ملتقى قبيلة حرب الرسمي

ملتقى قبيلة حرب الرسمي (http://www.m-harb.net/vb/index.php)
-   الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام (http://www.m-harb.net/vb/forumdisplay.php?f=47)
-   -   إهداء لأعضاء وزوار الملتقى الإسلامي بملتقى حرب (http://www.m-harb.net/vb/showthread.php?t=154149)

طلق المحيا 15-12-16 06:58 PM

إهداء لأعضاء وزوار الملتقى الإسلامي بملتقى حرب
 
إهداء لأعضاء وزوار الملتقى الإسلامي بملتقى حرب


بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يقال : علم ابنك القرآن والقرآن يعلمه كل شيء.

الموضوع إهداء
لأعضاء وزوار الملتقى الإسلامي بملتقى حرب ....

بإذن الله، في كل مشاركة مستقلة تجدون تفسير
أيه من آيات القرآن الكريم.

وبالإضافة إلى الفائدة المرجوة على المستوى الشخصي لكل مطلع

فإنه بإمكان الجميع نسخ تفسير آية كل يوم
وإرسالها للقروبات المشاركين بها، وأي موقع آخر.

أسأل الله لنا ولكم التوفيق.

طلق المحيا 15-12-16 07:58 PM

للعلم: النقل من

سلسلة محاسن التأويل للشيخ صالح المغامسي
جزاه الله خير.

وابدأ بإذن الله من سورة طه

لأن تفسير الشيخ في سورة طه
اشتمل على الحروف المتقطعة التي في أوائل بعض السور.

طلق المحيا 15-12-16 08:02 PM

تفسير سورة طه
 
سورة طه سورة مكية، وهي من العتاق الأول، وقد افتتحها الله تعالى بقوله: (طه)، وهي من الحروف المقطعة المختلف في معناها، وهناك من يقول: إن (طه) اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الله تعالى الغرض من إنزال القرآن الكريم على نبيه، وهو أنه للتذكرة والموعظة لمن يخشى الله تعالى، وفي بداية السورة ذكر الله تعالى أن له الأسماء الحسنى، وأنه سبحانه يعلم السر وأخفى .. وفي ذلك فوائد عظيمة وثمرات جليلة ينتفع بها المؤمن في حياته وآخرته.

طلق المحيا 15-12-16 08:04 PM

توطئة عن سورة طه

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فسورة طه من العتاق الأول مثل قرينتها سورة الكهف، وقد أنزلت سورة طه بعد سورة مريم، وهي كذلك في ترتيب المصحف بعد مريم، لكن الذي جعلنا نبدأ بسورة طه أن لنا تفسيراً لسورة مريم موجود بين الناس متداول فأحببنا أن نبدأ بما لم نشرع به، فلذلك بدأنا بسورة طه، وسنعود إن شاء الله تعالى إلى سورة مريم، لكن من حيث النزول طه نزلت بعد مريم، وكلاهما سورة مكية، إلا آيتين من سورة طه اختلف فيهما وهما: الآية رقم مائة، ومائة وإحدى وثلاثين.

طلق المحيا 15-12-16 08:05 PM

تفسير قوله تعالى: (طه) وبيان اختلاف العلماء في معناها

استفتح العلي الكبير سورة طه بقوله: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2]، ومن أكثر أحرف القرآن المتقطعة في أوائل المصحف إشكالاً هذان الحرفان (طه)؛ ذلك أن العلماء من حيث الجملة انقسموا إلى قسمين في فهم هذا الأمر: فمنهم من قال: إن (طه) هي من جنس الحروف المتقطعة، ومما يعينهم على هذا الفهم أن الحرفين (الطاء والهاء) من نفس الأحرف التي جاء بها افتتاح بعض سور القرآن، قال تعالى: طسم [الشعراء:1]، وقال تعالى: كهيعص [مريم:1]، فالهاء والطاء وجدتا من قبل في فواتح سور القرآن، فهذا منحى، وهذا المنحى يجري عليه أحكام رأينا في مسألة فواتح القرآن -أي: الأحرف المتقطعة- وقد فصلنا فيه في تفسير سورة (ن).

وقال بعض العلماء: إن (طه) ليست من الأحرف المتقطعة، وقد اختلف أصحاب هذا القول فيما بينهم: ما المقصود بكلمة طه؟ فقال بعضهم: إنها فعل أمر بمعنى: ضع، وهي مأخوذة من وطئ، وهؤلاء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام الليل يقوم على قدم ويرفع أخرى، فجاء القرآن تسلية وتعزية له.

وقال فريق آخر من العلماء: إن (طه) كلمة معناها: يا رجل! طه بمعنى: رجل، وحرف النداء محذوف والمعنى: يا رجل!

وقال آخرون: إنها اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كنت إلى عام أو عامين تقريباً أذهب إلى أنها من الحروف المتقطعة، لكن الذي يبدو أن القول بأنها اسم للنبي صلى الله عليه وسلم أقوى، ووجه القوة مأخوذ من تدبر القرآن -ولولا آية الشورى لجزمت لكن آية الشورى أوقفتني- وهذه طريقة في فهم القرآن، فالله تعالى يقول: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2]، ويقول: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2]، ويقول: طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [الشعراء:1-2]، إلى غير ذلك من آيات القرآن، فلم يرد بعد الحروف المتقطعة خطاب مباشر للنبي صلى الله عليه وسلم اللهم إلا في سورة الشورى، قال تعالى: حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى:1-3]، وهذه هي التي أوقفتني، وإلا فسائر سور القرآن المبدوءة بأحرف متقطعة لا يأتي بعدها مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ففي سورة طه ما يشعر أن طه اسم له عليه الصلاة والسلام؛ إذ الله تعالى يقول مخاطباً له: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2].

أما قول من قال من العلماء: إن معناه: يا رجل، فقد ورد في شعر العرب -كما في شعر أبي تمام وغيره- أن طه بمعنى: رجل، لكننا نستبعدها؛ لأنه ليس لها نظائر، ومعنى ليس لها نظائر: أنه إذا اتفقت الأمة على أن الله جل وعلا إكراماً لنبيه لم يخاطبه باسمه فلم يقل له في القرآن: يا محمد، فكيف يعقل أن يناديه: يا رجل؟! فهذا بعيد، فكل ما ورد في القرآن: يا أيها النبي! يا أيها الرسول! فلا يمكن أن ينتقل من هذه الفوقية حتى ينادى: يا رجل! فهذا بعيد وإن كانت اللغة تحتمله.

لكن نقول: إن القول أن طه اسم للنبي صلى الله عليه وسلم غير بعيد، وهذا ما نميل إليه ميلاً كبيراً، وهذا مستخدم حتى في الشعر العربي.

وذهب بعض مشايخنا إلى أن طه من الحروف المتقطعة، لكن لا ينكر على من ذهب إلى أن طه اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد مر معنا -فيما يبدو لي- أن سماحة الوالد الشيخ ابن باز والشيخ العلامة ابن عثيمين رحمة الله تعالى عليهما أنشد بين يديهما قصيدة للتويجري كان مطلعها: دمع المصلين في المحراب ينهمر .. وفيها:

إذا تطاول بالأهرام منهزم فإن أهرامنا سلمان أو عمر

أهرامنا شاد طـــه دعائمها وحي من الله لا طين ولا حجر

فكبر الشيخان عندما سمعا هذين البيتين، ولم ينكرا كلمة (طه)، مع أن الشيخ عبد العزيز رحمه الله كان يرى أن (طه) ليست اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الآية كما قلنا قابلة للأخذ والعطاء وليست مجال إنكار, والبيتان اللذان ذكرناهما من جميل الشعر الإسلامي المعاصر.

نعود ونقول: إننا نختار أن طه اسم للنبي صلى الله عليه وسلم.

طلق المحيا 16-12-16 01:33 PM

تفسير قوله تعالى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ... تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى)

قال تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2]، (ما): نافية قطعاً، و(أنزلنا): أخبر الله أن القرآن منزل من عنده، وقد فصلنا القول في التنزيل وأنواعه، ونذكر بأن الله لا يذكر أن شيئاً أنزل من عنده إلا القرآن، وفي غيره يبهم أو يسنده إلى غيره، كقوله: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا [البقرة:59] من أين؟ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:59]، ولم ينسبه إلى نفسه، وقال: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، ولم يقل من عندنا، فالذي ينسبه الله ويضيفه إلى ذاته العلية لا يكون إلا القرآن، كما قال تعالى: تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [يس:5]، وغيرها من الآيات الكثيرة.

يقول تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2]، الشقاء: هو العناء والتعب، ومقصود الآية: أن هذا القرآن أنزلناه رحمة بك، وبه ترحم الناس، وليس المقصود من إنزاله أن يصيبك شقاء وعناء وتعب من كثرة محاورتك لقومك، وكثرة تأسفك على حالهم؛ فإنك لست مكلفاً بأكثر من أن تدعوهم إلى الدين، وهذا المعنى يؤيده القرآن كله، قال تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22]، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [الكهف:6]، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، فالقرآن يؤيد هذا المعنى، وهو أن الله ما أنزل هذا القرآن على نبيه حتى يصيبه من الكمد والعناء والشقاء بسبب جحود قومه له.

طلق المحيا 16-12-16 01:40 PM

قال تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:3] (إِلَّا) استثناء منقطع: تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ، فالقرآن تذكرة، لكن هذه التذكرة لا يفرح بها ولا ينالها كل أحد، وإنما ينالها أهل الخشية، فيدخل فيها جميع من يخشى الله، وفي مقدمتهم بل في ذروتهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

طلق المحيا 16-12-16 01:41 PM

قال تعالى: تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى [طه:4] قوله: (تنزيلاً) أي: هذا القرآن، و(تنزيلاً) مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره نزلناه تنزيلاً، تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى وهو الله جل جلاله، وقدم الأرض هنا على السموات لأنها ألصق بحياة الناس، وهي أولى الآيات المحسوسة بالنسبة لهم.

وخلق السماوات والأرض من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله، وقد قررته أكثر من آية في كلام الله.

طلق المحيا 16-12-16 01:43 PM

قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، أي: من خلق الأرض والسماوات العلى هو الرحمن، فالرحمن خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.

والرحمن: اسم من أسماء الله الحسنى؛ بل من أعظم أسمائه الحسنى، فالرحيم يجوز أن ينادى به غير الله، فتقول: فلان رحيم بغيره، لكن لا يقال: فلان رحمن بغيره، فهذا من الأسماء المختصة بالله جل وعلا. وقوله: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ، العرش: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، والدليل على أنه ذو قوائم: قوله عليه الصلاة والسلام: (فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا بموسى آخذ بقوائم العرش) ، فهذا نص صريح على أن العرش له قوائم تحمله الملائكة، قال الله جل وعلا: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، وقال الله في سورة غافر: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غافر:7]، فأثبت الله أن هناك ملائكةً تحمل العرش.

وقوله: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى أي: استواءً يليق بجلاله وعظمته، وهذه أحد ست آيات أخبر الله جل وعلا فيها أنه مستوٍ على عرشه، ولا ينبغي العدول أبداً عن قول أهل السنة: أن الاستواء معلوم، والكيف مجهول؛ لأن ذكر الله للاستواء في أكثر من موضع تصل إلى ستة ولم يتغير اللفظ دليل على أن اللفظ مقصود لا يقوم مقامه غيره، وقد ذهب بعض أهل البدع إلى أنه بمعنى: استولى؛ وهذا باطل، فإن الله قد أخبر أنه مستوٍ على عرشه، ونحن نقول: نؤمن بكلام الله على مراد الله، ونؤمن بكلام رسول الله على مراد رسول الله، وقد كان الشافعي يردد هذا الكلام كثيراً: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

طلق المحيا 16-12-16 01:43 PM

قال تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:6]، ذكر الله أربعة أملاك: السماوات، والأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى، واختلف في معنى قوله: (وما تحت الثرى)، ولعله يدخل فيها -من حيث الاستئناس- المعادن التي في الأرض، وكنوز الأرض المدفونة غير الظاهرة، وما بين السماوات والأرض: الأشياء الظاهرة.

وينبغي أن نعلم أن الله ملك الأملاك، ورب الأفلاك، وأنه جل وعلا متصرف في هذه الأربعة تصرفاً تاماً؛ فهو الذي أوجدها، وهو الذي يملكها، وهو الذي يفنيها، وهو الذي يحيي من شاء منها، وهذا كله ملك تام لا نقص فيه بأي وجه من الوجوه، قال تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ، (ما) هنا موصولة، والمعنى: والذي تحت الثرى، وليست نافية، و(ما) الموصولة لا يجوز الابتداء بها، فمثلاً قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، لا يجوز أن تقف فيها ثم تبدأ بقوله: وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ، لأنه ستصبح (ما) نافية، فما الموصولة لا يبدأ بها، إنما تعود وتقرأ: إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى [البقرة:136]، ولا تبدأ بها.

فهنا لو أن إنساناً انقطع نفسه فلا يقرأ: وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وحدها، فكأنه ينفي؛ لأنها موصولة فلا يبدأ بها؛ لأن واو العطف لا يعتبر شيئاً، وهذا يحترزه الأئمة.

طلق المحيا 16-12-16 05:15 PM

تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ... له الأسماء الحسنى)

قال الله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، يقول بعض المفسرين: إن المعنى: أن الله يقول لنبيه: لا حاجة للجهر؛ فإن الله يعلم السر وأخفى، وأظنه معنى بعيداً على جلالة من قال به، وإنما المعنى: إخبار النبي بعظيم علم الله، أو أن يقال: إن الخطاب لقراء القرآن، وليس النبي صلى الله عليه وسلم مقصوداً به إلا في المقام الأول باعتبار أن القرآن أنزل عليه.

وقوله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى فيه: أن القول ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الجهر: وهو ما تعلنه وتقوله علانية فيسمعه من يرغب ومن لا ترغب، والسر: وهو ما تعلنه لكن تسمعه من ترغب فقط، هذا يسمى سراً، فلو أنني استدعيت أحدكم وأجلسته بجواري وأسمعته فأنا جهرت له بالقول حتى يسمعه، لكن لا يسمى جهراً بل يسمى سراً؛ لأنني أردت به شخصاً بعينه.

والثالث: ما هو أخفى من السر، وهو ما أسررته في نفسك ولم تخبر به أحداً، وهذا هو الذي قصده الله بقوله: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ، أي: ما هو أخفى من السر، وهو ما لم تخص به أحداً بعينه، فهذه مراتب القول، والمقصود بيان عظيم علم الرب جل وعلا.

قال تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، من هذا الذي يعلم السر وأخفى؟ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:8]، وقد مر معنا أن لفظ الجلالة (الله) لم يتسم به أحد إلا الله، وهو معنى قول الله جل وعلا: ِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وقوله: لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ، فالله جل وعلا له أسماء حسنى وصفات عليا، وجملة ما يمكن أن تفقه أيها المسلم أن تعلم أن الله جل وعلا وجهه أكرم الوجوه، وهذه اكتبها واعمل بها: وجهه أكرم الوجوه، وأسماؤه أحسن الأسماء، وعطيته أحسن العطايا، فتوسل إلى ربك بهذه الثلاث، قل: اللهم يا ذا الوجه الأكرم، والاسم الأعظم، والعطية الجزلاء، ثم سل الله ما شئت.

وقد ذكر من أسماء الله تعالى تسعة وتسعون، على خلاف بين العلماء في تحديدها، وبعض أهل التحقيق من أهل العلم يقول: إنها أكثر من تسعة وتسعين، وحجتهم ما جاء في الخبر الصحيح: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فقالوا: إن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب غير التسعة والتسعين التي أظهرها وبسطها لخلقه.

وفي هذا كله بيان لعظمة الجبار جل جلاله، وإظهار لبعض صفاته، وأن له كمال الأسماء وأجمل الصفات، وأنه أحق من عبد وأحق من شكر وأعظم من ملك وأوسع من أعطى.

طلق المحيا 17-12-16 03:03 AM

تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى ... أو أجد على النار هدى)

بعد أن قرر الله جل وعلا هذا لنبيه ذكر له قصة الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وموسى بن عمران من أولي العزم من الرسل الذين تكررت قصصهم في القرآن في مواطن شتى سيأتي تفصيلها، لكننا هنا سنقف عند ما نحن معنيون به، قال الله جل وعلا لنبيه: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [طه:9]، (وهل): حرف استفهام، والمقصود به هنا: التشويق، حتى تكون أذن السامع متلهفة لما سيقال بعد، وموسى: هو موسى بن عمران.

قال تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه:9-10]، هذا كان بعد عودة موسى عليه الصلاة والسلام من أرض مدين، فموسى عليه الصلاة والسلام كان قد خرج إلى أرض مدين -وهي تقع الآن شمال الجزيرة العربية شمال المملكة- بعد أن فر بسبب قتله للقبطي، فمكث في أرض مدين -كما سيأتي تفصيله في مواضع- عشر سنين، وبعد أن قضى هذه المدة أخبر العبد الصالح -وهو صهره أبو زوجته- أنه يريد أن يرجع، فأذن له بعد أن أتم له موسى الأجل. وحينما رجع موسى عليه السلام من مدين -من الجزيرة- صار خليج العقبة عن يمينه، ثم رجع وأصبح خليج العقبة على يساره، ثم مشى موازياً للبحر حتى دخل على صحراء سيناء، حتى وصل إلى جبل الطور، وهنا نبئ، وعندما نبئ عليه الصلاة والسلام مشى بعد ذلك واستمر حتى قطع خليج السويس ودخل أرض مصر، وسنتكلم عن هذه المنطقة وعن الأحداث العظام التي حدثت في هذه المنطقة التي نبئ فيها موسى عليه الصلاة والسلام وأرسل فيها.

فالله جل وعلا يقول لنبيه: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ، أي: خبر موسى، إِذْ رَأَى نَارًا ، متى رأى النار؟ رأى النار في ليلة باردة مظلمة ومعه زوجته وغنمه، فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ، لم يقل: إني رأيت، بل قال: إني آنست؛ لأنه كان يشعر بوحشة وخوف، فلما رأى النار شعر بشيء من الأنس، واحترازاً من الكذب قال عليه الصلاة والسلام: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا ، لم يقل: سآتيكم منها، وهذا الاحتراز من الكذب قبل أن ينبأ حتى تعلم أن الله أعلم حيث يجعل رسالته، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ ، القبس هو الجذوة من النار، أي: القطعة من النار، فالقطعة من النار تسمى جذوة، والقطعة من الليل تسمى: هجيعاً، وكل شيء منه قطعة له اسمه في اللغة، فالجذوة من النار والقطعة من النار إذا كانت ملتصقة بعود ولم تكن جمرة لوحدها فإنها تسمى قبساً، إذا أخذنا عود حطب من النار فيه نار مشتعلة فإنه يسمى قبساً ويسمى جذوة؛ لأنه قطعة من النار، وإذا كان على هيئة جمرة وليس عوداً كاملاً فإنها تسمى جمرة، قال الله تعالى في سورة أخرى: بِشِهَابٍ قَبَسٍ [النمل:7]، أي: نار مشتعلة، فهذه أمنية موسى الآن، وخوفاً على أهله قال: امْكُثُوا ، والعاقل كما يقولون بالعامية: ما يضع البيض في سلة واحدة، إذا كان هناك مهلكة يهلك هو وينجو أهله.

قال: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ، أي: أجد من يهديني ويدلني على الطريق الذي أضعته، لقد أتى موضع النار فرأى ناراً مشتعلة في شجرة عوسج على الأظهر، فرأى النار تزداد وقوداً والشجرة تزداد خضرة، وهو ما يتنافى في الأصل؛ لأن النار إذا كانت حارقة لم تبق الخضرة، وإذا كانت الخضرة ريانة فلن تبقي على النار، فلا تجتمعان، لكنه يرى النار تزداد نوراً ويرى الشجرة تزداد خضرة.

والنار ثلاثة أقسام: نار لا نور فيها وهي حارقة، وهي نار جهنم أعاذنا الله وإياكم منها.

ونار فيها نور وليست بحارقة، وهي النار التي رآها موسى عليه السلام.

ونار فيها نور أو لها نور وهي حارقة، وهي نار الدنيا، أي نار تشعلها فلها نور تضيء ما حولها وفي نفس الوقت تحرق من يضع يده فيها.

نجم سهيل 17-12-16 07:01 AM

بارك الله فيك ونفع بك

طلق المحيا 17-12-16 03:05 PM

جزاك الله خير

طلق المحيا 17-12-16 03:07 PM

قال تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه:11-12] من الذي ناداه؟ إنه رب العزة جل جلاله، وهذا مقام عظيم ومنزل شريف وعطية قل ما تعدلها عطية إلا أن يرى العبد ربه .. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ، وقد كان في خوف فطمأنه الله ولم يطالبه بالتكليف، بل قال له: إني أنا ربك؛ ليشعره بالاطمئنان، والإنسان عندما يسمع رجلاً أقوى منه مديره أو أبوه أو أخوه يطمئنه أنه معه فيغشاه شيء من السكينة، فكيف إذا سمع عبد مخلوق في ليلة شاتية مظلمة رب العزة جل جلاله يناديه: إني أنا ربك، من غير واسطة.

فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ، والمقصود من خلع النعلين أمران: الأول: أن تمس موسى كله بركة الوادي، فلا يصبح هنا فاصل بين بركة هذا الوادي المقدس وبين جسد موسى، الأمر الثاني: أن يشعر موسى بالتواضع وعظمة الوقوف بين يدي رب العزة والجلال جل جلاله في مقام العبودية.

إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ، وانظر كيف يؤدب الله نبيه ويرعاه ويخبره بكل شيء؛ فأخبره بأنه ربه، وأخبره بأنه في واد مقدس اسمه: طوى، والإنسان إذا كان يجهل الأشياء التي حوله يصيبه الرعب، فأول شيء أعطاه الله لنبيه موسى أن عرفه بالأشياء التي حوله.

وقوله: بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ، هذه شهادة من رب العباد لهذا الوادي بأنه واد مقدس قطعاً، ولو لم يكن وادياً مقدساً لما اختار الله تلك البقعة التي سماها في سورة أخرى: (بقعة مباركة) ليكلم فيها عبده وكليمه وصفيه موسى بن عمران. وقوله: (طوى): بدل من الوادي المقدس، أي: اسم الوادي طوى.

طلق المحيا 17-12-16 03:12 PM

تفسير قوله تعالى: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ... وأقم الصلاة لذكري)

قال تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه:13]، لا يمكن أن نأتي بألفاظ تساعد أكثر من ألفاظ القرآن في بيان هذا الأمر العظيم، وهو أن الله ينادي عبداً من عباده لا منة له على الله ولا فضل، ولا يدري هو لأي شيء غادي، كان همه جذوة من النار، فعاد وهو كليم الواحد القهار، يقول له رب العزة في موقف عطاء وبذل كريم: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ، أي: اخترتك لعظائم الأمور .. للنبوة .. للرسالة .. لجلائل الطاعات، والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته إذ جعلها في هذا الكليم عليه السلام، وحينما قال الله له: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ، أصبح موسى مرهف السمع لربه، فقال له ربه: فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ، (ما) موصولة أي: للذي يوحى، ولكن الله لم يعطه الأوامر والتكاليف إلا بعد أن أشعره بالأمان ورفعه إلى أعلى المنازل، وآواه أيما إيواء، وغرس في قلبه الترقي من رب العزة والجلال، وهي إحدى طرائق الوحي الثلاث؛ بل إنها أرفع طرائق الوحي الدنيوية.

ثم قال تعالى له: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، وقد ذكرنا مراراً أن هذه الآية من أعظم الأدلة على أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة: (الله)، ووجه الدلالة: أن الله جل وعلا لما أراد أن يعرف نفسه لعبده موسى قال له: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ، فاختار الرب جل وعلا هذا الاسم دون غيره من الأسماء الدالة عليه جل وعلا ليعرف به نفسه لكليمه موسى، ولا يلزم أن نجزم، لكن نقول: إشارة قوية وأمر فيه تلميح قوي إلى أن لفظ الجلالة (الله) من أعظم أسماء الله الحسنى إن لم يكن هو اسم الله الأعظم.

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ، وما دام قد تحقق لديك يا عبدنا أنه لا إله إلا أنا فوجب أن تصرف العبادة لي دون سواي، ولهذا قال الله له: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ، ومعلوم أنه لا يمكن أن يدعو موسى الناس لعبادة الله حتى يحقق العبودية في نفسه، فالرسول الذي يحمل هم أمر لا بد أن يكون مقتنعاً به أولاً، ولا يمكن للإنسان أن يحقق هدفاً هو غير مقتنع به، وعظائم الأمور وجلائل الهبات لا تنال إلا إذا انطلق الإنسان من خاصة نفسه يتصرف في السر كما يتصرف في العلانية، ويؤمن بقضيته في الملأ وفي الخلاء، أما إن كانت القضايا بالنسبة له يجلب من ورائها ديناراً أو درهماً فسيكون سيره في تلك القضية ضعيفاً إن لم تنكشف عورته وتظهر سوءته ما بين يوم وآخر، لكن الله وطن في قلوب أنبيائه محبته وإجلاله جل وعلا وعظمته، وحبهم وعبادتهم لربهم.

قال تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ، وفي هذا دلالة ظاهرة على أن الصلاة من أرفع العبادات، وقد اختلفوا في قوله جل شأنه: لِذِكْرِي ، هل اللام للتعليل أي: لإقامة ذكري، أو أن المعنى: على ذكري، بمعنى: في الوقت الذي أمرتك أن تذكرني فيه؟ وهذا المعنى قد جاء في حديث صحيح: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ثم تلا: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]).

طلق المحيا 17-12-16 03:14 PM

قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15]، أخذ الله جل وعلا يبين لموسى قضية الساعة، والساعة: هي الإذن بفناء الدنيا: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ، أي: قادمة لا محالة، أَكَادُ أُخْفِيهَا ، اختلف العلماء في معنى (أكاد)، لكن الأظهر أن يقال: إنها فعل من أفعال المقاربة نحوياً، وكاد وأوشك وعسى تعمل عمل كان وأخواتها، لكن الفرق بينها: أن كان وأخواتها خبرها يأتي مفرداً ويأتي جملة أسمية ويأتي جملة فعلية، أما كاد وأوشك وعسى فيشترط في خبرها أن يكون جملة فعلية، فانفكت عن كان في العمل من هذا الباب. فقوله: (أكاد) بمعنى: أقارب، وعلى ذلك يصبح معنى الآية: أن الله لم يخف الساعة بالكلية، وإنما أظهر أشراطها وعلاماتها، وفي نفس الوقت عينها تحديداً لا يعلمه إلا الله.

قال تعالى: أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى ، أي: بعد إتيانها، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ، وكل من ألفاظ العموم.

قال تعالى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى الخطاب هنا لموسى، وقوله: (عنها) قيل: إن الضمير عائد على الصلاة، وقيل: إنه عائد على الساعة، أي: لا يصدنك عن الإيمان بالساعة، والصواب أن يقال: المعنى: أي: لا يصدنك عن الإيمان بالساعة وما يتعلق بالاستعداد لها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ، فذكر الله صفتين للصادين عن سبيله وهما: عدم الإيمان بالله، واتباع الهوى، ثم قال الله جل وعلا: (فتردى) أي: فتهلك، والمقصود بالهلاك هنا: دخول النار وعدم مقاربة الجنة، وهو أعظم الهلاك.

طلق المحيا 17-12-16 03:18 PM

فوائد متفرقة من أوائل سورة طه

عبر الله عن الزوجة هنا في قصة موسى بكلمة (الأهل)، وهو أفضل ما يعبر به عن الزوجة في قضايا الائتلاف، في المحاكم والقضاء وشئون الحقوق يقال: زوج وزوجة، وفي وقت الائتلاف -لا فرق الله لنا ولكم شمل- يعبر بالأهل، وقد جاء أن بعض الصحابة والصحابيات لما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة في حادثة الإفك قالوا: (يا رسول الله! أهلك، ولا نعلم إلا خيراً)، فما قالوا: زوجتك، وبعض الإخوة إذا أراد أن يكتب رمزاً لهاتف جوال زوجته في جواله يكتب: الأهل، اتباعاً للقرآن، لا يكتب: أم فلان، ولا يكتب عبارات مبالغ فيها ومغالى فيها، وإنما يكتب: الأهل؛ لأن هذا تعبير القرآن .. وتجده يقول: أنا أريد أن أذهب إلى أهلي، سأوصل أهلي، اتصل بي أهلي .. ونحو ذلك، وليست القضية قضية حساسية مفرطة ممن حولنا، إنما القضية في المقام الأول أن مما يفتح الله به عليك في فهم القرآن أن تحاول أن تستخدم أسلوب القرآن: فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ [طه:10]، وقد مر معنا أن العلماء قالوا: إن موسى عليه السلام قال: (لعلي) من باب الاحتراز، وهذه قضية عامة، يقولون: إن أهل العقل لا يضعون أقدامهم اليمنى حتى يجدوا موطئاً لليسرى، ويفكرون في طريق الرجوع قبل أن يفكروا في طريق الذهاب، والعاقل لا يقطع الحبال كلها عن نفسه وإنما يجعل له طريق عودة، وهذا هو الذي قصده موسى بقوله: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ ، و(لعل) في القرآن على بابها إلا في موضع واحد، بمعنى: لعل عند النحويين حرف يفيد الترجي، حرف يستخدم للرجاء ويستخدم في الغالب فيما يرجى وقوعه.

ويقولون في حرف ليت: إنه حرف للتمني، وهي قرينتها في العمل، إلا أن ليت فيما لا يرجى في الغالب وقوعه، ومنه قول الشاعر:

ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب

والشباب لا يعود، فعبر بليت؛ لأنها للتمني. فلعل في القرآن على بابها إلا في موضع واحد في سورة الشعراء، قال الله جل وعلا: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:128-129]، فلعل هنا ليست للترجي وإنما هي بمعنى: كأنكم تخلدون، أو كأنما تخلدون؛ لأن الموت اتفق الناس على أنه لا يدفعه شيء، حتى أهل الكفر مؤمنون بالموت، ولذلك لا يوجد موطن سكن إلا وفيه مقبرة، وهذا في كل مكان في الدنيا، فلم يقل أحد: أن تشييد البناء والمبالغة فيه يدفع الموت، لكن بعض الناس يشيد بناءه وكأنه لن يموت، كأنه مخلد، وهو يعلم أنه غير مخلد، وهذا معنى الآية: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129].

ومما يستفاد من هذه الآيات أن الذين حولك أحوج ما يكونون إلى الأمن، والإنسان إذا أعطي الأمن يعطى القدرة على العطاء، أما إذا شعر الإنسان بالخوف فإنه غالباً غير قادر على العطاء، قال الله تعالى في حق أهل الكفر: فَأَجِرْهُ [التوبة:6] أي: أشعره بالأمن: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]؛ لأنه لن يستطيع أن يسمع كلام الله ويفقهه عنك وهو خائف وجل، والسيف إذا وضع على أي رقبة في أي إنسان يجعله لا يعقل، ويذكر المؤرخون أن أحد الخلفاء -من دون ذكر أسماء- من الخلفاء السابقين في عهد بني أمية أتي برجل صالح ومعه زمرة من أصحابه حوالي عشرة كانوا قوماً صالحين، وهذا الزعيم فيهم كان مشهوراً بثبات جأشه وفصاحة لسانه، فقال له الناس في ذلك الموضع: تكلم قل، قال: ماذا أقول؟ سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور، من أين سيأتي كلام؟ وهو محق، أي: أن الخوف والوضع الذي أنا فيه لا يساعد على أن أتكلم، ولهذا لما أراد الله أن يفيء على موسى بعظيم العطايا وجزيل المواهب -ومقام التكليم مقام لا يمكن تخيله، والله كلم موسى عليه الصلاة والسلام مرتين: كلمه في هذا الموضع، وكلمه عندما ناداه عند جبل الطور في نفس الموضع، وهذا الجبل -جبل الطور- كان عن غرب موسى وفي نفس الوقت كان في الجانب الأيمن منه، قال الله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52]- موضع الشاهد: أن الله جل وعلا طمأن موسى حتى يعطيه، لكن يقول الناس عموماً كفوائد تاريخيه: أنه قد يوجد في الناس -لكن هذه حالات أفراد شاذة- من يكون رابط الجأش حتى عند رؤية السيف، ويقولون: إن المعتصم أراد أن يقتل رجلاً يقال له تميم بن جميل، كان له أطفال وصبية صغار، ثم إنه أحضر النطع والجلاد والسيف والناس ينظرون، ولم يكن ثمة شك بأن أمير المؤمنين قرر قتله، فأراد المعتصم أن يختبره ليرى أين لسانه عن جنانه، فقال له: ما تقول يا جميل ؟ هذا والسيف مشهور، والكفن منشور، والقبر شبه محفور، فقال:

أرى الموت بين السيف والنطع كامناً يلاحظني من حيث ما أتلفت

وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت

يعز على الأوس بن تغلب موقف يسل علي السيف فيه وأسكت

وما جزعي من أن أموت وإنني لأعلم أن الموت شيء مؤقت

ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت

كأني أراهم حين أنغى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا

فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موّتوا

فتعجب المعتصم من رباطة جأشه مع الحال التي هو فيها، وقال: تركتك لله ثم لصبيتك، وعفا عنه.

لكن هذا المقام الذي قامه تميم بن جميل بين يدي المعتصم مقام فردي قلما يعطاه أحد، لكن في باب الدعوة وفي باب التربية التأسي بالقرآن هو الأصل، ولذلك لما أراد الله أن يربي هذا النبي المكلم عليه السلام خاطبه بقوله: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12]، وعرفه بالمقام: إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه:12]، ولهذا أحياناً تتلقى مكالمة مجهولة المصدر فلا يحسن أن تتعامل معها بانفعال ولا بعجلة، وإنما من حقك على من اتصل بك أن تعرف من هو قبل أن تعرف مقامك، وليس من الأدب ما يشيع عند بعض الناس أنه إذا اتصل من غير عمد سوء يقول: ما عرفتني؟! فيعرضك للإحراج في أن يذهب همك في البحث عن شخصيته، فالواجب على الإنسان إذا دخل أن يقول: أنا فلان، أو إذا اتصل أو طرق باباً وغلب على ظنه أن من أمامه لا يسمعه أو لا يعلمه أن يعرفه بنفسه.

نختم على هذه القضية بشاهد عظيم من السنة، فالنبي عليه الصلاة والسلام وجبريل أرفع الخلق، فلما استفتح باب السماء وجبريل يطرق يقول له الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا جبريل، فيقول: هل معك أحد؟ فيقول: نعم، معي محمد. قال العلماء: فاستئذان جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم رغم أنهما أرفع مقاماً من صاحب المحل -من خزنة السماء- يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يستأذن ويعرف بنفسه ولو كان داخلاً على من هو أقل منه، وهذه قضية مهمة جداً في فهم كلام الله جل وعلا.

نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، والله المستعان.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ابو احمد البلادي 17-12-16 03:56 PM

اهدا بسيط لطلق المحيا
مع التحيه
****
الله يجزاك ،،، ب الجنه
ويرزق من حيث لاتعلم
ولله الفضل والمنه
وياليتنا منك ،،، نتعلم

ابو احمد البلادي 17-12-16 04:01 PM

اهدا مع التحيه لطلق المحيا
 
الله يجزاك ،،، بالجنه
ويرزقك من حيث لاتعلم
والله والفضل ،،، والمنه
وياليتنا منك نتعلم

،،،،واعتذر عن التقصير،،،،

طلق المحيا 17-12-16 07:56 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابو احمد البلادي (المشاركة 1446553)
اهدا بسيط لطلق المحيا
مع التحيه
****
الله يجزاك ،،، ب الجنه
ويرزق من حيث لاتعلم
ولله الفضل والمنه
وياليتنا منك ،،، نتعلم






اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابو احمد البلادي (المشاركة 1446554)
الله يجزاك ،،، بالجنه
ويرزقك من حيث لاتعلم
والله والفضل ،،، والمنه
وياليتنا منك نتعلم

،،،،واعتذر عن التقصير،،،،

تحيتك وافية
وحياك الله يبواحمد
اهدائك وسام على صدري
وتواصلك من دواعي السرور
وابد ماحصل منك إلا كل طيب
نورتنا بحضورك
تحياتي

طلق المحيا 17-12-16 08:38 PM

موسى عليه السلام هو كليم الله تعالى، وقد كلمه ربه حينما كان في الوادي المقدس طوى، وفي تلك الأثناء بعثه الله تعالى وأرسله نبياً إلى فرعون وقومه، وقد أعطاه الله تعالى آيتين عظيمتين كي يحاج بهما فرعون، وهما: العصا، واليد، وحينما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون دعا الله تعالى أن يشرح له صدره، وييسر له أمره، ويحلل عقدة من لسانه، وأن يجعل أخاه هارون وزيراً معه، فأعطاه الله تعالى كل ما سأله تفضلاً وتكرماً منه سبحانه وتعالى عليه.

طلق المحيا 17-12-16 08:39 PM

تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى... ولي فيها مآرب أخرى)

لقد تكلمنا في فاتحة هذه السورة، ثم انتقلنا إلى ما قرره الله جل وعلا فيها من أمور العقيدة العظام، وإخباره جل وعلا عن ذاته العلية بأن لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:6]، وأنه جل وعلا يعلم الجهر والسر وأخفى، وأنه سبحانه الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

ثم ذكر الله جل وعلا فيها نتفاً من خبر كليمه وصفيه موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه، صدر الله ذلك بقوله: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [طه:9]، ومضى بنا القول إلى أن الله جل وعلا ربى نبيه وكليمه وصفيه أعظم تربية، فطمأنه وآمنه من الخوف، ثم أعطاه مقام التكليف، أي: مقام الرسالة بعد مقام النبوة، وانتهى بنا الأمر إلى أن الله جل وعلا نهى عبده وصفيه موسى من اتباع من كتب الله عليهم أنهم يصدون عن ذكره، وأن في اتباعهم سبب الهلاك وأودية الرداء.

وانتهينا إلى قول الله جل وعلا: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:17-18]، فنقول والله المستعان وعليه التكلان: ما زال الأمر مستأنفاً في مقام التكليم، والمقام جبل الطور، والمكلِّم هو الرب جل وعلا، والمخاطب هو موسى.

وقد أنكرت المعتزلة وبعض الناس هذا الأمر، وقالوا: إن الله جل وعلا لم يكلم موسى تكليماً، وأولوا وحرفوا في الآيات الناصة على ذلك، ومنها قول الله جل وعلا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فأجابوا عن هذا بأن حقها أن تقرأ: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا)، فجعلوا لفظ الجلالة مفعولاً به مقدماً، وموسى فاعلاً مؤخراً عن مفعوله.

والرد عن هؤلاء أن يقال: إن هذا وإن كان يجوز في اللغة أن يقدم المفعول على الفاعل إلا أن المعنى يذهب تماماً هنا؛ لأنه إذا كان الأمر أن موسى يناجي ربه فهذا ليس من خصائص موسى وحده، فكل المؤمنين والصالحين يناجون ربهم ويدعونه ويخاطبونه، ويستغفرونه، ويسألونه، فأي فخر أو فضل لموسى ينص الله عليه حتى يقول الله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]؟ ثم أين هم عن قول الله له: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، إلى غير ذلك من الأدلة التي يرد عليهم بها.

قال الله تعالى لهذا النبي الكليم: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17]، (ما): استفهامية من غير نزاع، والاستفهام الأصل فيه أن يعرف المستفهم خبر المستفهم عنه، لكن هذا غير وارد هنا؛ لأن الله جل وعلا يعلم ما الذي بيمين موسى؛ بل يعلم كل شيء، ولا يغيب عنه مثقال ذرة جل جلاله، ولكن المقصود: تربية موسى على طريقة الأسئلة، وهنا تعهد رباني وعناية إلاهية بعبد تغلب عليه السمرة فيه لثغة في لسانه لا يظهر كلامه جيداً، يجد عناء وهو يتكلم، في ليلة شاتية أهله غير بعيدين عنه.

هذه الأجواء بالنسبة لشخص موسى، لكن مواطن الضعف هذه كلها ذهبت عندما وجدت عناية إلاهية ربانية بهذا العبد، كل مواطن الضعف أضحت قوة؛ لأن المتعهد به والقائم بأمره هو رب العزة جل جلاله، قال الله له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ، فأجاب كما قال الله: قَالَ هِيَ عَصَايَ [طه:18]، وهذا يكفي في الإجابة، لكنه أراد أن يستمر الخطاب تلذذاً منه بمناجاة الملك العلام، فقال عليه السلام: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا [طه:18]، ولم يكن السؤال: ماذا تعمل بالعصا؟ وإنما السؤال: ما الذي في يمينك؟ وكان يكفي أن يقول: هي عصاي، لكنه -كما قلنا- فرحاً بمناجاة ربه زاد: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي .

ومعلوم أن موسى لا يضر غنمه بعصاه، فقوله: (أهش) بمعنى: أهش على الشجر فيتساقط ورقه على الغنم فتأكلها، وما زال مردفاً، أحياناً يغلب عليه الأدب لا يريد أن يستمر، وأحياناً تغلب عليه المناجاة فاتخذ طريقاً بينهما فقال: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ، وكأنه شعر بأنه أطال في اللفظ فقال: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ، صلوات الله وسلامه عليه.

طلق المحيا 18-12-16 12:10 AM

تفسير قوله تعالى: (قال ألقها يا موسى... سنعيدها سيرتها الأولى)

وقد أراد الله بهذا أن يبين أن هناك آية ستنجم عن هذه العصا، ولم يرد الله أن تكون الآية في شيء غير العصا فلعل موسى يقع في ذهنه أنه شيطان أو ما أشبه ذلك، لكن موسى من أعلم الناس بعصاه، وهو يعرفها، وهي ملازمة له سنين عديدة، ويعرف من أين اقتطعها، وهو يتوكأ عليها -كما يقول- ويهش بها على غنمه فهي لا تكاد تفارقه.

ولهذا أراد الله أن تكون الآية في نفس الشيء الذي يعرفه موسى جيداً، فخاطبه رب العزة: قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى [طه:19]، (ألقها): فعل أمر جزم بحذف حرف العلة وهو الياء، وقد استجاب الكليم لأمر ربه فألقى العصا، قال الله: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [طه: 20] (فإذا) فجائية، وسيبين نحوياً غرابة هذه (إذا) في موطنه بعد أن نترك قصة موسى، فَإِذَا هِيَ ، أي: العصا، حَيَّةٌ تَسْعَى ، فجأة إذا بهذه العصا التي يعرفها جيداً تنقلب إلى حية.

وجاء في بعض الآيات أنها ثعبان، وجاء في بعض الآيات أنها جان، والجمع بينها أنها حية في ضخامتها، ثعبان في تلونها جان في خفتها، فهي تتنقل وتسبح في الأرض وتجوب فيها، وبجبلته التي فطره الله عليها كأي بشر ولى هارباً، قال الله جل وعلا: قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا ، أي: عصاه، فَإِذَا هِيَ ، أي العصا، حَيَّةٌ ، ليست ثابتة واقفة جامدة ميتة تَسْعَى ، تتحرك، قال تعالى: قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:21]، بمعنى: أنه نجم عنه خوف، وقد ذكر في سور أخرى أنه ولى هارباً، فطمأنه ربه وقال: أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ [القصص:31]، ثم أمره الله أن يأخذها .. يأخذها وهي حية لم تعد عصا، فأخذها امتثالاً لأمر الله، وطمأنه الله فقال: سَنُعِيدُهَا ، أي: الحية، سِيرَتَهَا الأُولَى ، أي: سوف تعود إلى عصا، وسيكون هذه العصا شأن عظيم مع موسى في دعوته لفرعون كما سيأتي.

قال الله: سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى ، وكلمة (سيرة) تطلق على حال الإنسان إن كانت حسنة أو قبيحة، يقال: فلان سيرته حسنة، وفلان سيرته قبيحة، فلما أخذ موسى الحية عادت إلى عصا بإذن الله تعالى.

طلق المحيا 18-12-16 12:12 AM

تفسير قوله تعالى: (واضمم يدك إلى جناحك... لنريك من آياتنا الكبرى)

ثم قال الله تعالى لموسى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى [طه:22]، الجناح: الأصل أنه للطائر، واستعير هنا لبني آدم، وهو ما تحت العضد كما أن جناح الطائر في هذا الموطن، وفي آية أخرى قال الله له: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل:12]، والجيب هو فتحة الثوب التي تقع في الصدر.

والمعنى: أن موسى أدخل يده من جيبه حتى دخلت تحت عضده، وحينئذ شعر بالاطمئنان من الخوف، وهذا الأمر يفعله الناس جبلة، يضع أحدهم يده على قلبه إذا خاف، ويقولون في التعبير: يدي على قلبي، كناية عن الخوف، قال تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ما الذي يحدث؟ تَخْرُجْ ، جاءت مجزومة بالسكون؛ لأنها واقعة في جواب الأمر الذي هو (واضمم)، فأخرجها، يقول الله له: تَخْرُجْ ، أي: يدك بَيْضَاءَ من غير تنوين؛ لأنها ممنوعة من الصرف، وقد جاءت مفتوحة؛ لأنها حال، أي: كيف تخرج؟ تخرج بيضاء، وموسى -كما قلت- كان يميل لونه إلى السمرة، وقد جاء في الحديث: (كأنه رجل من أزد شنوءة) وهم يميلون إلى السمرة.

فأخذت يده تبرق نوراً، وجاء هنا احتراز عظيم: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، فليس هذا من مرض أو ما شابهه، وإنما مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، لماذا يا رب؟ قال الله له: (آية أخرى)، ولم يقل: أخيرة، بل قال: أخرى، أي: غير الأولى، فالأولى عصا انقلبت حية، والثانية يده تدخل فتخرج بيضاء، (أخرى) أي: أن هناك شيئاً سيأتي، تقول: رجل آخر، فلا يمنع أن يأتي بعده أحد آخر، لكن إذا قلت: أخير أي: أنك انتهيت، فمثلاً عندما تكتب أسئلة لطلابك تقول: السؤال الأول، السؤال الثاني، السؤال الثالث، فإذا أردت أن تنهي فلا تقل: الرابع، بل قل: السؤال الأخير، حتى يفقه من يقرأ أسئلتك أن أسئلتك انتهت، وكذلك قل: الفائدة الأخيرة، الحديث الأخير، وأي شيء تريد أن تختمه صفه بأنه أخير، أي: لا شيء بعده.

فالله جل وعلا قال هنا: آيَةً أُخْرَى ، ولم ينهها؛ لأن ثمة آيات ستأتي لهذا النبي الكليم سيخاطب بها من بعث إليه في الأصل وهو فرعون.

قال الله تعالى: لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [طه:23]، وقول الله جل وعلا: (من آياتنا) إفهام وإشعار لكليم الله أن آيات أخر كبرى عظاماً سيأتي، وقد أتت، وهي في مجملها تسع: هاتان الآيتان وهما العصا واليد، ثم أتبعها الله جل وعلا بقوله: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:130]، فهاتان اثنتان، فصرن أربعاً، قال الله: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133]، أي: يتبع بعضها بعضاً وليست في آن واحد، فهذه تسع آيات.

طلق المحيا 18-12-16 12:16 AM

تفسير قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى)

لأي شيء كل هذا الإعداد لموسى، قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24]، (إنه طغى) جملة تبين حال فرعون وليست صفة؛ لأن قواعد النحو تقول: الجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات، وفرعون معرفة، فالجملة التي بعده حال تبين وضع فرعون.

لكن قول الله جل وعلا: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ ، هذا تكليف بالرسالة، وليس موسى أول الرسل إلى فرعون، والدليل أن الله قال حكاية عن مؤمن آل فرعون: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34].

فيوسف أرسل إلى فرعون الذي عاصره، وموسى أرسل إلى فرعون الذي عاصره، وكلاهما من أنبياء بني إسرائيل؛ إذ إن موسى من ذرية يعقوب، ويوسف وأبوه يعقوب كلهم بنو إسرائيل، وقد دخلوا مصر محدودي العدد وخرجوا وهم أكثر من ستمائة ألف كما سيأتي في موضعه.

المقصود: أن الله جل وعلا قال لموسى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فموسى قبل التكليف، وسأل الله الإعانة، وقدم أربعة رجاءات إلى ربه.

طلق المحيا 18-12-16 12:18 AM

تفسير قوله تعالى: (قال رب اشرح لي صدري... واجعل لي وزيراً من أهلي)

قال تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25]، كلمة (رب) مكتوبة من غير ياء، وحتى تستريح من عناء أشياء كفاك الله هم البحث عنها اعلم أنه لا يوجد في القرآن (رب) بصيغة دعاء مناداة موصولة بياء، بل كلها مكونة من حرفين الراء والباء المشددة.

فأول ما سأل الله جل وعلا أن يشرح له صدره لهذا التكليف.. قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26]، وأن ييسر له الأمر، ولا ييسر العسر إلا الله، ثم قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ) * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي [طه:27-28].

قوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ، سيأتي الحديث عنها في درس قادم، لكن نتوقف عند قول الله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ، فنقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام معلوم أنه نشأ في قصر فرعون، فلما نشأ كان فرعون على وجل منه؛ لأنه قد سبقته رؤيا أن غلاماً من بني إسرائيل سيكون على يديه هلاك ملكه فكان يتحرز، فلما نشأ موسى رضيعاً نشأ فصيحاً، فخاف منه فأراد أن يقتله، فأرادت زوجته آسية أن تمنعه من ذلك، فبعد أخذ وعطاء بينهما اتفقا على أن يختبر موسى، فقدم له جمر ولؤلؤ، وقيل: جمر وتمر، أو تمر في إناء من ياقوت، وجمر من نار ليختار أحدهما، فذهبت يده إلى التمر أو إلى الياقوت، المهم أنها لم تذهب إلى الجمر، فقيل: إن جبريل جاء ووضع يده على الجمر حتى يكون ذلك سبباً في بقائه، والله جل وعلا يجعل للأشياء أسباباً وإذا أراد الله شيئاً هيأ له أسبابه، فوضع الجمرة في فيه فلذعته، فلما لذعته أصابته هذه الحبسة التي في لسانه والبطء في كلامه، وهذه الحبسة قد عيره بها فرعون كما في آية الزخرف في قول الله عنه: أم أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، أي: لا يكاد يظهر كلامه ولا يفصح ولا يفقه ماذا يقول، ولذلك هنا لأن مقام الدعوة يحتاج إلى شيء من البيان مع العلم بأمور كثيرة قال موسى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ، نقول: إن الله تعالى ذكر على لسان موسى أنه طلب حل عقدة واحدة، قال العلماء في هذا: إن موسى كان يطلب الأمور على قصد ولم يرد أن يظهر أنه فصيح ويشار إليه بالبنان ويذكره بنو جنسه، وإنما أراد ما يكتفي به في أن يبلغ دعوة ربه.

وقد فهم منها العلماء أنه الإنسان أن يقتصد في أمور الدنيا إذا كان مصدراً للإمامة في الدين بالقدر الذي يقيم به حاله، ولا يتجاوز الحد، ثم إن الله جل وعلا ختم هذه السؤالات بقوله: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، وسيأتي بيانه في موضعه.

طلق المحيا 18-12-16 12:23 AM

تربية الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام

نعود للقضية كلها في بيان نستطرد في الحديث عن هذه الآيات التي سلفت فنقول في أولها: إن التربية الإلهية لا يعدلها تربية، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابه، ومن أعظم ما يجعلك تقف على الحق وتثبت عليه علمك اليقيني به.

لكن ينبغي عليك أن تعلم أنك بشر ضعيف، تحتاج إلى ما يقويك، والله جل وعلا قادر على أن يثبت موسى بين يدي فرعون من غير تجربة، لكن موسى لما وقف ذلك الموقف، وانقلبت العصا حية وهو يرى، واليد أدخلت وخرجت بيضاء وهو يرى؛ انتهى من مقام التجربة فآمن هو بقضيته، فلما آمن هو بقضيته واقتنع بقدرته كان يسيراً عليه أن يقف واثقاً من نفسه، متمكناً من قوله، مظهراً لدليله أمام فرعون، ولهذا قال الله عنه في الشعراء: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشعراء:30]، ذلك الخوف الذي كان موجوداً انتهى، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء:31]، قال الله: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء:32-33].

فلما ألقى موسى العصا أمام فرعون لم يفر هارباً، رغم أنها انقلبت حية مثل المرة الأولى؛ وذلك لأنه كان يعلم أنها ستنقلب حية، وهناك لغز تقوله العامة -وهو مقبول في مثل هذه المواطن- عند قضية موسى بعد أن انقلبت العصا إلى حية مع السحرة، يقولون: خشبة انقلبت لحمة أكلت لحمة عادت خشبة، وهي وإن كانت باللهجة العامية لكنها صحيحة، فالخشبة: هي عصا موسى، انقلبت لحمة أي: صارت حية، والحية من لحم، أكلت لحمة أي: أكلت العصي التي ألقاها السحرة، عادة خشبة أي: عادت عصا كما كانت، وهذا ربط بألغاز عامة بالقرآن، وهو مقبول؛ لأن المقصود: ربط الناس بآيات الله البينات، وما هذه الأمور إلا وسائل، وأي وسيلة لم ينص الشرع على تحريمها وقربت من الله أو دلت على آياته وعرفت بالقرآن فهي محمودة ما لم ينص الشرع على تحريمها ذاتاً.

نعود فنقول: لأجل هذا ربى الله رسله، فالله يقول في حق خليله إبراهيم: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:75]، لماذا؟ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، فكان إبراهيم عارفاً بملكوت السماوات كما علمه الله حتى يثبت أمام الشدائد التي ستأتي.

ونبينا صلى الله عليه وسلم غسل قلبه، وملئ إيماناً وحكمة، وجاوز السبع الطباق، وعرج به، ورأى من آيات الله الكبرى، حتى بعد ذلك إذا حدث عن الجنة والنار يحدث عن شيء هو مؤمن به كل الإيمان ويعرفه حق المعرفة.

فمن دعا إلى الله ولم يتسلح بالعلم القلبي والإدراكي لن يكون قادراً على الثبات كغيره، ولو سمع شبهة تشكك في الجنة أو في النار، أو تخبر بعدم قيام البعث، أو أي كلمة يلقيها من يلقيها على عواهنها، فتقع منه موقعاً يجعله يحجم عن الدعوة.

فحتى الذين من الله عليهم بالهداية من خلال موقف إيماني كالذي يرى مصرعاً لأحد، أو يمر على جنازة، أو يرى قبراً فهذا أمر محمود، وهو يكون سبباً في الهداية، لكنه لا يكفي فلا بد أن يسقى ذلك بعلم بالله جل وعلا حتى يحصل الثبات على الدين؛ لأن أثر ذلك الموقف العارض لا يلبث أن ينجلي إن لم يسق برحيق العلم والمعرفة والتفكر في مخلوقات الله، وإذا أراد الله بعبد خيراً ومضياً في الطريق قلَّبه جل وعلا في أمور الدنيا والأحوال، والنوازل والابتلاءات وغيرها، يراها حتى يشتد عوده، ويثبت جنانه، ويصبح على بينة من ربه وهو يدعو إلى الله تبارك وتعالى.

وهذه العطية هي التي منحها الله ووهبها لأوليائه ورسله، وخاصة منهم أولي العزم، ومنهم كليم الله موسى بن عمران.

طلق المحيا 18-12-16 12:23 AM

ضرورة التجاء العبد إلى ربه واتكاله عليه

من الفوائد: أن الإنسان ضعيف لولا إعانة الله جل وعلا له، وقد ورد في الحديث القدسي: (أن الله جل وعلا قال لموسى: يا موسى! سلني ملح عجينتك، سلني علف دابتك، سلني شسع نعلك).

فلا تدخلن مقاماً، ولا تجلسن على كرسي، ولا تتصدرن في موضع وأنت تظن أنك وصلت إليه بحولك أو قوتك.

فإذا كان كليم الله يقول: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26]، ويسأل الله الإعانة تلو الإعانة، والأمر تلو الأمر؛ فأنت أولى بذلك، لكن المهم ألا تسأله غير الله جل وعلا، وأن تلجأ إلى الله جل وعلا في حاجتك، يقول العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله فكيف يوصل إلى الله بغير الله؟ وهذا من نفائس الكلم، ولا يوفق لقوله أي أحد، لكن العز بن عبد السلام كان -فيما نحسبه- عارفاً بربه، عالماً بالشرع، متدبراً للأمر، مستعيناً برب العزة والجلال فوفق إلى أن تخرج منه هذه الكلمة.

وهذه ما دلت عليه جملة سؤالات الأنبياء وخاصة منهم ما نحن فيه من سؤال كليم الله موسى بن عمران لربه جل وعلا.

طلق المحيا 18-12-16 08:11 PM

الخوف أمر جبلي

مما دلت عليه الآية: أن الخوف جبلي في الإنسان، وأن الإنسان لا يعير بالخوف، وقد قال الله جل وعلا عن موسى في آية أخرى: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [الشعراء:12]، قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [القصص:33]، ومع هذا طمأنه الله.

فثمة أمور جبلية تنشأ في بني آدم لا تضر، لكن العبرة فيما استقر عليه القلب، والسكينة أمر محمود، والأمنة من الله شيء عظيم وهبة منه، والله تعالى له جند ينصر جل وعلا حتى بالنعاس بالنوم، والنعاس نصر المؤمنين في بدر، قال تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11].

فالله جل وعلا له جند يعلمهم ولا نعلمهم، لكن المقصود أن من أراد الله الاحتفاء به وإكرامه فيسخر الله له من الجند ما يعلمه وما لا يعلمه -أي: ذلك المؤيد المنصور-.

طلق المحيا 18-12-16 08:15 PM

الأسلوب القرآني في الحوار والإقناع

دلت الآيات كذلك على أن أسلوب الأخذ والعطاء في إقناع الغير أمر محمود، خاصة في التربية، فمن دونك من الطلاب أو الأبناء، أو من تريد إقناعه والوصول به إلى الغايات الذي تريد إيصالها إليه عن طريق الحوار، والأخذ والعطاء، والتساؤلات والبدء بالأشياء المتفق عليها إلى الأشياء المختلف عليها، هذا أمر محمود في الطريقة.

ثم إن إشعار من أمامك بمحبتك وإجلالك له، والانطلاق من أشياء تتفقون عليها؛ من أعظم أسباب قبول ذلك الطرف أو الغير أو المحب الذي تريد أن توصله إلى بر الأمان، فمن أعظم أسباب الوصول إلى قلبه إتباع مثل هذه الطرائق.

طلق المحيا 18-12-16 08:18 PM

الكلام عن (إذا) الفجائية في قوله تعالى: (فإذا هي حية تسعى)

من المعلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام عندما ألقى العصا كان يعلم أنها عصا، ولم يدر في خلده أنها ستنقلب إلى حية، فيقول النحويون: إن هذه هي (إذا) الفجائية وما بعدها حقه عند جماهيريهم أن يرفع، ولهذا قال الله: فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف:108]، بيضاء: خبر، وقال هنا: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [طه:20]، بالضم.

فالقرآن يدل على المذهب النحوي القائل: إن الأصل فيما يأتي بعد إذا الفجائية أن يكون مرفوعاً، وهذه المسألة تسمى المسألة الزنبورية، وذلك أن سيبويه إمام النحاة خرج من البصرة يؤمل مجداً في بغداد، فدخل على يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد ، وكانت بغداد آنذاك حاضرة الإسلام، والخلافة فيها موطن الناس، فجاء يؤمل مجداً عظيماً، وكان إمام أهل البصرة بلا منازع، والكسائي إمام أهل الكوفة، فالتقيا - الكسائي وسيبويه - في مجلس يحيى بن خالد البرمكي وعنده ابنه جعفر ، فقال الكسائي لـسيبويه : تسألني أم أسألك، قال: سلني.

فذكر الكسائي هذه المسألة وهي ما يقع بعد إذا وأنه يجوز فيها الوجهان: الرفع والنصب، فمنع سيبويه أن تكون العرب تقولها بالنصب، وأنه ليس لها إلا وجهاً واحداً هو الرفع، والقرآن يؤيده، لكن الكسائي أصر على رأيه، فقال يحيى بن خالد : اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي : هذه وجوه الأعراب في الباب اسألهم، فقيل: إن المسألة أصلاً كانت سياسية قبل أن تكون علمية للتنازع ما بين الكوفة والبصرة، والتنازع ما بين الكسائي كشخص مقرب من الوالي وبين سيبويه الذي لم يظهر له بعد قربة عند السلطان.

فوجوه الأعراب مالت إلى قول الكسائي عمداً تريد أن تنصره على خصمه سيبويه ، فأشاروا إلى أن الصواب مع الكسائي ، فبهت سيبويه ، وزاده حنقاً أن الكسائي أخذ يظهر عطفه عليه ويقول لـيحيى : إنه جاء يأمل منك عطايا فاجبر كسره وارحمه، فجعله ضعيفاً بعد أن كان يعلم أن سيبويه أعظم منه في النحو، فلما قال له ذلك خرج سيبويه من عنده كسيراً من سوء ما لحق به، واستحيا أن يعود إلى البصرة وقد خرج منها إماماً ولحق بفارس ثم مات مغتماً في ريعان شبابه ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره.

ومعلوم أن الحق كان مع سيبويه ، لكن السياسة لعبت دورها، والقرآن كله يشهد أن الحق مع سيبويه ، وللعلماء في تخريج قول الكسائي خمسة أوجه، وكلها باطلة، وقد بينها أهل النحو، ولا حاجة للتفصيل فيها.

ثم قيض الله للكسائي تلميذاً من تلاميذ سيبويه يقال له: أبو محمد اليزيدي ، هذا اليزيدي دخل على الكسائي في مناظرة في مسألة أخرى، وذلك أنه جاء ببيتين من الشعر قالهما في نفس المجلس أمام الكسائي ، وقال له: هل تجيز هذا فسأتلو عليك البيتين؟

ومعلوم أن العرب ترفع اسم وتنصب خبرها، وهذا شيء متفق عليه، فليست هذه من مسائل العلم الكبار، بل يعرفها كل واحد، فقال اليزيدي للكسائي : ماذا تقول في قول العرب:

ما رأينا خرباً ينقر عنه البيض صقر

لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهر

ومن المعلوم أن ( لا يكون) تكررت مرتين، وهي التي أرادها مزلقاً يقع فيه الكسائي فوقع فيه، فـالكسائي فهمها بأن اليزيدي يقول: لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهراً، وهذا هو أصلها النصب، واليزيدي نطقها: لا يكون المهر مهر، اليزيدي : قصد لا يكون العير -أي: الحمار- لا يكون العير مهراً لا يكون. وهنا انتهى الكلام، ثم قال: المهر مهر، وهما مبتدأ وخبر وكلاهما مرفوع، لكن الكسائي قرأها: لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهراً، فوجدها منصوبة، فرد البيتين وقال: لا يكون المهر مهر، هذا خطأ؛ بل أحقها أن تنصب ولا تجوز إلا لضرورة الشعر، وعبر عنها باصطلاح يسمى: الإسراف عند البعض والإقواء عند البعض، عند العروضيين، ففرح اليزيدي فرحاً أن المزلق وقع فيه الكسائي ، فصار يعيد عليه ويقول له: انظر، والكسائي مصر، مع أن البيت واضح لا يغيب عن رجل مثل الكسائي ، لكن إذا أراد الله شيئاً وقع، فكررها مرتين وثلاثاً وهنا وقع الكسائي في الخطأ، فلما أصر الكسائي على رأيه، وعلم اليزيدي أنه أوقع الكسائي فيما يريد؛ خلع عمامته وقلنسوته وضرب بها الأرض فرحاً، وضرب بيده على صدره وقال: أنا أبو محمد !! يعني: انتصرت، فقال له يحيى بن خالد : والله لخطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك، أتتكنى بحضرة أمير المؤمنين وتنزع قلنسوتك من رأسك؟! يعني: أن هذا سوء أدب، لا يفعل أمام أمير المؤمنين، فانقلب الأمر عليه وإن كان منتصراً في الأصل، هذا ما دونه المؤرخون.

وأقول -عفا الله عني-: نصر الله الكسائي بالقرآن، فالذي يظهر لي أن الدور العظيم الذي لعبه الكسائي في حفظ القرآن هو الذي نصره في هذين الموضعين، فنصره الله في المرة الأولى على سيبويه مع أن الحق مع سيبويه من جميع أوجهه، وهذه المرة عندما وقع اليزيدي في سوء الأدب فبقي هو على حشمته ووقاره فكان سبباً في نصرته.

الذي أريد أن يفهم من هذا الاستطراد أمور من أهمها: لا تبدأ أحداً بالأسئلة، دع خصمك هو الذي يبدأ، فإذا غلبت في الرد على خصمك فوق يقولون: حول الجواب إلى سؤال، فينشغل خصمك بالإجابة وتسلم أنت، هذا إذا كنت تريد موارد أهل الدنيا، أما إذا كنت تريد موارد الآخرة فلا تدخلن مجلساً إلا وأنت تريد أن تصل فيه إلى الحق، وقد كان الشافعي رحمة الله تعالى عليه -لكن أين مثل الشافعي ؟!- كان يقول: ما جادلت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه، وحب الشافعي للحق هو الذي أوصله إلى هذه المنزلة العالية من حب المسلمين أو يكاد إجماع المسلمين على حبه.

هذا في الأخذ والعطاء، لكن قد يحصل بين الأنداد عموماً التنازع، ولذلك لا يحبذ أن يجتمع أكثر من طالب علم في مجلس صدارة في مكان واحد حتى لا يقع بينهما تنازع.

فـمالك رحمه الله على جلالة قدره كان في المدينة مجاوراً لـمحمد بن إسحاق صاحب السيرة، وكل منهما جليل القدر في فنه، عظيم الأثر في علم الأمة، وإن كان مالك نحا إلى علم الحديث وهو أشرف من هذا الوجه.

فيقولون: إن مالكاً كان يقول عن محمد بن إسحاق : إنه دجال من الدجاجلة، وذلك لأجل الروايات التي يقولها في التاريخ، ومحمد بن إسحاق كان يقول: ائتون بالموطأ فأنا بيطاره -يعني: طبيبه- أبين لكم أخطاء مالك في الموطأ، ومعلوم أنه لا يقبل قول مالك في محمد بن إسحاق ، ولا يقبل قول محمد بن إسحاق في مالك ، لكن يوجد من أهل العلم من من الله عليه ببغية الحق أينما كان، حتى في تعامله مع أنداده وقرنائه يتقي الله جل وعلا فيهم، ولا يمنعنه كونهم أنداداً له ومعاصرين له أن يترفع عليهم، أو أن يقول فيهم بغير وجه حق، لكن هذه منزلة العالية ليس الكل يؤتاها.

طلق المحيا 18-12-16 08:19 PM

طمأنة الله تعالى لموسى عليه السلام

من فوائد هذه القصة أن الله جل وعلا قال لنبيه: خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:21]، فقول الله جل وعلا: وَلا تَخَفْ ، هذا نوع من الاطمئنان أعطاه الله جل وعلا لموسى قبل أن يأخذ العصا، وهذا يعلمك درساً أن الذين تريد أن تربيهم على الحق لا تقطع أملهم في المكافآت، أو لا تظهر تخليك عنهم تماماً وتقول: أنا أريد أن أربيهم، أنا أريد أن يصل إلى الحق بنفسه، بل يحسن أن يكون هناك شيء يسير من الإعانة، كما أعان الله كليمه موسى بقوله: خُذْهَا وَلا تَخَفْ ، ولو قال له: خذها من غير أن يقول له: ولا تخف، لأخذها موسى؛ لأن موسى أتقى لله من أن يرد قوله، لكن الله قال له: وَلا تَخَفْ ففيه نوع من الاطمئنان، ونوع من الإعانة، ومن التيسير في التكليف، ولهذا جاء في دعاء الصالحين: رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286].

ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام -كما سيأتي- طلب أن تكون الوزارة لأخيه هارون؛ لأنه -كما ذكرنا-كانت في موسى حبسة، وهارون كان فصيحاً، فكان الناس في حاجة إلى صرامة موسى وحسن سياسته مع قدرة هارون على التعبير وإيضاح الرأي.

طلق المحيا 18-12-16 08:23 PM

ضرورة التجاء العبد المؤمن إلى الدعاء

وقد ختم الله جل وعلا هذا المقطع بقوله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، وهذه الكلمة الإلهية لهذا العبد الصالح من أعظم ما يفرح به، أن يجيب الله جل وعلا دعاءك وإجابة الدعاء من أعظم العطايا؟

ولهذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مقروناً بحرف التحقيق: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، ثم أخبره أن هذه ليست أول منة عليه.

والمراد من هذا أن نقول: إن الدعاء من أعظم ما ينتصر به الإنسان، لكن من المهم أن يكون هذا الدعاء مقروناً بحسن نية، ووالله لن يوجد أحد لديه حسن نية في بغية شيء إلا وأعطاه الله جل وعلا إياه إذا كان يريد بذلك الشيء الذي يبتغيه النصح لله ورسوله، وليس له فيه أو لغيره حظ ولا نصيب.

قبل أيام كان عندي أخ فرنسي الأصل والمولد والمنشأ، له سبع سنوات عندنا في المدينة وهو دائماً يحضر الدروس، هذا الأخ الكريم يقول: نشأ في بيت أبواه ملحدان، حتى النصرانية التي هي ذائعة في فرنسا لا يؤمنان بها، ويبغضان الله، ولا يؤمنان أصلاً بوجوده.

يقول: لما وصلت إلى الثانية عشرة من العمر كنت أسألهما عن الدين فينهراني، فلما أكثر عليهما طلبا منه أن يبحث بنفسه، يقول: فدخلت كنيسة فأعجبني ما فيها، فتنصرت فأصبحت نصرانياً، وكنت أجيد الرياضة، فاشتركت في ناد رياضي اقترنت مشاركتي بهذا النادي مع مسلمين من أصول عربية، قال: كانوا يلعبون الحركات الرياضية على الموسيقى، فإذا انتهوا صلوا.

يقول: فكنت أتعجب من صنيعهم وأنا أبحث عن الحق، ثم تعلمت عنهم الدين فكان ذلك سبباً في إسلامي.

هذا كله ليس بعجيب، فهو يتكرر عليكم مئات المرات، لكن الغرابة أن له جدة تعمل في التنجم، فأتاها وهو صبي قبل أن يسلم في أيام المراهقة فقالت له من خلال تنجيمها: أنت ستجد الحق الذي تبحث عنه.

يقول: فلما هداني الله إلى الإسلام أتيتها وقلت: ألا تذكرين يوم كذا وكذا؟ قالت: نعم، قال: أبشرك لقد عرفت الحق وأن هناك رباً وديناً اسمه: الإسلام، وأخبرها الخبر، فزاد بغضها له، وأخذت تسبه وتلعنه، وتسب الدين الذي انتسب إليه، ثم تركها وجاء يسألني في قضية كيف يبرها باعتبارها جدة له إذا وصل إلى بلاده؟

موضع الشاهد من هذا كله أن الله يقول: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]، ومن جملة مشيئة الله في الهداية إلى النور سواء النور العام الذي هو نور الإسلام، أو نور الوصول إلى بعض المعارف والحقائق والغايات أن يكون مرتبطاً بحسن المقصد، ويكون الإنسان همه وبغيته أن يصل بهذا الأمر الذي يبتغيه إلى رضوان الله.

وقد يمكن أن من يبتغي بالأمر الذي ينشده غير الله أن يصل إلى الذي يريده، لكن مثل هذا لا يعد إماماً في الدين؛ لأن الله جل وعلا منع الإمامة في الدين للظالمين، ولا ريب أنه ظالم لنفسه، من أراد بالدنيا غير وجه الله، ومن أراد بالعمل الصالح وبعمل غير وجه الله، والله قد قال لعبده وخليله إبراهيم: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، فقال متلهفاً من أجل ذريته: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124]، فحكم الحكم العدل فقال لإبراهيم: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، أي: هذه العطية والعهد والميثاق التي أعطيتك إياها لا ينالها ولا يصيبها ولا يفرح بها ظالم، فلا يسمى إماماً في الدين من ابتغى بعلمه أو بأي أمر آخر أحداً غير الله تعالى.

لكن الإمام في الدين الحق هو من ابتغى بعلمه الله جل وعلا وحده، ولم يستشرف ولم يشرئب عنقه لغير عطايا الرب تبارك وتعالى، فما أتاه من الدنيا يتحرز منه، وقد تنقل له رؤى ومنامات تحكى عنه، ويمدح، ويقول الناس فيه ما يقولون، وأن الله كتب له القبول وأمثال ذلك، فليأخذها على حذر خوفاً من أن تكون استدراجاً؛ فإن العبد لا يدري بماذا يختم له.

هذا التكليم الذي حدث في سورة طه لموسى جعل بعض العلماء كتسمية اجتهادية لسورة طه يسمونها: سورة الكليم، لكن هذا وقع عند بعض المفسرين، أما الاسم التوقيفي لها فهو: سورة طه.

طلق المحيا 18-12-16 08:24 PM

الحكمة في الإكثار من ذكر قصة موسى في القرآن

موسى عليه الصلاة والسلام أكثر الله من ذكر قصته في عدة مواطن، والسبب في ذلك: أنه عالج بني إسرائيل أعظم المعالجة، وهذه المعالجة انقلبت نصحاً في حديث الإسراء والمعراج؛ فإنه قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: إنني قد بلوت الناس قبلك، وإن أمتك لن يطيقوا ذلك، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم الكريم واجه أمرين: أمراً في عتو من أرسل إليه وهو فرعون، وأمراً في أن من حوله من بني إسرائيل لم يكونوا يعينونه على دعوته إلى ربه، فما أن نجاه الله من فرعون حتى وجد العناء والعنت من قومه، قالوا: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].

ومع ذلك صبر على طغيان فرعون، وصبر على عنت قومه وشقائهم وعتوهم معه، حتى ختم الله له جل وعلا ومات في أرض التيه، وبقي عبداً صالحاً حتى وهو في قبره، يقول صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أعرج بي وإذا بموسى قائم يصلي في قبره)، وهذه حياة برزخية الله أعلم بها، لكنها تبين لنا أي مقام كريم لهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

طلق المحيا 19-12-16 12:54 AM

لقد من الله تعالى على عبده ورسوله موسى عليه السلام بمنن كثيرة وعطايا جسيمة، وما ذاك إلا دلالة على المنزلة العظيمة عند الله تعالى، ومن ذلك استجابة لله تعالى لدعائه، وإعطائه ما أراد، وقبل ذلك ما من الله تعالى به عليه حينما كان صبياً في حجر أمه، من إلقائه في اليم، وأخذ فرعون له وعدم مسه بسوء، ثم رجوعه إلى أمه، وبعد أن صار شاباً ووقع ما وقع من الله عليه بأن جعله يفر إلى مدين ويجد فيها الأمن والاطمئنان.. وبعد رجوعه منها أرسله الله تعالى إلى فرعون هو وأخاه هارون كي يدعوا فرعون إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.

طلق المحيا 19-12-16 12:57 AM

دعاء موسى لربه بشرح صدره وتيسير أمره وحل عقدة لسانه

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو أراد أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد توقفنا في الدرس السابق عند قول الله جل وعلا في ذكر ما طلبه موسى عليه الصلاة والسلام من ربه بعد أن كلمه الله جل وعلا وأوحى إليه، قال تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:25-32].

هذه السؤالات التي سألها موسى عليه الصلاة والسلام ربه، إنما سأله إياها حتى تعينه على الدعوة إلى الله جل وعلا، فبدأ بقوله: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25]؛ لأن الإنسان إذا انشرح صدره للأمر الذي يطلبه كان ذلك أشد عوناً له في قضاء تلك الحاجة التي يرومها.

وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:26]، ذلك أن الأمر في الأصل أنه حزن صعب إلا أن ييسره الله، ولذلك جاء في الحديث: (اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً)، قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28]، جاء الفعل (يفقهوا) مجزوماً بحذف النون؛ لأنه واقع في جواب الأمر، فحذفت نونه لأنه من الأفعال الخمسة، والناس في قول الله جل وعلا: (عقدة من لساني) على قولين: والقول الأول: أخذوا بالأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن سبب تلك العقدة ما كان من اجتراء موسى بين يدي فرعون لما قدم له جمراً وتمراً فأخذ التمر، فقالوا: إن جبريل جاء ونقل يد موسى من التمر إلى الجمر، فحمل موسى الجمر فأثرت في يده كما سيأتي، وأثرت في لسانه، فنجم عن ذلك حبسة جعلت موسى غير فصيح في كلامه؛ ولهذا قال فرعون يسخر من موسى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، وموسى قد اعترف بهذا بين يدي ربه بأنه أقل فصاحة من أخيه هارون، قال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي [القصص:34].

القول الثاني: قالوا: إن شخصية موسى شخصية انفعالية حادة -وهذا قول أكثر المتأخرين- والشخص إذا انفعل وأصبح حاداً تحدث عنده حبسة ويكون كلامه سريعاً غير واضح وغير ظاهر يتفق مع شخصيته، ونقلوا أن الإمام المفسر كان فيه هذا الأمر، وهذا ملحوظ أحياناً عند بعض الناس أنه إذا انفعل يصبح الكلام عنده سريعاً متتابعاً، لا يكاد يفهم، هذا تخريج بعض المتأخرين للعقدة.

وقد حملها: بعضهم على الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وبعض العلماء قال برفعه، لكنه بعيد،

ورجح ابن كثير رحمه الله تعالى وقفه على ابن عباس ، والأظهر -والعلم عند الله- أن ابن عباس رضي الله عنهما أخذه من مسلمة أهل الكتاب، وعندما نقول: من مسلمة أهل الكتاب، نقصد أولئك الذين آمنوا بالإسلام، آمنوا بالله ودخلوا في الدين من أهل الكتاب من العلماء، ومن أشهر هؤلاء وفي مقدمتهم كعب الأحبار ، كما مر معنا الاستشهاد بأقواله في مواطن عدة.

طلق المحيا 19-12-16 12:59 AM

سؤال موسى عليه السلام لربه أن يجعل هارون وزيراً له

ثم قال عليه السلام لربه يناجيه ويرجوه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي [طه:29-30]، كلمة (من أهلي) عامة، ثم خصص وعين فقال: هَارُونَ أَخِي [طه:30]، وقوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا [طه:29] كلمة (وزر) في اللغة مادتها الأصلية تعني الثقل، يقول الله جل وعلا: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، والمعنى: لا تتحمل نفس ذنب أخرى ولا ثقلها، فالذنوب وزر؛ لأنها أعظم ما يحمل على الظهر، وفي القديم لم يكن هناك وزراء كثيرون، وإنما الوزير واحد، كما كان هامان وزيراً لفرعون، فكان الوزير في النظام القديم السياسي للدول واحداً للأمير أو للملك أو للسلطان، بحسب مسماه، وهذا الوزير هو الذي يحمل ثقل الإمارة عن الأمير، فلذلك سمي وزيراً، فلا تعارض بين الجذر اللغوي لكلمة (وزر) وبين قول نبي الله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه:29-31]، يطلب من الله أن يجعل أخاه هذا مما يشد به الأزر، وسيأتي التفصيل في هذا في خاتمة الدعاء.

قال: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:32]، الهاء في (أشركه) عائدة على هارون، وقوله: (فِي أَمْرِي)، أي: أمر النبوة والرسالة، فقال العلي الكبير لعبده موسى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، فأضحى هارون عليه السلام نبياً رسولاً بشفاعة أخيه موسى؛ ولهذا قالوا: إنه لا يعلم أن أخاً أمن على أخيه من منة موسى على هارون، ولهذا قال الله في نعت كليمه موسى: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، أي: له قربى وزلفى وجاه عند الله، ولهذه الوجاهة التي عند الله أضحى هارون نبيناً ورسولاً، وقد مرت عائشة رضي الله عنها وأرضاها على رجلين في الحج يسأل أحدهما الآخر، قال له: هل تعلم أي أخ أعظم منة على أخيه؟ فقال الآخر لا أدري، فقال الذي سأل: أنا أعلم، إنه موسى بمنته على هارون، فبفضل دعاء موسى أضحى هارون نبينا رسولاً، فقالت عائشة رضي الله عنها معلقة: صدق والله: أي: صدق والله فيما قال: والأخوة منها أخوة الإيمان، ومنها أخوة النسب، ومنها أخوة الصداقة والاتفاق في العيش أو في الذكرى، وأعظمها إذا اجتمعت: أخوة إيمان، وأخوة نسب، وأخوة علاقة أو صداقة أو رفقة أو جيرة أو ما شابه ذلك، أو زمالة، والعرب تقول:

إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك

والإنسان يحتاج إلى من يكون معه في السراء والضراء، ولا يدخر الإنسان للسراء والضراء أعظم من إخوانه، لكن العرب تقول: إن ذلك الأخ -ويعبرون عنه بالخل الوفي- هو ثالث المستحيلات.

والمستحيلات عند العرب ثلاثة: اثنان منها يتعلق بالدواء، فيقولون: الغول يخوفون به، ولا حقيقة له، والعنقاء طائر يخوفون به، ويتحدثون عن شيء كثير من أساطيره ولا حقيقة له، ولكنهم يجمعون إلى ذلك الخل الوفي، فيقولون: إن ثالث المستحيلات الخل الوفي.

وقد يكونون أصابوا في الأولى، لكنهم أخطئوا في الثانية، فكم من خل وفي موجود، وهذا لا يحتاج إلى شواهد، وأعظمها أخوة الصديق لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.

ثم ذكر موسى عليه السلام القضية الأساسية من هذا كله، قال: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا [طه:33-35]، فذكر الله من أعظم العبادات وأجل الطاعات، قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! ومن المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).

وبعد أن سأل موسى ذلك قال الله تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، وهذه منة من الله على موسى، لكنها ليست بأول منة.

طلق المحيا 19-12-16 01:01 AM

منن الله تعالى على موسى منذ صغره حتى صار شاباً

ثم عدد الله جل وعلا أفضاله ومننه وعطاياه على هذا النبي الكريم، فقال: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [طه:37] أي: بإجابتنا لدعائك مرة أخرى.

وقوله جل وعلا: (مرة أخرى) يدل على أمرين: أولاً: يدل على أن هناك أموراً سابقة، وثانياً: يدل على أن هناك أموراً لاحقة؛ لأنها لو كانت خاتمة المطاف لجاء التعبير القرآني: (ولقد مننا عليك مرة) أخيرة؛ لأن الأخير يعني: الخاتم، لكن الآخر قد يكون بعده آخر غيره، ولكنه خلاف الأول، أما الأخير فهو خاتمة لما سبق.

فقول ربنا جل وعلا: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ [طه:37] المخاطب هو موسى مَرَّةً أُخْرَى [طه:37] أي: سبقت منتنا عليك، وستأتي منن أخرى عليك أيها الكليم، ثم عدد الله ما سبق، وأشار إلى ما سيأتي، فقال جل ذكره: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى [طه:37-38]، (إذ) ظرف لما مضى من الزمان، كما أن إذا بالألف وظرف لما يستقبل من الزمان، قال الله جل وعلا: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى [طه:38]، ولم يذكر الله جل وعلا في آية ما الذي أوحاه إلى أم موسى، فأبهمه حتى يفصله بعد قليل، وتصبح الأنفس مشتاقة لسماعه، ومن أساليب القرآن: التفصيل بعد الإجمال.

قال الله جل وعلا: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ [طه:38-39]، لكن ينبغي أن تعلم أن وحي الله لأم موسى إنما هو إلهام، وليس هو الوحي المعروف الذي هو من خصائص الأنبياء؛ لأن النبوة لا تكون في النساء، وما كانت نبياً قط أنثى.

فقوله: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ، أي: ألهمها الله أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ، الذي سيقذف هو موسى (في التابوت) أي: في الصندوق، فلم يقل الله لها: أخفيه هنا أو هناك عن أعين حرس فرعون وجنده، وإنما قال الله لها: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [طه:39]، ومعلوم أن إلقاء طفل رضيع في اليم لم تمر عليه إلا أيام معدودات مظنة هلاكه، لكنه يصبح عين النجاة إذا كان بأمر الله.

وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان

فالإنسان يصبح في قمة الأمان إذا كان محاطاً برعاية الله، والصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر أنزل الله عليهم النعاس، والنعاس مظنة نصر لهم رضي الله عنهم وأرضاهم، مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.

فالمقصود: أنه كل من خاف من أحد فر منه، إلا من خاف من الله لجأ إليه، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وقد قذف الله في قلب أم موسى أن تفعل هذا الصنيع، وإلا ففي العقل أنه لا تقوى امرأة على هذا الصنيع؛ لأنه مهما كان أن يبقى موسى بين يديها في بيتها تحت عينيها خير له من أن تلقيه في البحر.

فقذفته في البحر بأمر من الله، وأمر الله البحر كما يدل عليه ظاهر القرآن: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ [طه:39]، أي: البحر، وهو النيل بالاتفاق، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ [طه:39] جواب للأمر، فجرى ذلك التابوت بقدر الله، حتى أضحى قريباً من بيت فرعون، أو من قصره، حتى آل به الأمر إلى أن تفتحه زوجة فرعون، قال الله: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ [طه:39]، ما زال الخطاب لموسى، مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39]، وحتى يحيا موسى أجرى الله السبب، والسبب أن الله قذف في قلب من يراه المحبة إلا بعض شواذ خلقه، وأول من ألقى في قلبه محبة موسى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وهذه المرأة من أربع نساء أثنى عليهن نبينا صلى الله عليه وسلم، وهن: خديجة ومريم وفاطمة وآسية ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ومن أخطائنا في التعبير اليوم أننا نطلق كلمة (سائر) بمعنى كل، وسائر ليست بمعنى كل، إنما المعنى: بقية، فأنت تقول: نجح فلان وفلان وفلان وأخفق سائر الطلاب، أي: باقي الطلاب، وليست بمعنى كل، فالنبي عليه الصلاة والسلام عدد أولاً أربعاً، ثم قال: (وفضل عائشة على سائر النساء) أي: البقية من غير الأربع (كفضل الثريد على سائر الطعام) فالثريد غير داخل في سائر الطعام.

المقصود: أن هذه المرأة قذف الله في قلبها محبة موسى، فهرولت إلى فرعون تقول له: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [القصص:9]، قيل -والعلم عند الله- أن فرعون قال لها: أما لك فنعم، وأما أنا فليس لي به حاجة، والبلاء موكل بالمنطق، فوقع الذي أراده فرعون، وهذا بيناه في مواطن كثيرة، لكن نقف على آيات السورة.

قال الله جل وعلا: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، أي: تنشأ وتهيأ على رعاية من الله وحفظ وكلأ من رب العزة والجلال؛ لأن الله ادخرك لأمر عظيم.

طلق المحيا 19-12-16 01:03 AM

إعادة الله تعالى لموسى إلى أمه

ثم كرر جل وعلا ظرفاً آخر هو إعادته إلى أمه، قال تعالى: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ [طه:40]، وهذا وقع بعد تحريم المنع، وقد قلنا: إن امتناع موسى من قبول ثدي النساء إنما هو تحريم منع وليس تحريم شرع، قال الله: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12].

واستنبط العلماء رحمهم الله من هذه القضية: أن الإنسان ينبغي عليه أن يأخذ بالأسباب، ووجه هذا الاستنباط: أن الله جل وعلا وعد أم موسى أنه سيرد موسى إليها، فقال لها: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، ومع هذا الوعد الإلهي الرباني إلا أن أم موسى قالت لأخته -أي: أخت موسى-: قصيه، أي: تحسسي خبره، فأخذت بالسبب، فتحسست الخبر، قال الله جل وعلا: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ [طه:40] تخاطب آل فرعون، (على من يكفله)، وكانوا قد بلغت بهم المشقة مبلغاً من الذي يكفله، وقد امتنع عن النساء، قال الله: فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [طه:40]، وأي حزن سيأتيها وقد أضحى وليدها الذي رمته في اليم بين يديها ترضعه وتأخذ على رضاعته أجراً؟ لأن القضية قضية عناية إلهية لهذا العبد الذي أراد الله أن يكون بعد ذلك كليماً مصطفى ونبياً رسولاً، قال الله جل وعلا يذكر أنه من على هذا الكليم الصالح: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [القصص:13]، وهذا الوعد هو الذي قاله الله في سورة القصص: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].

ثم قال: وَقَتَلْتَ نَفْسًا [طه:40]، وهي قصة قتل موسى للرجل القبطي من أهل مصر، وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ [طه:40] أي: الغم الذي أصابك عندما قتلت تلك النفس، وله صورتان:

غم: عند شعورك بالذنب، فقد قال الله عنه: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16].

وغم: عندما أخبرت أن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فأخرجك الله ممن كان يريد قتلك إلى أرض مدين؛ ولهذا قال الله جل وعلا: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه:40]، والأظهر عندي في قول الله: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا أي: وابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء



الساعة الآن 09:50 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi