلي: أن القرآن رحمة بالخلائق؛ ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه مستحق للحمد؛ لإنزال هذا الكتاب الذي لا عوج فيه، بمعنى: لا خلل في نظمه ولا تعارض في معانيه، بل هو مهيمن على الكتب كلها التي سبقت كما صرح الله جل وعلا بذلك في آيات في غير سورة الكهف من كتابه المبين.

وأخبر تبارك وتعالى أن القرآن إنذار لأهل الإشراك وبشارة لأهل الإيمان، وأن من زعم أن لله الولد وهم اليهود والنصارى ومشركو العرب فقد أعظموا على الله الفرية، وأنهم لا يملكون برهاناً ولا دليلاً ولا قرينة على صحة ما يقولون؛ لأن ما يقولون لا وجود له، والشيء الذي لا وجود له لا يمكن أن يكون عليه برهان ولا بينة ولا سلطان، وأن هذا الأمر يعظم ويكبر في السماوات والأرض كما قال الله جل وعلا في سورة مريم: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم:88-91].

ثم أخبر الله جل وعلا أنه رحمة بعباده ودلالة على وجوده وإظهاراً لعظيم آياته وقدرته، جعل ما على الأرض زينة لها، تتأمله الأعين، وتستلذ به الأنفس ثم لا يلبث ذلك كله أن يضمحل ويذهب، قال الله جل وعلا: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا [الكهف:8] بعد أن كان أمراً مشاهداً معيوناً، صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف:8] لا نبات فيها ولا شجر ولا ثمار دلالة على قدرة العظيم الجبار، وسبحان من لا يحول ملكه ولا يتغير فيه شيء جل جلاله، قال الله جل وعلا: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف:8].

ثم ذكر الله نبأ فتية في غابر الأزمان، ظن نبينا صلى الله عليه وسلم أن ما وقع لهم هو من أعظم الآيات، لكنهم وإن كان خبرهم من خوارق العادات إلا أنهم ليسوا من أعظم آيات الله، قال الله جل وعلا: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] فخلق السماوات من أكبر الآيات، وكذلك لله جل وعلا آيات أخبرنا ببعضها ولم يخبرنا ببعضها، كلها جملة وتفصيلاً تدل على عظيم قدرته وجليل شأنه.

كما بين جل وعلا وقوف الفتية أمام الطاغية، ثم لما خافوا على دينهم فروا بأنفسهم ولا يلامون على ذلك، وليس كل أحد مطالب بأن يواجه وأن يقتل نفسه، فإن حفظ النفس أمر مقرر شرعاً، فاضطروا إلى الهجرة، واللجوء إلى الكهف، فلما لجئوا إلى الكهف أمّنهم الله جل وعلا من الأعداء، وأغناهم عن جميع الأشياء، ووكلهم إلى حفظه ورحمته، فكان حقاً أن يكونوا في حصن أمين، وكهف يحفظهم الله جل وعلا فيه، كما يأتي تفصيله إن شاء الله.

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول هذا المقطع من السورة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طلق المحيا 11-01-17 12:21 AM

قصة هي من أعجب القصص القرآني، يتجلى فيها حفظ الباري تبارك وتعالى لأوليائه، وكلاءته لمن خافه وسعى إلى رضاه، إنها قصة أصحاب الكهف الذين سخر الله لهم الآيات الكونية لحفظهم، فالشمس -على سبيل المثال- كانت لا تمسهم بأذى وذلك بتوجيهات تلقتها من ربها ومليكها جل جلاله.

طلق المحيا 11-01-17 12:23 AM

تفسير قوله تعالى: (وترى الشمس إلا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ...)
بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنستكمل في هذا اللقاء المبارك ما كنا قد بيناه من الحديث عن أصحاب الكهف، والسورة التي نحن معنيون بها في هذه اللقاءات المتتابعة هي سورة الكهف، وقد مر معنا أنها سورة مكية وأنها تعرضت لجملة من القضايا، وأن قراءة أولها يعصم الله جل وعلا به من فتنة الدجال، وأن من السنة أن يقرءها المؤمن كاملة يوم الجمعة.

وقد وصلنا إلى إن أصحاب الكهف تنادوا مع بعضهم البعض وقالوا: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16]

فهم أخذوا بالأسباب وتوكلوا على الملك الغلاب، وهذا ما انتهى إليه حديثنا في اللقاء الماضي.

قال الله جل وعلا: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]

الآيات بينها وبين السابق ما يسمى عند البلاغيين: إيجاز حذف، وإيجاز الحذف في هذه السورة: أن الله لم يذكر أنهم اتفقوا على الكهف، ولم يذكر مسيرهم إلى الكهف، وإنما أتى بالخطاب مباشرة: أن الشمس تطلع عليهم فيحفظهم بذلك.

ومعنى هذا أنها اتفقت كلمتهم على أن يذهبوا للكهف، ومفهوم الآيات أنه كان معهم كلب في طريقهم إلى الكهف؛ لأن الله ذكر هذا الكلب بعد ذلك، لكن هل كان الكلب لأحدهم مسبقاً أو أن أحداً انضم إليهم ومعه كلب؟ هذا أمر لم يبينه الله ولا حاجة إلى أن نتكلف، لكن الذي يعنينا أن هؤلاء الفتية ضرب الله على آذانهم في الكهف.

ثم طوى الله لهم الأيام والسنين ليبين لنا ماذا حصل في الكهف وهؤلاء الفتية آمنون فيه.

العجيب في القضية كلها أو الذي ينبغي أن يفهم أنه إذا أراد الله جل وعلا أن يحفظك فنم مطمئناً. فخصومهم الآن يبحثون عنهم، وينفقون الأموال في الوصول إليهم، ويتهددونهم ويتوعدونهم، ولا يوجد أحد مغيب مثل النائم يُتمَكن منه أكثر من غيره، ومع ذلك كانت تحيطهم عناية الله، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، بل إن الشمس وهي تسير بقدر الله ويحصل منها إيذاء لمن تعرض لها تعرضاً غير حميد وتصدى لها، ومع ذلك حتى الشمس لم تستطع أن تنالهم بأذى؛ لأنهم في حفظ وكنف الرحمن جل جلاله.

صور الله ذلك الموقف بقوله: (وَتَرَى الشَّمْسَ) أيها المخاطب بكلامنا! (إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ).

تقول في اللغة: جاءني زائر، والزائر في الأصل أنه متوجه إلى بيته، لكن عندما مال إليك وأعطاك وجاءك سمي زائراً، فالزور في اللغة أصله: الميل، قال عنترة :

فازورَّ من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحمِ

وعنترة أحد الشعراء الجاهليين من أصحاب المعلقات، ومعلقته مطلعها:

هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم

وهو عبسي ينسب إلى أمه من حيث الرق والعبودية، فالمولود ينسب إلى أبيه ديانة فلو أن رجلاً مسلماً تزوج نصرانية أو يهودية فحملت منه فولدت فمات الصغير فإنه يدفن في مقابر المسلمين، وإن كان لا دين له، يعني: ليس له دين ظاهر ولم ينطق بالشهادتين، لكن يعد في أطفال المسلمين؛ لأنه ينسب لأبيه ديانة، وينسب إلى أمه رقاً أو حرية، وفي غير بني آدم فإن الحيوان ينسب إلى أخبث أبويه طعاماً، فالبغل - مثلاً - نتاج عن تزاوج الخيل والأتان وهي: أنثى الحمار، فالخيل مباح أكل لحمها، والأتان محرم فينسب طعمة إلى أمه، فلا يجوز أكل البغل.

قال عنترة وهو يتكلم عن خيله:

فازورَّ من وقع القنا أي: الرماح، بلبانه، يعني: بصدره، وهي مقدمة رقبة الخيل، أي أن الفرس عندما تأتيه الرماح يميل ميمنة ويسرة. الذي يعنينا هنا أن الازورار بمعنى: الميل.

فنعود للآية: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ) أي: تميل عنهم ذات اليمين.

(وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) المقراض هو: المقص الذي يقطع، والمقصود تنقطع عنهم.

(تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ) أي: أصحاب الكهف.

(فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي: في مكان متسع.

قال الله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) قال العلماء: هذه قرينة على أن الأصل أنه ينبغي - بسبب وضع الكهف - أن يصيبهم حر الشمس، لكن لما صرف الله عنهم الشمس حال طلوعها وحال غروبها ألا تصيبهم بأذى، عُدَّ ذلك آية من آيات الله.

وقال آخرون: إن الأصل في وضع الكهف ألا يصيبهم منه وهج الشمس، وفسروا قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) قالوا: إن نبأ أصحاب الكهف من آيات الله، لكن القرينة ألصق وأقرب في ظننا والعلم عند الله إلى أن المقصود أن ازورار الشمس وقرضها عنهم إنما وقع بقدر الله جل وعلا ولطفه لهذه الفئة المباركة.

قال الله: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) وهنا ننيخ المطايا؛ لأن الله لا يقول: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [الكهف:17] لنمر عليها سريعاً، ولا بد من العلم أن لله جل وعلا آيات تدل على عظمته، من وُفِّق لإدراكها وفهمها، ونظر إليها بعين البصيرة - ومن ذلك: نقمة الله من خصومه، ورحمته بأوليائه - فهذا تعظم خشيته من الله، ويعظم توكله على الله.

ألا ترى إلى هاجر لما أوكلت أمرها إلى الله أخرج الله ماء زمزم فرجاً لها وكرامة لإسماعيل؟! ولما قبلت وقالت لخليل الله إبراهيم: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، وغدت سبع غدوات تغدو وتروح بين الصفا والمروة تبحث لابنها عن ماء جعل الله ذلك الممشى لا يضيع هباء منثوراً، فمشى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم على نفس الممر والمعبر والطريق الذي مشت عليه هاجر ، فهذا آية من آيات الله وهي: أن الله لا يضيع أهل طاعته.

وعلى النقيض: فإن من عاداه جل وعلا وحاربه ونازعه أوكل الله جل وعلا إليه من أصناف العذاب ما يجعله عبرة لغيره.

ثم قال الله: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ) (من) شرطية. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ [الكهف:17] إذاً من لم يهده الله فلن يكون مهتدياً. وَمَنْ يُضْلِلْ [الكهف:17] شرطية أيضاً. فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17] وأين يكون المرشد وأين يكون الولي والله جل وعلا قد تخلى عنه، وهذا المفهوم الحقيقي لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه الذي علمه الحسن: (ولا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت).

طلق المحيا 11-01-17 12:24 AM

تفسير قوله تعالى: (وتحسبهم أيقاظاًَ وهم رقود ...)
قال تعالى: (وَتَحْسَبُهُمْ) أي: تظنهم. أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ [الكهف:18] ، أفضل ما يحمل عليه المعنى: أن الله أنزل عليهم هيبة، وأن أعينهم كانت مفتوحة، ولذلك من رآهم فإنه يظنهم أيقاظاً؛ لأنه لا يظن بشخص أنه يقظ إلا إذا كان مفتوح العينين، والعرب تزعم في كلامها أن الذئب ينام بإحدى عينيه فقط ويبقي الأخرى مفتوحة.

تقول العرب في كلامها عن الذئب:

ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم

وقد مر معكم أنك لو دخلت مجمعاً للحيوانات أو ما يسمى حديقة في عرف الناس هذه الأيام، ومررت على الحيوانات، فإنك تجد الأسد رابضاً؛ لأن الله سلط عليه الحمى، فلا يوجد في الحيوانات من هو شديد الحمى مثل الأسد، هناك مثل عند العامة يقولون: خَلَقَ الشوكة وصوَّبَ رأسها، ليبان أنها شوكة فتميزت بذلك والله يقسم كل شيء، ولا يعطي أحداً الكمال.

والذئب إذا رأيته قبل أن يراك تغلبه، وإذا رآك قبل أن تراه قلما تغلبه، لكن إذا رأيته يصيبه نوع من الهلع في نفسه، ولهذا من شدة خوفه فإنه ينام بإحدى مقلتيه ويبقي الأخرى مفتوحة.

الذي يعنينا أنك لو دخلت أي حديقة فإنك لا تجد الذئب رابضاً أو مقعياً وإنما تجده يفر ويتحرك حتى ولو كان عجوزاً في مترين أو في متر؛ إلا أنه سريع الحركة لا يثبت؛ لأنه يبقى خائفاً حتى لا يراه أحد قبل أن يراه هو، وهذه أشياء تفيد الإنسان في فهم أمور عديدة في الحياة، وليس شرطاً أن تفيدك فيما أنت فيه الآن.

ثم قال سبحانه: وَنُقَلِّبُهُمْ [الكهف:18] فأسند التقليب إلى ذاته العلية، وفيه فائدتان: الأولى: تشريف لهم، والثانية: بيان لطف الله جل وعلا لهم.

وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [الكهف:18] ، قال العلماء في علة ذلك: حتى لا تأكل الأرضة أجسادهم، ومعلوم أن الله قادر على أن يحفظ أجسادهم دون تقليب، لكن المقصود إجراء سنن الله جل وعلا في الكون، وأصله أن الإنسان إذا نام على جنب واحد أو على حال واحدة أن الأرضة تأكل جسده.

وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18] كلبهم مضاف إليهم، أي أنه لهم جملة أو لأحدهم أو لبعض منهم، كل ذلك واقع ومحتمل.

والكلب حيوان معروف، وقد أباح الله جل وعلا صيده إذا كان معلَّماً، قال تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4] لما ذكر الله جل وعلا ما أباحه من الأطعمة، والعرب تضرب به المثل في الوفاء، وكانت تتخذه العرب للحراسة، والكلام فيه يطول.

لكن المقصود من هذا هنا أن الله ذكر الكلب هنا ليبين جل وعلا أن من صحب الأخيار يلحق بهم، ويؤيده ما في الصحيح من حديث أنس : (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: ما أعددتَ لها؟ قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت) . قال أنس رضي الله عنه: والله! ما فرحنا بعد إسلامنا بشيء أعظم من فرحنا بهذا الحديث، فكان أنس يقول: وأنا والله! أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر . قال بعض الرواة لهذا الحديث: وأنا والله! أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر وأنس ، ونحن نقول: نحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر والصحابة كلهم وكل مؤمن تبع النبي وأصحابه بإحسان إلى يوم الدين.

قال الله جل وعلا: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18] ، الوصيد: مقدمة الكهف، وكلمة باسط اسم وأراد الله بهذه الجملة الإسمية: الاستمرار؛ لأن الاسم يلحق به الاستمرار أكثر مما يلحق بالفعل، فقوله جل وعلا: (باسط) غير لو قال: يبسط؛ لأنها قابلة للتحريك لكن يظهر أن النوم الذي أصاب أصحاب الكهف أصاب كذلك الكلب.

قال تعالى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ [الكهف:18] أيها المخاطب! لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [الكهف:18] ، وهذا نوع من الحماية لهم، لكن الإشكال الوارد: أن الإنسان يرتعب أولاً ثم يفر، والله في هذه الآية قدم الفرار على الرعب، ولعله يجاب عن هذا بأن يقال: إن الرائي لهم يصيبه رعب فمن هول ذلك الرعب وقبل أن يتملكه، يسارع بالفرار.

طلق المحيا 11-01-17 12:26 AM

تفسير قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم ...)
قال الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ [الكهف:19] بعثهم هنا بمعنى: أيقظهم من سباتهم. لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ [الكهف:19] مازال الحديث عن أهل الكهف.

وهنا قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ [الكهف:19] يعني تكلم أحدهم: كَمْ لَبِثْتُمْ [الكهف:19] وكأنه شعر بطول المدة. وهنا أدخل الأحوال النفسية في الخطاب.

قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] ، وهؤلاء الفتية نعتهم الله جل وعلا بأنهم ذوو هدى، فلو كان هناك تغير في أجسادهم بأن طالت أشعارهم أو أظفارهم، أو انحنت ظهورهم أو دب على رءوسهم المشيب، لما قال القائل منهم: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] ؛ لأنه محال أن يقع هذا في يوم أو في بعض يوم، وهذا لا يختلف عاقل في إدراكه، فدل هذا القول على أنهم لم يتغير منهم شيء.

قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف:19] ، ونقول مراراً عند تفسير هذه السورة: إن الإنسان مكلف بما هو فيه، فلك الساعة التي أنت فيها، والماضي تستسقي منه، لكن لا يكون مثبطاً لك ولا تركن إليه دون عمل.

مضى السلف الأبرار يعبق ذكرهم فسيروا كما ساروا على الدرب واسمعوا

ولا خير في الماضي إذا لم يكن له من الحاضر الزاهي بناء مرفع

وهذا للاستشهاد في الأعمال ليس للاستشهاد في الألفاظ فإنه لا يقبل في الألفاظ.

نعود فنقول: إن الله جل وعلا قال هنا أنهم تساءلوا فلما علموا أن التساؤل في الأمر القديم لا ينفعهم لجئوا إلى المشكلة التي يعاصرونها، وهي: أن لهم سنين دون طعام، فهم جوعى يحتاجون إلى ما يسد رمقهم وجوعهم.

فقالوا: قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [الكهف:19] أي: ما زالوا يملكون فضة، وفهم منها بعض العلماء أنهم أبناء أثرياء. فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [الكهف:19] الورق هو الفضة، والفضة قرينها الذهب، والذهب والفضة مالان يقال في نعتهما: ربويان وزكويان، والمعنى أن فيهما الزكاة بخلاف ما لا يعد للتجارة كبيت الرجل، وخيله، ودابته فهذا لا يقال عنه مال زكوي؛ لأنه ليس كذلك إلا إذا أُعِدَّ للتجارة، ولا يقال عنه مال ربوي؛ لأنه لا يدخله الربا وليس من أصناف الربا، لكن الذهب والفضة من أعظم زينة الدنيا التي يدخلها الربا، والزكاة تكون فيهما.

قال الله جل وعلا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا [الكهف:19] وكأنهم يعيشون بيننا، فأرادوا أن يوصوا أحدهم ليشتري لهم طعاماً طيباً.

أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا [الكهف:19] قيل أزكى بمعنى: أطيب، وقيل: أغلى، واللفظ يحتمل المعنيين، وهذا يدل على أنهم كانوا أبناء أغنياء.

فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ [الكهف:19] (وليتلطف) تفيدك في أن الإنسان من حق نفسه عليه في مسيرته الدعوية والعلمية وحياته الاجتماعية أن يكون حريصاً على أن يبحث عن الأمان لنفسه، ولا يعرض نفسه للمهالك.

يقول عليه الصلاة والسلام: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ، ففي الفترة المكية جاءه أبو ذر أو أحد الصحابة وكان يجهر بالدعوة فقال عليه الصلاة والسلام: الحق بقومك، فإذا سمعت أن الله أظهرني تعال واقدم علي. لأن هذا الصحابي الجليل آنذاك لا يصلح وسط تلك الفئة؛ لأن فيه نوع من الجرأة، والمرحلة آنذاك لا تحتاج إلى جرأة بل تحتاج إلى نوع من السكينة والطمأنينة.

والمقصود أن المرء يحتاج في مسيرته إلى ألا يشغب على نفسه، ولا يدل الحاسدين عليه، هذا من الحكمة التي أمر الله جل وعلا بها، ودل عليها قول الله عن أهل الهداية: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19] ، لا أي: يحاول أن يدل الناس والأعداء علينا.

طلق المحيا 11-01-17 12:28 AM

تفسير قوله تعالى: (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم ...)
إِنَّهُمْ [الكهف:20] أي: الأعداء. إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ [الكهف:20] أي: ينتصروا عليكم فيصبحوا قادرين يَرْجُمُوكُمْ [الكهف:20] والمقصود: يعذبوكم. أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ [الكهف:20] وهذه الثانية أنكى من الأولى؛ لأن فساد الجسد لا يمكن أن يقارن بفساد المعتقد.

فالإنسان قد يكون مبتلى في جسده وهو في قمة الفلاح، فقد كان عطاء بن أبي رباح أعرج أعور، فيه شلل في بعض أجزاء جسده، وكان لا يفتي في مكة وفي زمانه أحد غيره، فلم يضره ما فيه من آلام في جسده بل كان في قمة الفلاح، لكن قولهم: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20] المقصود منه: عدم الفلاح الأخروي وإذا فسد المعتقد وأعادوكم في ملتهم فعدم الفلاح مرتبط بفساد المعتقد.

طلق المحيا 11-01-17 12:29 AM

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق ...)
قال الله: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ [الكهف:21] ، فأخرجنا من تصرف الفتية وأدخلنا في تدبير العلي الكبير، ذهب ذلك الفتى الذي بعثه أصحابه يقيناً أنه أخرج تلك الورق فعرفها من أخرجها له أنها قديمة، فصار بينهما نوع من المساءلة التي تدل عليهم، وهذا المعنى حقيقي؛ لقول الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الكهف:21] وهناك أشياء تدل بعضها على بعض، فالذي حفظ هؤلاء ثلاثمائة عام ثم بعثهم من مرقدهم - والموت أخو النوم - قادر على أن يبعث من في القبور كما قال الله في إنبات الأرض: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت:39]، والأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير وهذا معنى قول الله: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا [الكهف:21] أي: أنها حق قادم لا شك فيه. إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف:21] والذي يتنازع هم القوم الظاهرون. يتنازعون أمر هؤلاء الفتية بعد أن ماتوا، والدليل على وقوع ذلك بعد موتهم أن الله قال: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21].

واتخاذ المسجد لا يكون على أحياء إنما يكون على موتى، فإن احتج أحد بأنه يجوز بناء المساجد على القبور نقول: إن هذا باطل بدليل: أن القرآن فيه محكم ومتشابه، فالمتشابه من أي قول يرد إلى المحكم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، أي: في آخر أيام حياته مما لا يدخله النسخ قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا، أي: ما صنع اليهود والنصارى بقبور الصالحين، واللعن لا يكون إلا على أمر كبير عظيم منهي عنه في الدين.

فهذا الحديث فصل خطاب وليس من الإنصاف ولا من طرائق العلم المعتمدة المعتبرة أن يترك الإنسان المحكم ويفر إلى المتشابه، وإنما يفر الإنسان من المتشابه ويعمد إلى المحكم إذا أراد أن يصل إلى الحق، أما من لم يرد الوصول إلى الحق فسيتخذ بنيات الطريق، ويتلوى في قواعد العلم حتى يصل إلى مبتغاه وهواه، أعاذنا الله وإياكم من اتباع الهوى.

قال تعالى: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] فإن قال قائل: إن قبر النبي صلى الله عليه وسلم اليوم في مسجده. نقول: إن الصحابة لم يتخذوا مسجداً على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسجد بني قبل وجود القبر، وإنما الحقيقة التاريخية أن حجرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها التي قبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي أصلاً خارجة عن المسجد والمسجد كان الصف الأول منه مواز للحجرة ما يسمى بالروضة الآن وهي المكان المفروش بفراش أخضر، ويوجد إلى اليوم مكان لمحراب النبي صلى الله عليه وسلم المجاور للمنبر داخل الروضة، هذا المحراب كان موضع صلاته صلى الله عليه وسلم، فلما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وسع المسجد من جهة القبلة؛ من جهة الجنوب، والمحراب الذي يصلي فيه الأئمة اليوم هو محراب عثمان لم يصل به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما صلى فيه عثمان ، وإنما تأسينا به؛ لأن الصحابة وهم أفقه منا وأتقى تأسوا بـعثمان عندما جعل قبلة المسجد متقدمة قليلاً من جهة الجنوب.

ثم مضى الأمر على هذا الحال حتى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك وهو أحد خلفاء بني أمية وكان له شغف بالبناء والعمارة والناس على دين ملوكها، ففي زمن الوليد كان الناس يتساءلون عن البناء أكثر شيء، وهذه حياتهم، في زمن عمر بن عبد العزيز كان يحيي الليل فكان الناس يتساءلون: كم صليت من الليل؟ كم قمت؟ كم أوترت؟ فـالوليد كان من شغفه بالبنيان أنه أمر عامله على المدينة آنذاك وهو عمر بن عبد العزيز ابن عمه رحمه الله، أمره أن يوسع المسجد، فلما امتدت التوسعة جهة الشرق؛ ولأن الحجرة تقع في جهة الشرق أدخل الحجرات، وقد أخطأ من صنع هذا الصنيع، أخطأ خطأً تاريخياً؛ لأنه ألبس على الناس أمرهم، فظن المتأخرون من الناس أن القبر بني داخل المسجد وإلا فإن الحجرة كانت خارج المسجد في عهد الرسول وفي عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان فهؤلاء تسعة خلفاء والوليد العاشر - إن لم أنس - أحداً من الخلفاء الذي وصل إليه الأمر.

وهذا كله تقريباً عام 90 هجرياً أو أكثر بقليل، وهو متأخر، فلا علاقة للقبر بالمسجد أو المسجد بالقبر، ثم إنه في عهد هذه الدولة المباركة عندما جاءت التوسعة توخى ولاة الأمر في هذه البلاد أن تكون التوسعة شاملة للمسجد كله وإنما تأخروا من جهة الشرق قليلاً حتى لا يصبح القبر وسط المسجد، ويلاحظ الإنسان في بنيان الحرم أن فيه مثل المستطيل ثم تبدأ التوسعة فمكان القبر من جهة الغرب أو الشرق لا يوجد توسعة في مقدمة الصفوف، لا توجد توسعة حتى لا يصبح القبر متوسطاً للمسجد، وفي هذا محاولة لإبعاد اللبس، وهي عمل صالح مبارك موفق اهتدى إليه ولاة الأمر والعلماء في هذه البلاد.

هذا الذي يعنينا حول قول الله جل وعلا: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] وفي قوله جل وعلا: غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ [الكهف:21] دلالة على أن السلطان يصنع ما لا يقدر عليه غيره، وهذا معنى غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ [الكهف:21].

طلق المحيا 11-01-17 12:32 AM

تفسير قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ...)
قال تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف:22].

يقول بعض العلماء: إن عدد أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم، وأن الآية نصت على ذلك؛ فإن الله قال: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22] ثم قال: رَجْمًا بِالْغَيْبِ [الكهف:22] وقال: سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22] ولم يقل: رجماً بالغيب وجاء بالواو بعد قوله: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، وقالوا إن هذه الواو واو الثمانية.

والحق الذي يجب المسير إليه أنه ليس في الآية ما يدل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، صحيح قد يكونوا سبعة وثامنهم كلهبم، لكن أقول: الآية لا تدل عليه، إذا قلنا لا تدل عليه يجب الرد على الدليلين الذين احتجوا بهما.

أما الرد على الأول: فإن الله لم يقل رجماً بالغيب في الثالثة؛ لأنه تكرر في الأول، وهذا أسلوب قرآني واضح لمن تأمل القرآن، قال الله تبارك وتعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] إلى أن قال جل وعلا: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] وتقدير الآية: ولا جان قبلهم، لكنه لم يكررها بعد جان وكررها بعد الإنس؛ لأنه ذكرها في الأول يغني عن ذكرها في الثاني، وهذا أسلوب قرآني في أكثر من آية يستطيع الإنسان أن يصل إليه.

أما قولهم إن الواو واو الثمانية فهذا من العجب، فلا يوجد في اللغة شيء اسمه: واو الثمانية - مع تقديرنا لمن قال به من فضلاء العلماء - وقد احتجوا بآيات من القرآن:

منها قوله جل وعلا: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ [التوبة:112]إلى أن قال: الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:112] قالوا: هذه ثمانية.

ومثله قول الله تبارك وتعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ [التحريم:5]إلى أن قال جل ذكره: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [التحريم:5].

والرد على هذا أن يقال: أما الواو في ثيبات وأبكارا فهي واو عاطفة يراد بها التقسيم؛ لأنه لا يمكن أن تكون المرأة ثيب وبكر في وقت واحد، فلا يستقيم أن يقال: ثيبات أبكارا.

والأمر الثاني المتعلق بآية التوبة: الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:112] أن هذا أمر فيه التصاق، يعني: كل ما جاء في القرآن عن أمر بمعروف ونهي عن منكر يؤتى بالواو، ويكون ذلك حتى في الأفعال: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

ومن الأدلة التي احتجوا بها: آية الزمر التي قال الله فيها: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73]، فقالوا: إن المقصود من هذه الواو أن الله قال: أبواب الجنة ثمانية، ولا ريب أن الواو هذه واو حال، والمعنى أنه سيحدث شيء قبل فتح الأبواب، وقد دلت عليه السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم يطرق باب الجنة.

ومن الأدلة الدامغة في أنه لا يوجد واو ثمانية أن لو وجدت لالتزمها القرآن، قال الله جل وعلا: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ [الحشر:23] الثامن: الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23] فلو كان هناك واو تلتصق بالثمانية كما ذهبوا إليه لقال الله: العزيز الجبار والمتكبر، لكن الله لم يقلها؛ لأنه لا التزام لها أصلاً، وإنما قيلت في تلك المواطن لا لعدد الثمانية، وإنما لأن الحالة تناسب وتفرض أن تكون هناك واواً.

نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أنا من القليل الذين يعلمونهم، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. أقول: هذا محتمل لكن ليس من الآية: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا [الكهف:22].

وهنا قال العلماء إن الإنسان إذا فسر هذه الآية ينبغي عليه أن ينبه طلابه على أنه لا يتعلق بعددهم كبير علم، فهناك أمور يجب الاصطلاح عليها، فهناك أمور تسمى: من مليح القول، وأمور تسمى: من متين العلم، فلو قُدِّر أن عرفنا عددهم فهذا من مليح القول وليس من متين العلم. والدليل على أنه ليس من متين العلم، أنه لو كان كذلك لأخبر الله جل وعلا به، قال الله جل وعلا: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ [الكهف:22] وكلمة (ما): نافية. إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف:22].

ثم قال الله لنبيه: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا [الكهف:22] أي: لا تجادلهم بكثرة؛ لأنكم لن تصلوا إلى بغيتكم، فلابد أن يكون بين طرفا الجدال أرضية مشتركة، وتقارب، أما إذا كان هناك تفاوت فإن الأدنى سفيه لن يعرف للعالي قدره، وإذا لم يعرف له قدره لن يكون هناك توافق في الجدال:

وإن عناء منك أن تعلم جاهلاً فيحسب جهلاً أنه منك أعلمُ.

متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

لا يمكن أن يتفقوا، ولهذا قال الله لنبيه: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا [الكهف:22] ، بل إنه بعد ذلك قطع وحسم المادة كلها فقال: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:22] ؛ ذلك لأنهم ليسوا ذوي علم ولا يستفتى إلا من كان ذو علم، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:22] أي من القرشيين.

سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22] السين للاستقبال، والمعنى أن هذا الأمر لم يقله القرشيون بعد، لكنهم سيقولونه وقد قالوه؛ لأن الله جل وعلا أخبر بأنهم سيقولوه.

مما يستطرف في هذا المقام: أنهم يقولون إن دعبل الخزاعي ، وهو شاعر كان مناصراً لآل البيت بقوة وفيه تشيع شديد، وله أبيات في ذلك منها:

ذكرت محل الربع من عرفات فأجريت دمع العين بالعبراتِ

التي فيها:

ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفنات

كان على خصومة مع المعتصم والمعتصم هو ثامن خلفاء بني العباس، ويقولون إن رقم ثمانية ارتبط به ارتباطاً كبيراً، فهو ثامن الخلفاء العباسيين، وكان له من الأبناء: ثمانية ذكور، وثمان إناث، وحكم ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، ومات وعمره ثمان وأربعون سنة، وهو الذي آذى الإمام أحمد وكان متأولاً.

المهم: أنه خالف دعبل ، والعاقل لا يعارض السفهاء خاصة منهم الشعراء؛ لأن الشاعر قد يكون جباناً، لكنه يقول قولاً يسيراً بين الناس فيغلبك بشعره لا بقوته ولا بسلطانه، فانتهز دعبل كون المعتصم ثامن الخلفاء فقال يهجو المعتصم :

ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة غداة ثووافيه وثامنهم كلب

ويقال إن المعتصم أهدر دمه وهو معذور من الناحية السياسية في إهداره لدمه.

وقد بقيت خصومة المعتصم مع دعبل ، وقد كانت قديمة حتى مع المأمون أخو المعتصم إلا أنه السابع، طبعاً في السابع ما وجد شيئاً يقوله، لكن المأمون وصل إلى الحكم بعد مقتل الأمين ، والذي قتل الأمين رجل خزاعي من بني خزاعة من قوم دعبل ، فقال دعبل يهجو المأمون ويبين له أن الخلافة ما وصلته إلا بسبب قومه - ما معناه - :

نحن الذين قتلنا الأمين وأوصلناك إلى الخلافة.

المقصود: أن العاقل لا ينافس السفهاء، وقد جاء في الحديث أن الإنسان يدافع عن عرضه بالمال، والإنسان قد يذهب إلى بقال مثلاً ويريد أن يشتري شيئاً زهيداً بريال، فلو اختصمت معه وعلت أصواتكما لاجتمع الناس على ريال.

ولو أخطأت في كلمة في المحراب أو في المنبر أو في الإمامة ولك خصوم فكل ذي نعمة محسود، فيأتي الناس إلى حاسديك ويسألونهم عنك، فيقولون عنك: أصلاً هذا ليس فيه خير؛ هذا لأجل ريال قاتل الناس، نسأل الله العافية.

فأنت عاقل، لو قال: ما دفعت ريالاً أعطيه ريالين، ولو قال: ما دفعت ريالين أعطه ثلاثة.

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لن يبن ملك على جهل وإقلال

ولهذا في القرآن طيات وأمور خفية هي حقيقة التفسير، والأصل أن نستظل بما في القرآن وأن نفيء بما في القرآن من آيات تبين لنا كيف نكون أنفسنا، والدليل على ذلك أنه ما فقه القرآن أحد مثل نبينا صلى الله عليه وسلم، فالأيام النضرة للرسول صلى الله عليه وسلم أعظم مفسر للقرآن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ هذا في نفسه يقول - وعبد الله بن أبي مستحق للقتل -: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)

وقف يقول: (من يعذرني في رجل بلغني أذاه لأهلي) فاختصم السعدان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فنزل من المنبر حتى يسكن الناس ولا يخوض الناس في اللغط.

وثمة أمور كان عليه الصلاة والسلام لا يستشير فيها استشارة عامة، فعندما حصلت حادثة الإفك - كما سيأتي - ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى علي ابن عمه وأسامة والجارية وهم أناس خواص؛ لأجل ألاّ يشيع الخبر، يحاول صلى الله عليه وسلم أن يجمع شتات الموضوع.

هذا ما يمكن أن يقال في هذا المقطع من هذه السورة المباركة.

أعيد على وجه الإجمال.

الآية التي مرت معنا تعنى بحفظ الله جل وعلا ورحمته بأولئك القوم، وكيف أن الله جل وعلا جمع لهم أمرهم وآواهم وأيدهم جل وعلا بحفظه، وحتى الشمس وهي شمس جعلها الله جل وعلا أمر طبيعي من تعرض لها آذته لكنه حفظهم وكلأهم ونسب التقليب إلى ذاته قال جل وعلا: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [الكهف:18]

ثم أعثر عليهم وبين اختصام الناس فيهم، وبين المنهج الحق في الاتعاظ بالقرآن والأخذ منه.

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان وعليه البلاغ.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الكحيلة 11-01-17 03:31 AM

بارك الله فيك
وكتب لك الاجر
وجزاك الله خير الجزاء
تسلم يمينك لاهنت

طلق المحيا 11-01-17 11:10 PM

سلمتي
الله يديك العافية

طلق المحيا 11-01-17 11:11 PM

لقد احتوت سورة الكهف على آيات عظيمة، تعالج قضايا تربوية، وتربي نفوساً آمنت بربها، وإنه من الجميل أن يتأمل المرء فيما حملته من معان وعبر.

طلق المحيا 11-01-17 11:11 PM

تفسير قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً... لأقرب من هذا رشداً)
الحمد لله، وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

وبعد:

فهذا لقاء متجدد مع برنامجنا من محاسن التأويل الذي نشرع فيه بعون من الله جل وعلا وتوفيق في تأملات في كلام الله تبارك وتعالى، والمنهج في هذه اللقاءات المباركة: أننا نعرج على سور القرآن متوخين أوائل ما نزل منها نبدأ به ذلك حتى يكون التأمل والتفسير والتأويل مطابقاً لمجريات النزول، ولأحداث السيرة العطرة والأيام النضرة لنبينا صلى الله عليه وسلم.

وكان قد مر معنا لقاءان حول سورة الكهف بينا فيهما أن سورة الكهف من أوائل ما أنزل، وأن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إنها من العتاق الأول، أي: من أوائل ما أنزل، وأنها من أوائل ما أخذه عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه من القرآن، وانتهينا إلى قول الله جل وعلا: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23-24].

وبيان المعنى في هذه الآيات على التالي:

يخاطب الله جل وعلا نبيه قائلاً له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ [الكهف:23]، وهي: استغراق في العموم أي: لأي أمر، إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

طلق المحيا 11-01-17 11:14 PM

سبب نزول الآية
ومناسبة هذا الاستثناء فيما ذكره أكثر أهل التفسير: أن قريشاً لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتية والروح، وعن رجل حكم في أوائل الزمان يعنون: ذا القرنين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً أنه سيحدثهم ويأتيهم بالخبر عن الله، ولم يستثن أي: لم يقل: إن شاء الله، فعاتبه ربه بأن تأخر الوحي القرآني قليلاً عنه صلوات الله وسلامه عليه، ثم جاءه الجواب دون أن يكون الجواب مصدراً بمعاتبة، وإنما قال الله: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9]، وأخذ جل وعلا يبين لنبيه قصة أصحاب الكهف، ثم بعد أن كادت القصة تنتهي ولم يبق إلا حل الإبهام في قوله جل وعلا: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [الكهف:25].

والتي بين الله جل وعلا فيها كم لبثوا، فقبل أن يصل الله إلى مدة اللبث ليختم على القصة وينهيها خبراً عاتب نبيه بقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

وقبل أن نشرع في بيانها وأوجه التفسير فيها نقول: هذا يسمى من العتاب من الله جل وعلا للحبيب المكرم صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون: إن الشخص إذا أراد أن يعاتب حبيبه على بعض أسئلته، أو على طلبه، فإنه يعطيه الطلب ثم بعد ذلك يعقبه بالعتاب، ولا يقدم العتاب على الإجابة أو على الطلب سواءً أجاب أو لم يجب، إنما يؤخر العتاب، فالله جل وعلا أخر المدة الزمنية، ولم يعاتب نبيه، وأخبر نبيه بنبأ أصحاب الكهف: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13].

ثم لما قص جل وعلا على نبيه نبأ أصحاب الكهف بالحق، قال له في نهاية الخطاب: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا [الكهف:23]، وهذا الخلق الذي علمه الله جل وعلا نبيه تأدب به صلوات الله وسلامه عليه، فكما عامله ربه جل وعلا عامل صلى الله وعليه وسلم أصحابه بمثله، ويدل على هذا حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه، وهو أحد الصحابة المتأخرين إسلاماً، ولد في جوف الكعبة، وهو ابن أخ لـخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، واسمه حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم مالاً فيعطيه قال: سألته فأعطاني، وسألته فأعطاني، وسألته فأعطاني، ثم بعد أن أعطاه ثلاث مرات حتى لا يبين له أن المقصود منعه، وإنما المقصود تربيته قال له: (يا حكيم ! إن هذا المال خضرة حلوة)، ثم أخذ يبين له أن العاقل لا يأخذه باستشراف نفس، فما أتاك منه بغير استشراف فخذه، ونهاه أن يأخذه بطلب وإلحاح، واستشراف نفس، ثم قال له: (واليد العليا خير من اليد السفلى)، فأخذ يبين له الأدب الذي ينبغي أن يكون الكملاء من الرجال، قال حكيم وهو يجيب النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق! لا أسأل أحداً بعدك، ولم يقل: لا أسألك؛ حتى لا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: فهمت من كلامك أنك تريدني ألا أطلب منك مالاً فقال له: لا أسأل أحداً بعدك، وبقي على سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حكيم لا يسأل أحداً، فكان عمر يناديه ويقول: (من يعذرني في حكيم أعطيه حقه فيرفضه)؛ لأنه أعطى النبي عهداً ألا يأخذ من أحد غيره.

هذا الخلق النبوي تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من تعليم الله له في القرآن: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

أما أقوال العلماء في تفسير الآية فيمكن حصرها في تأويلين إذا فسرت مع التي بعدها؛ لأن الله قال: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:23-24] موضع الإشكال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] وإلا: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] فهذه ظاهرة لا تحتاج إلى مزيد إيضاح، لكن الإشكال هل قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] مرتبط بما سبق أم أنه استئناف كلام جديد؟ وهذا الذي قلت في مقدمة كلامي أنه للعلماء فيه طريقان:

الطريق الأول: أن قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] أي: إذا نسيت أن تستثني في أيمانك وطال الفصل فاذكر ذلك الاستثناء ولو بعد أجل، والمعنى: أنك إذا قلت: سأفعل كذا، ونسيت أن تقول: إن شاء الله، ثم تذكرت بعد دهر أنك لم تستثن فقل: إن شاء الله فيصبح معنى الآية: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] أي: إذا نسيت الاستثناء حال اليمين، أو حال الإخبار بفعل شيء، فلا بأس أن تقوله بعد فصل، هذا الأول.

وهذا القول يدل عليه ارتباط الآيات بعضها ببعض.

وقول آخر: أن قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] لا علاقة له بالأول، وإنما إذا غلب عليك النسيان فمن أسباب تذكر ما قد نسيت أن تذكر الله بتسبيحه وحمده، وتهليله، أن تقول: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله وأمثالها حتى تذكر الشيء الذي نسيته، وحجة هؤلاء ظاهرة وهي: أن الله جل وعلا أخبر في طيات كتابه أن النسيان من الشيطان: قال الله جل وعلا على لسان يوشع بن نون فتى موسى: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63].

وقال جل ذكره: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة:19] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن النسيان من الشيطان، فيطرد ذلك النسيان الذي هو من الشيطان بذكر الرحمن، على هذا القول من التفسير لا علاقة لقول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] بقول الله جل وعلا من قبل: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

لكن ينبغي تحرير المسألة كالتالي:

من قال أصلاً بأن: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] مرتبطة بما سبق يقول: إن الفصل إذا طال لا ينفع فيه الاستثناء، بمعنى: لو أن إنسان أقسم على شيء أن يفعله، ولم يقل: إن شاء الله، ثم قال في غده أو بعده غده: إن شاء الله، فإن هذا الاستثناء المتأخر البعيد الفصل بينه وبين الخطاب الأول لا يمنع من وجوب الكفارة إذا حلف في يمينه، بمعنى: أنه لا تبرأ به الذمة، فلابد من الكفارة إذا حلف في اليمين، لكن أشكل على العلماء أن المشهور من قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفصل يصح ولو طال، ولو بعد سنين، هكذا فهم ابن عباس الآية في المنقول عنه رضي الله تعالى عنه، ونحن أمام معضلة وهي: إذا قلنا برأي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أطبق العلماء لو أخذنا بهذا الرأي لم يحنث أحد في الدنيا أبداً؛ لأنه إذا كان يحق له أن يقول: إن شاء الله في أي وقت، فإنه قبل أن يقدم، أو قبل أن يحجم يقول: إن شاء الله وتنتهي يمينه، وهذا لا يقول به عاقل، وما دام لا يقول به عاقل من الصعب إسناده إلى ابن عباس فكيف نتهم به رجلاً من أكابر علماء الصحابة إذاً: لابد من تخريج لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

الصواب -إن شاء الله- أنه قصد بقوله: أن تقول: إن شاء الله ولو طال الفصل لا لتبرأ الذمة بحنثك عن اليمين، وإنما لتشعر نفسك بأنك تداركت الأمر، فلا تصبح كاذباً أو معتمداً في أمورك على غير الله، فإذا نسيت وتذكرت بعد حين فإنك تقول: إن شاء الله، من باب تدارك الأمر، ومن باب الاستغفار، والإخبار أنك نسيت في أول الأمر ومن باب الاعتماد على الرب جل وعلا، والاعتقاد أن الأمور كلها لن تنفذ إلا بمشيئة الله، لكنك لا تقصد بهذا أن ترضى عن نفسك أو تسوغ لنفسك أن تحنث في يمينك فتجعل من قولك: إن شاء الله، التي بعد حين هي نفسها القريبة العهد بنفس الخطاب، وأرجو أن يكون هذا ظاهراً.

ومما يستطرف في هذا الشأن أن أبا حنيفة النعمان الفقيه المعروف لم يكن يقول بقول ابن عباس ، فكان أبو جعفر المنصور يأتي الواشون إليه ويقولون له: إن أبا حنيفة لا يقول بقول ابن عباس ، على اعتبار أن ابن عباس جد لـأبي جعفر . فأقدمه بين يديه، وقال له: كيف لا تقول بقول ابن عباس ؟ فأراد أن يخرج من هذا المأزق، وأبو جعفر أمير المؤمنين فكلمه بشيء يحافظ عليه وهو كرسيه، قال له: يا أمير المؤمنين ! إن القول بقول ابن عباس يضر بملكك، فإن الناس يعطونك أيماناً وبيعة، فإذا خرجوا من عندك قالوا: إن شاء الله، ثم يحنثون في يمينهم ويتركون البيعة، فلم يستطع أبو جعفر أن يجد جواباً على أبي حنيفة ، وإنما استحسن قوله وقبله منه.

والمقصود من هذا: أن هذا مضمار تجري فيه أقدام العلماء.

وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23-24].

هذه الآية فيها إشعار خفي غير ظاهر، ومعناها: ادع الله أن يدلك على طريق أقرب لهداية الناس بآيات أعظم من آيات قصص أصحاب الكهف، يعني: لا تجعل القضية وقفاً على قصة أصحاب الكهف أن تقنع بها قومك، واسأل الله آيات أقرب رشداً إلى الطريق الحق من قصة أصحاب الكهف، وإن كان أصحاب الكهف من آيات الله ولا ريب أن الله استجاب دعاء نبيه، فأعطاه من الآيات المثبتة لنبوته صلى الله عليه وسلم وصدقه ما الله به عليم إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه.

طلق المحيا 11-01-17 11:15 PM

تفسير قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين..)
ثم عاد الخطاب منهياً قصة أصحاب الكهف، وقلنا مراراً: إن من أعلا أنماط التفسير إيضاح القرآن بالقرآن، والله جل وعلا لم يقل في أول القصة كم ضرب على آذانهم، وإنما قال: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [الكهف:11]، وهذا الإبهام بينه الله في آخر القصة قال جل ذكره: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25].

وهناك طريقان لتفسير الآية: الطريق الأول: أن يقال: إن الله أراد أن يقول: إنهم لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين، وإنما أتى بها بهذه الطريقة لتناسب رءوس الآيات؛ لأنه لو قال: لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين لما أصبحت فواصل الآيات متطابقة.

والذي عليه الجمهور: أن الله أراد أن يقول: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]؛ لأن الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال هم أهل قريش، الذي أرشد قريشاً إلى أن تسأل هم أهل الكتاب، فأراد الله أن يقول: لبثوا ثلاثمائة سنين بحسب من أرشد وهم أهل الكتاب بالسنة الشمسية، وَازْدَادُوا تِسْعًا على الثلاثمائة بحساب من سأل وهم: قريش الذين يحسبون بالسنة القمرية، وهذا الجواب لا يقدر عليه إلا الله الذي أحاط بعلم أهل الكتاب، وبعلم قريش؛ لأن العلم بالفوارق بين السنين الشمسية والقمرية قلما يهدى إليه كل واحد، وهذا يحتاج إلى رجل حاذق ذي علم بطرائق الأفلاك، أو أمة تربت على هذا الشأن، لكن الله تبارك وتعالى علم نبيه ما لم يكن يعلم، وإلا فإن علم الله أعظم من ذلك وأجل، فيصبح هذا حل الإشكال في الآية: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25].

طلق المحيا 11-01-17 11:17 PM

تفسير قوله تعالى: (قل الله أعلم بما لبثوا...)
ثم قال الله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26]، وهذا يوهم أنهم لم يعلموا كم لبثوا، لكن المقصود من قوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26] أن العلم ذاته درجات متفاوته، فليس علم الله جل وعلا مثل علم غيره في المدة التي لبثها أصحاب الكهف، فهؤلاء إنما ينقل بعضهم عن بعض وقد يصيبون وقد يخطئون، ولو وفقوا في الصواب لكانت الطرائق التي نالوا بها التوفيق ضعيفة أو قوية، أما علم الله جل وعلا فليس كعلمهم فإن الله علم بلبثهم هذه المدة قبل أن يخلقهم، فالله يعلم ما قد كان وما هو كائن وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، قال الله جل وعلا: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا [التوبة:47]، وهم لم يخرجوا فيهم.

هذا معنى قول الله جل وعلا: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:26]، وهذه اللام للملك، فما من غائبة في السماء والأرض إلا والله جل وعلا يعلمها.

أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [الكهف:26] هذا أسلوب تعجب عربي، والمقصود: عظم سمع الله جل وعلا وبصره، وهذا أمر لا خلاف فيه بين أهل السنة.

مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ [الكهف:26] اختلف على من يعود الضمير هل يعود على قريش المخاطبة، أو يعود على من في السماوات والأرض؟ والأظهر: أنه يعود لكل أحد فليس لأحد ولي من دون الله.

ثم قال سبحانه: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26]، وهذه الآية أصل فيما يسمى بالفقه السياسي، والمعنى: أن التنظيم المعاصر ينقسم إلى قسمين: تنظيم إداري، وتنظيم شرعي، فالتنظيم الإداري لا يعارض الآية، فعله من أمرنا بالاقتداء بهم مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لم يكن يعلم أن كعباً تخلف، حتى رجع إلى المدينة؛ لأنه لم توجد دواوين يكتب فيها أسماء الجند، فلما جاءت خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه أقر إيجاد الدواوين ليعرف من غاب ومن حضر، فصنع شيئاً لم يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا نظام إداري وليس شرعي، واشترى عمر دار صفوان بن أمية في مكة، وجعلها سجناً والدار قديمة من أيام الجاهلية، ولم يصنع هذا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر من بعده، لكنه أمر إداري استحسنه عمر .

فهذه أمور إدارية صحيحة ما لم تخالف نصاً صريحاً، وعليه أكثر قوام حياة الناس اليوم، وهذا لم يعنف الله فيه وتركه مفتوحاً لخلقه يصنعون بحسب ما يلائم كل عصر، وكاتخاذ عمر تاريخ الهجرة.

أما قوله سبحانه: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26] فهذا الذي لا يجوز مخالفته، مثلما ما ينادى به في عصرنا من مساواة الرجل بالمرأة في الميراث، أو دعوى أن الطلاق ينبغي أن يكون عن طريق المحاكم فقط، وسلبه من الرجل، أو ما إلى ذلك من أمور متعددة كوصفهم الرجم وقطع اليد بأنهما وحشية، وهذا كله لا يجوز شرعاً القول به، ومن تبناه كفر، ولهذا قال الله: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26].

طلق المحيا 11-01-17 11:18 PM

تفسير قوله تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك...)
ثم لما بين الله جل وعلا لنبيه قصة أصحاب الكهف وما لله جل وعلا من جلال الكمال ونعوت الجلال قال له: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27] أي: أن المستند الذي تتكئ عليه والذخر العلمي الذي تلجأ إليه هو: ما أوحاه الله جل وعلا إليك في هذا الكتاب العظيم.

قال: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الكهف:27] وكلمات الله وصفها الله جل وعلا بأنها متضمنة لأمرين: متضمنة التضمن الأول: للأخبار، والتضمن الثاني: للأوامر والنواهي، فالأخبار لا توصف بأنها عدل، وإنما توصف بأنها صدق وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115].

والأوامر والنواهي توصف بأنها عدل، فقول الله جل وعلا: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115]، أي: لا يجوز لأحد أن يجعل من أخباره الصادقة أخباراً كاذبة، ولا من أوامره ونواهيه العاجلة أن يجعلها أموراً، أو أسئلة أو مطالب أو نواهي أو أوامر جائرة، أو ظالمة، هذا معنى قول الله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27].

والميت يوضع في قبره، والقبر قسمان: شق، ولحد، واللحد هو: الميل، وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27] مأخوذ منها، وهو اسم مفعول بمعنى: لن تجد شيئاً تميل به عن الله، وجاء هذا في القرآن معبراً عنه مرة بالملتحد، ومرة بالمحيص، ومرة بالمناص، ومرة بالموئل، وكلها بمعنى واحد.

طلق المحيا 11-01-17 11:19 PM

تفسير قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم...)
لما أمر الله جل وعلا نبيه الكريم أن يعكف على القرآن ويستضيء بنوره، أمره كما أن يكون له إعانة في الباطن وهو قراءة القرآن يكون له إعانة في الظاهر وهي: الرفقة والصحبة الصالحة، قال له: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28].

قال العلماء في تأويلها: إن نفراً من سادة قريش عيروا النبي صلى الله عليه وسلم بصحبته وجلوسه مع فقراء الصحابة: كـعمار ، وصهيب ، وبلال وأمثالهم من فقراء الصحابة الذين كانوا يعيشون في مكة، فأنزل الله جل وعلا على نبيه قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف:28] أي: احبسها مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، فسر قوله: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28] بصلاة الفجر، وصلاة العصر، وفسر بغير ذلك، لكن أجمع ما يمكن أن يقال في تأويل هذه الآية إيمانياً: أن هؤلاء المباركين -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- وهذه ينبغي تدبرها جيداً، أنهم في الغداة وفي أول النهار يدعون ربهم بأن يسألونه التوفيق لطاعته، ولا موفق إلا الله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وبالعشي يستغفرونه عما حصل من تقصير خلال طاعتهم في ذلك اليوم؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يعبد الله جل وعلا حق عبادته، سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وهذا نظيره في القرآن أن الله قال عن بعض أوليائه: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17] ثم ذكر أنهم مع ذلك كله ينهون وقتهم بالاستغفار قال الله جل وعلا: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] عما حصل من تقصير.

قال ربنا تبارك وتعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].

قول الله جل وعلا: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، ثم قال: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28] وهذه جملة حالية أي: حال كونك تريد زينة الحياة الدنيا، وهذا من تأديب الله لنبيه، وأن هؤلاء المعاندين المتكبرين إنما يريدون زينة الدنيا، ولا يحرصون على الآخرة، وقال له: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28] أي: في ترك هؤلاء الصالحين، ولم يذكر أسماءهم، وإنما ذكر الله صفاتهم حتى لا تصبح العبرة بخصوص السبب، وإنما العبرة بعموم اللفظ.

قال الله جل وعلا: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28] فهو ظاهر الطغيان متبع لهواه، غافل معرض عن ذكر الله، وهذه الأسباب قد توجد كلها في شخص، وقد يوجد بعضها، لكنها أياً كانت وجدت كلاً أو بعضاً، فهي صفات مقيتة تبعد عن الرب تبارك وتعالى، قد يتلبس بها الناس تلبساً كاملاً، فيكونون كفاراً، أو يتلبسون بها تلبساً جزئياً، فيكونون مؤمنين، لكنهم عصاة، أو مسلمين لكنهم فساق.

طلق المحيا 11-01-17 11:20 PM

تفسير قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم...)
قال الله: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الكهف:29] فالدين دين حق آمنتم أو لم تؤمنوا، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].

وأكثر الصحفيين في عصرنا يجعلون من هذه الآية دليلاً على التخيير، ويقولون لمن يجنح إلى الدعوة ماذا تريدون من الناس والله قد أطلق لهم العنان فقال: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].

وقد قال علماء الملة ونصراء الدين، وأئمة التفسير: ليس المقصود من الآية التخيير، وإنما السياق سياق تهديد ووعيد، والدليل على أنه سياق تهديد ووعيد: إن الله قال بعدها: وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا [الكهف:29] والظالمون هم المشركون الذين حادوا عن طريق الحق.

فقول الله سبحانه: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29] قرينة على أن المقصود ليس التخيير فيما سبق، وإنما هذا سياق تهديد ووعيد، كما أن من المراد من التهديد والوعيد إظهار استغناء الله ورسوله عن نصرة أهل الإشراك، فالدين حق آمنتم أو لم تؤمنوا، نصرتم أو لم تنصروا، دخلتم فيه أو حدتم عنه، المعنى: لا يضر الله جل وعلا ذلك شيئاً.

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29].

السرادق هو: الفسطاط، أو خيمة الشيء، أو المسور له ولذلك معان واسعة، لكن تفهم منه الإحاطة، أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا : شرطية، يُغَاثُوا واقع في جواب الشرط، ولذلك حذفت نونه؛ لأنه من الأفعال الخمسة.

وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ والأصل: أنهم طلبوا الإغاثة ليشربوا، لكن الله لم يقل إنهم ازدادوا عطشاً، ولم يقل إنه ذهب عطشهم، وإنما جاء بشيء آخر قال: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ويأتي السؤال ما علاقة الوجوه بماء يشرب؟ والمقصود: أن هذا الماء إنما دعوا به ليذهبوا حر عطشهم، فما إن قرب منهم لشدة حرارته التي هي كالمهل أي: كعكر الزيت، ما إن يدنوه من أفواههم حتى تتساقط فروة وجوههم فهذا قبل أن يطعموه، فكيف بعد ما طعموه، ولا ينجيك من هذا إلا الله، فمن توكل على الله كفاه الله خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ومن حاد عن الله فإن الله قال قبلها: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27].

قال الله: بِئْسَ الشَّرَابُ وهذا أسلوب ذم عند العرب، وبئس: فعل ماض جامد ناقص التصرف، يعني: لا يتصرف تصرفاً كاملاً، بئس الشراب والمخصوص بالذم محذوف والتقدير: بئس الشراب هذا الماء.

بِئْسَ الشَّرَابُ وسَاءَت مثل بئس سياق الذم مرتفقاً، والمرفق إنما يتكئ الإنسان عليه إذا شعر بالإعياء، وليس في النار راحة، وإنما المقصود: أسلوب تهكم بهم، فليس الخطاب على حقيقته.

بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا أي: جهنم أعاذنا وإياكم منها.

طلق المحيا 11-01-17 11:22 PM

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات... وحسن مرتفقاً)
لما ذكر الله الأشرار أتبعه جل ذكره بذكر الأخيار، قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30].

فكل من عمل صالحاً، وقد آمن وأراد بذلك وجه الله فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.

وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40] وسيأتي بيان هذا في موطنه.

(أولئك لهم): أي: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الكهف:31]، عدن في المكان بمعنى: أقام فيه وخلد، ولهذا سميت جنات عدن بذلك؛ لأنها دار خلود وإقامة.

أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الكهف:31] أنهار من لبن، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من غسل مصفى، وأنهار من ماء غير آسن، والقرآن يوضح بعضه بعضاً.

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف:31].

وجاء في بعض الآيات أنها أساور من فضة، وجاء في بعض الآيات أنها أساور من لؤلؤ، ويجمع بينها: أنهم يحلون بأساور من ذهب، وأساور من فضة، وأساور من لؤلؤ تبلغ منهم ما يبلغه الوضوء كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره من حديث أبي هريرة .

وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ [الكهف:31].

السندس: رقيق الحرير، والاستبرق: غليظ الحرير، وجمع الله جل وعلا لهم النعمتين، وعندما أهديت له صلى الله عليه وسلم قطعة من حرير فلمسها الصحابة وتحلقوا حولها قال: (أتعجبون من رقتها؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه) أو أفضل من هذه، أو أرق من هذه، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه.

والمقصود: جملة ما أعطاه الله جل وعلا من نعيم لأهل الجنة، وكون الثياب خضراً، هذا الذي كان لباس الملوك في الجاهلية، ولباس ملوك العرب في جاهليتهم، (خضر المناكب) وهذا شطر آخر بيت للنابغة الذيباني .

والمقصود: أن الخضر كانت نوعاً من اللباس الذي يتجمل به أعالي القوم، فعاملهم الله جل وعلا بجنس صنيعهم.

وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:31].

السرير إن جلس عليه فهو عرش، وإن وضع عليه ميت فهو نعش، وإن لم تضع عليه لا ميت ولا ملك وإنما نمت عليه فإنه يسمى سريراً.

شيء آخر اسمه: الحجال، الحجال قباب من ثياب مزخرف بعضها فوق بعض، كان النساء في ذلك الزمن ينمن عليها، ولهذا يقال: للمرأة أو للنسوة ربات الحجال أي: عاكفة على الحجال تنام فيه، فإذا هذا السرير وضع عليه الحجال أي: ظهرت له أعمدة، وغطي بثياب مع أن الصورة ظاهرة فإنه يأتي له بأعمدة أربعة عالية، ثم يغطى أشبه ما يتقى به البعوض، ثم وضعت عليه ألحفة وشراشف وأشباهها، هذا كله جملة مجموعه يسمى: أريكة، وقد كان هذا النوع من الطرائق في النوم، أو من الأمكنة في النوم من حال أهل الترف وما زال.

المقصود: قال الله: مُتَّكِئِينَ فِيهَا أهل طاعته، عَلَى الأَرَائِكِ الذي صورتها لك.

وبعد أن قال: بِئْسَ الشَّرَابُ ، قال: نِعْمَ الثَّوَابُ ولم يقل الشراب؛ لأنه لم يذكر الشراب هنا، والثواب: يطلق على الجزاء الحسن، والجزاء السيئ قال الله جل وعلا: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [المائدة:60].

وكما قال في الأول: وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29] قال هنا: (حسنت) على بابها ففي الأولى قلنا: ليست على بابها، لكنها هنا على بابها، لأن الاتكاء من الإعياء والراحة لا يطاق على عذاب أهل النار، وإنما تهكم الله بهم، وهنا جاءت على بابها الأصلي: أنهم يتكئون اتكاء راحة نعتها رب العزة والجلال بقوله: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:31].

طلق المحيا 11-01-17 11:24 PM

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً رجلين.... وأعز نفراً)
ثم ذكر الله جل وعلا بعد أن ذكر الفريقين حقيقة، وهم صناديد قريش، والفقراء ضرب مثلاً، وضرب المثال تقريب للشيء البعيد، ولابد أن تكون صورة المثال مقربة للشيء المبهم، وإلا تصبح غير موفق في ضرب المثال؛ لأن الضرب في حقيقته ضرب اليد بشيء آخر، فأنت عندما تريد أن تعاقب أحداً أصغر منك، أو أضعف منك جسماً، إذا ضربته آلمته، فتحقق مقصودك، لكنك إذا ضربت بيدك شيئاً أقوى منك، كمن يضرب حديداً، أو صخراً، أو ما أشبه ذلك فإنه هو المتضرر، ولا يصبح هو الضارب.

كناطح صخرة يوماً ليفلقها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

فالوعل إذا نطح الصخرة بقرنيه هو الذي يتأثر، وليس الصخرة.

فضرب المثال لابد أن يكون شيئاً مقرباً للمستمع لمن يراك، ولمن تريد أن تضرب له مثالاً، فلا تجنح به بعيداً، فيكون مثالك أصعب من الشيء الذي أردت إزالة الإبهام عنه.

قال الله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ [الكهف:32] هل هذا حقيقة، أو مجرد ضرب مثل؟

كل ذلك محتمل، وهل هو في عهد النبوة، أم في الزمن الغابر؛ في عهد بني إسرائيل؟ هذا هو الأظهر، وأياً كان الأمر هذا مثال ضربه الله جل وعلا.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا [الكهف:32] أي: أحطناهما، قال تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ [الزمر:75].

وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ [الكهف:32-33] أي: ولم تنقص منه شيئاً، ولا يوجد تظلم في القرآن بمعنى: تنقص إلا في هذه الآية، والأصل: في النخل والكروم وغيرها، أنها إذا طال الأمد عليها ليس في كل عام تفي بغلتها كاملة، لكن هذا الرجل من الله عليه بأن شجره وزرعه ونخله يؤتي أكله في كل حين كاملاً.

وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا [الكهف:33] أي: مجرى ماء.

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ [الكهف:34].

المقصود: بقول الله جل وعلا: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ [الكهف:34] أي: كان له مال آخر غير الشجر؛ لأن الثمر في لغة العرب يطلق: على الولد، وكل ما تمولته، وعلى الذهب والفضة، والحلي، وسائر ما تمتلكه يقال له: ثمر، هذا أسلوب العرب في كلامها، قال النابغة الذيباني :

وهو يعتذر لأحد الملوك:

مهلاً فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد

أي: ما أنمي، وما أملك من مال ومن ولد فداء لك.

والنابغة الذبياني أحد رءوس الشعراء الجاهليين، وكانوا يقولون: إن أشعر الجاهليين ثلاثة:

امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا طرب، والنابغة إذا رهب.

معنى الكلام: امرؤ القيس إذا ركب: أي إذا خرج يصطاد، فوصف الصيد، والأعشى إذا طرب: فقد كان سكيراً، إذا بلغت الخمرة منه مبلغها، والنابغة إذا رهب أي: إذا خاف واعتذر؛ لأن الخوف يدفع إلى الاعتذار، وهو أحد أصحاب المعلقات ومطلع معلقته:

يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد

وقفت فيها أصيلاناً أسائلها عيت جواباً وما بالربع من أحد

نقول: إن قول الله جل وعلا: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ أي: له مال آخر غير ذلك الزرع.

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ أي: قرينة. وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا [الكهف:34]

وهذا ظاهر بالجنتين وما فيهما، وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34] النفير: من إذا استنفرته نفر معك، ويقصد: أكثر أولاداً، والدليل على أنه يقصد أكثر أولاداً: ما بعدها، لأن العبد الصالح قال له: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39] فمالاً: تأتي مقابل: أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وولداً: تأتي مقابل: وَأَعَزُّ نَفَرًا ففهمنا من أن النفر هنا: بمعنى: الولد، ولهذا قلنا: إن من أراد أن يفسر القرآن لا يستعجل، وإنما يرى الآيات مكتملة، ثم بعد ذلك سيهدى إن شاء الله إلى أقوم السبل.

طلق المحيا 11-01-17 11:25 PM

تفسير قوله تعالى: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه... خير ثواباً وخير عقباً)
قال الله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ [الكهف:35] والمقصود: كلتا الجنتين.

وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [الكهف:35] جملة حالية، والظلم هنا: بمعنى: الشرك.

وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35] أي: لا أعتقد أن هذه على جلالتها، وكثرة مائها، ووفرت زرعها، وما فيها من رغاء وثغاء أنها ستفنى.

ثم قال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36]، والإنسان -والعياذ بالله- إذا طغى فإنه يطغى بالتدرج؛ لأنه إذا ما وجد للكلمة ولم يرد عليه أحد فإنه يزيد.

يقال: إنه قيل لفرعون: كيف وصلت إلى ما أنت فيه؟ قال: لم أجد أحد يقول لي: إن هذا ممنوع، فما زال يقول، ويقول، ويقول حتى صدق نفسه لما رأى الناس يصدقونه، كمن اعتاد الكذب فإنه يقول الكذبة مرة ومرتين، وأنت تستحيي منه، فإن تركت له الحبل على الغارب كل مرة فإنه يزيدها، فأنت لن تستطيع أن تدفع الأخير، وقد رضيت بالأولى.

فالمقصود: أنه قال في أول الأمر: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35] وهذا اغترار بالجنتين، ثم تطور الأمر إلى أن قال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36]، وكأن نفسه عاتبته فرجع إلى طغيانه وقال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36].

قال العلماء: كلمة رب هنا: ما قالها اعتقاداً وإنما جاءت عرض الكلام، يعني: إن كان ولابد كما يقول الناس إنه يوجد آخرة فالذي أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني خيراً منها في الآخرة.

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف:34] والمحاورة تجوز مع أي أحد إذا كان المقصود منها إظهار الحق.

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37] أعطاه ثلاثة أطوار للخلق، وللخلق أطوار أكثر من ذلك، وإنما بدأ بالتراب وهو أصل خلق أبينا آدم، ثم النطفة وهي أصل كل مخلوق، ثم سواك رجلاً، وهذا لا يلزم تمامه في كل أحد؛ لأن ليس كل أحد يعمر إلى هذه السن، لكنه يخاطب رجلاً بعينه.

لَكِنَّا [الكهف:38] (لكنا): زائدة ألف، وأصلها: لكن الاستدراكية، وأنا: الذي هو الضمير، حذفت ألف همزة القطع من أنا، وأدغمت نون الضمير في نون الحرف لكن، فأصبحت بهذه الصورة التي تراها في المصحف.

لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ [الكهف:38-39] يخاطب المحاور الكافر، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ [الكهف:39] كان الأولى والأحرى بك أن تقول: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39] وهي كلمة شرعية تستخدم لدفع العين، لكن الكلام عنها سيأتي في بابها عند الحديث عن قول الله على لسان يعقوب: وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف:67] وكان مالك رحمه الله يقولون: إنه إذا أراد أن يجيب سائلاً قبل أن يجيب يقول: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39] ثم يجيب، لكن الناس ما اعتادوا على هذا، وأذكر أنني حاولت مرة أن أحاكي مالكاً فيها فسألني سائل، فقلت: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، فاستغرب فقال: خير يا شيخ! فأحجمنا عنها؛ لأن الناس لا يدركونها تحتاج إلى تعويد الناس عليها.

المقصود: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39]، ما عند الله إنما يستجدى بإظهار الفقر، والمسكنة والحاجة إلى الله، لا بإظهار البطر والاستغناء، والتعالي على رب العالمين جل جلاله.

فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ [الكهف:40] وكان عبداً صالحاً دعا على ذلك المشرك بقوله: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ [الكهف:40].

(حسباناً) هذه نعت لمحذوف، والمحذوف هو: هلاك. والمعنى: فيرسل عليها هلاكاً حسباناً من السماء، والحسبان هو: الشيء المقدر، لكن اختلف في معنى الحسبان هنا: فقيل: إنه الجراد، وأظنه بعيداً؛ لأن الجراد قد يأكل الأخضر، لكن لا يقدر على إهلاك الجنتين يعني: كلاهما، هذا واحد.

وقيل: سهام أصابتها، وقيل: صاعقة وهو الأظهر، لكن الله قال: حسباناً؛ لأنه الشيء المقدر، ولو أن هاتين الجنتين أهلكتا بزلزال عام، أو بجائحة عامة لما كان في ذلك انتصار للعبد الصالح، ويوصف هذا بتعبير العامة اليوم: هذا موس على كل الروس، يعني: زلزال عام وصواعق عامة، وفي كل سنة تجيء في الشتاء وفي الصيف، وهذا شيء عام لا تستطيع أن تقول: إنني أذنبت، لكن الله قال: (حسباناً) أي: شيئاً مقدراً على قدر الجنتين حتى يعرف أنها مراده ومقصوده بالهلاك.

وقد قال لنا أحد العلماء غفر الله له ورحمه: إنه أدرك بالمدينة مزرعة أصابتها صاعقة أفنت كل ما في المزرعة -وصاحبها كان ظالماً- إلا ظلاً بسيطاً يقول: لما جاء للظل وجد تحته قطة لديها أبناء، فلما انتفعت تلك القطة وأبناؤها بذلك الحيز اليسير من المزرعة نجاها الله جل وعلا؛ لأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة.

ولما كان غيرها يذهب وربما فجوراً وعصياناً ناله ما ناله من غضب الله، وهذا يؤيده قول الله جل وعلا من قبل: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30] وإن كان يقع أحياناً، فيرد إلى حديث: (يبعث الناس على نياتهم).

قال الله جل وعلا: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا [الكهف:41] غوراً: هذا مصدر بمعنى: غائر، ويؤيده قول الله جل وعلا: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا [الملك:30] والعرب كثر في كلامها -كما قرر نحاتها- أنهم يصفون اسم الفاعل بالمصدر، أي: يصبح ماؤها غوراً، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [الكهف:41].

قال الله: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف:42] كلمة ثمر تبين أن هذه الصاعقة أخذت كل شيء.

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ [الكهف:42] كناية عن الندم والحسرة، عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:42].

قال الله: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الكهف:43] ومن ذا الذي يستطيع أصلاً أن ينصره من دون الله، ولهذا ترتب اللوازم عليها، قال الله: وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا [الكهف:43].

ثم قال الله: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:44].

الولاية: أي شيء بينك وبين غيرك له سبب: دين حلف جوار نسب، هذه الولاية، وهذا السبب قد يختلف، فالولاية بيني وبينكم، وبين سائر من يسمعنا من المسلمين: الإسلام، وقد تزداد فتكون: الإسلام والنسب، وقد تزداد بأشياء أخر، لكن هنا لما لم يكن له عمل، وهذه بين المخلوقين، أما بين الله وبين خلقه فالولاية: الإيمان والعمل الصالح بها يستقطب المؤمن، ويستجذب ولاية الله، فلما لم يكن له إيمان، ولا عمل صالح لم يكن بينه وبين الله ولاية، قال الله: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:44].

طلق المحيا 11-01-17 11:26 PM

فسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا)
ثم قال الله جل وعلا: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45].

المقصود من الآية جملة: أن يبين الله لك أن الله جل وعلا قادر على كل شيء أن يبدءه ويثنيه ويعيده سبحانه وتعالى.

فالله قادر على الإحياء والإفناء، والإعادة، ضرب الله لهذا مثلاً قال: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:45] التي يتعلقون بها، كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ [الكهف:45] شيء محسوس، لا يستطيع أن يكابر في رده أحد، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا [الكهف:45] بعد أن قام على سوقه، تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45] وهذا معنى قول الله: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45] فبهذا المثال يبين الظاهر الواضح المحسوس لكل أحد يبين لك ربك كمال قدرته، وجلال عزته، وعظيم قدرته على الخلق والإفناء والإعادة سبحانه وتعالى.

هذا ما يمكن أن يقال في هذا اللقاء المبارك في هذه الآيات المجزوءة من سورة الكهف التي بينا في أولها قضية قول الله جل وعلا في المشيئة وأقوال العلماء في الاستثناء، ثم ذكرنا ما بينه ربنا تبارك وتعالى من قصة الرجلين المتحاورين: مؤمن صابر، وكافر غني ذو كبر وأشرة، وما حصل بينهما من نزاع، وما انتهى الأمر إليه من ولاية الله جل وعلا لأوليائه المتقين، استجابة الله جل وعلا لدعوة ذلك العبد على من حاوره وقارنه، ثم بينا مثل الحياة الدنيا الذي بينه الله جل وعلا، وهذه الآية الأخيرة سنبدأ بها إن شاء الله تعالى لارتباطها بما بعدها في اللقاء المقبل إن شاء الله تعالى.

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، والله المستعان وعليه البلاغ.

وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 13-01-17 12:17 AM

يبين المولى الكريم جل وعلا في هذه الآيات من سورة الكهف أن المال والبنين زينة لصاحبها يفرح بوجودهما، ويحزن لفقدهما، ثم يخبر تعالى أن الحياة الدنيا ليست إلا كزخة من مطر أصابت أرضاً وسرعان ما انتهت وتلاشى أثرها.



الساعة الآن 01:49 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi