ملتقى قبيلة حرب الرسمي

ملتقى قبيلة حرب الرسمي (http://www.m-harb.net/vb/index.php)
-   الـــمـــلـــتـــقـــى الــــــــــعــــــــام (http://www.m-harb.net/vb/forumdisplay.php?f=47)
-   -   إهداء لأعضاء وزوار الملتقى الإسلامي بملتقى حرب (http://www.m-harb.net/vb/showthread.php?t=154149)

طلق المحيا 19-12-16 01:05 AM

رجوع موسى من مدين بعد فراره إليها

وقال تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40].

قوله: فَلَبِثْتَ سِنِينَ ، هذا إبهام لعدد السنين، فلم يحدد الله تعالى عدد السنين، لكن عدد السنين لا يمكن أن يخرج عن ثمان أو عشر، وقد عرفنا أن هذا الإبهام لا يخرج عن ثمان أو عشر من قول العبد الصالح كما حكا الله في سورة القصص عنه أنه قال: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27].

فهنا فسرنا القرآن بالقرآن، فتفسير القرآن بالقرآن أجلى لنا الصورة بنسبة ثمانين في المائة، وهي أن السنين أصبحت محصورة في الثمان والعشر، ثم جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو يعلى في مسنده والحاكم في مستدركه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل: ما الأجل الذي قضاه موسى؟ فقال: أتم أوفى الأجلين)، فعلمنا هنا أن السنين التي أبهمها الله في سورة طه هن عشر سنين، عندما اتخذنا طريقاً علمياً بحتاً متدرجاً كما هو ظاهر.

وكلمة (سنين) تسمى عند النحويين من الملحقات بجمع المذكر السالم، فترفع بالواو، وتنصب وتجر بالياء، وقد يرد سؤال: لماذا لا يقال لها مباشرة جمع مذكر سالم، مع أنها ترفع بالواو، وتنصب وتجر بالياء؟

والجواب: أن جمع المذكر السالم لا تتغير صورة مفرده إذا جمع، فتقول: مدرس مدرسون، مهندس مهندسون، إنما يزاد واو ونون في حالة الرفع، أو يزاد ياء ونون في حالة النصب، لكن كلمة (سنة) إذا جمعت على (سنين) لم يسلم مفردها، بل يتغير؛ ولهذا قال النحويون: إن هذه الكلمة ومثيلاتها تسمى: ملحقات بجمع المذكر السالم.

ومما ورد في القرآن من ملحقات جمع المذكر السالم كلمة (بنون) قال الله جل وعلا: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46].

وكلمة (أهلون) قال الله جل وعلا: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [الفتح:11]، (أهلون): فاعل مرفوع؛ لأنه معطوف على فاعل، وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.

أما في السنة فوردت كلمة أرضين، قال عليه الصلاة والسلام: (طوق من سبع أرضين) فأرضون ملحقة بجمع المذكر السالم إلا أنها لم ترد في القرآن، وإنما وردت في السنة.

قال الله: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ، هذه السنين كنت فيها معززاً مكرماً، محفوظاً آمناً من بطش فرعون، ثم قال الله له: ثُمَّ جِئْتَ إلى أي مكان؟ إلى هذا المكان الذي أنت فيه، الذي تخاطب فيه ربك، ثم جئت من أرض مدين إلى جبل الطور، إلى الوادي المقدس عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وأنت تعلم أن كل شيء خلقه الله بقدر، لكن القدر هنا قدر خاص، والمقصود به العناية العظيمة بكليمه موسى، أي: جئت لأمر أعددناه، لم تتأخر عنه ولم تتقدم، ولحكمة أرادها الله جئت في هذا الوقت بالذات لأنبئك وأرسلك وأجعلك كليماً مصطفى على أهل زمانك، ولذلك قال الله له: يا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144].

وهذا المعنى قد فهمه الشاعر جرير حين قال يمدح عمر بن عبد العزيز :

نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر

فهذا المعنى قد فقهه جرير ، وهو أن هناك معنى خاصاً للقدر وليس هو القدر العام، وإن كان يقيناً يندرج هذا في القدر العام بلا مراء.

وجرير -وهذا من باب الاستطراد النافع- هو أحد الشعراء الأمويين الذين يستشهد بشعرهم، فكون طالب العلم يلجأ إلى شعر جرير فيقرؤه ويبحث عن معانيه ويغوص في أعماقه، هذا مما يعينه على فهم كلام الله، وجرير أعطي قدرة على السحر بالمبنى، لا السحر بالمعنى، فليس في شعره كبير معان، لكن لديه قدرة في السبك بين الأبيات، أو بتعبير أصح: السبك بين الألفاظ، وهذه روح الشعر وحقيقتها، ولا تأتي إلا من الدربة؛ ولهذا يقل هذا الإتقان في شعر العلماء؛ لأن الإتقان والدربة عندهم قليلة، فلو أتيت برجل حافظ للقرآن، متقن للخطابة، فيعني ذلك لزاماً أنه مشغول أكثر وقته بقراءة القرآن والنظر في كتب العلم، وهذا بالضرورة يعني عدم قراءته للشعر كثيراً، فلا يكون هناك سبك جيد وقد يكون أقرب إلى النظم.

لكن إذا كان الإنسان أكثر قراءته في الشعر فستكون عنده معرفة بروح الشعر، ولذلك كل من اشتهر بالشعر، وأصبح إماماً فيه لا يكون إماماً في شيء آخر، من أصبح إماماً في الشعر محال أن يكون إماماً في غيره؛ لأن هذه منزلة يطلب منها التجرد عما غيرها، بخلاف غيره، لكن قد يكون الإنسان ملماً بكل ذلك، كالإمام الشافعي مثلاً، فقد كان إماماً في اللغة، إماماً في القراءات، إماماً في النحو، فجمع فنوناً هو فيهن رئيس وسيد، لكنه لم يكن إماماً في الشعر كـجرير ، والمتنبي ، وأبي تمام ، والبارودي ، وشوقي وغيرهم؛ فهؤلاء لم يفعلوا في الشعر إلا لأنهم قلما يجيدون شيئاً آخر من الناحية الفكرية.

نعود فنقول: إن الرجل سحر الناس بمبانيه ولم يسحرهم بمعانية، ومن ذلك قوله:

أتنسى إذ تودعنا سليمى بفرع بشامة سقي البشام

فما وجد كوجدك يوم قلنا على ربع بناظرة السلام

تمرون الديار ولم تعوجوا كلامكمو علي إذاً حرام

وهذه من حيث المعنى ليس فيها كبير معنى، فإنه يتكلم عن المعشوقة وهو خارج من الديار، فقد أعطته عود البشام، ثم خرج يمر على ديار اسمها ناظرة، أي: مكان اسمه ناظرة؛ ولذلك لم يجر بالكسرة في الأبيات، فيسلم على أهله ويمر، ويعاتب قوماً لم يمروا عليه ويزوروه، وهذا إلى اليوم يجري بين الناس، لكن الله أعطاه سبكاً لفظياً، جعل لشعره صيرورة بين الناس، ومن ذلك قوله:

بان الخليط ولو طوعت ما بان وقطعوا من حبال الوصل أقرانا

حي المنازل إذ لا نبتغي بدلاً بالدار داراً ولا الجيران جيرانا

يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي علي فؤادي كالذي كانا

لو تعلمين الذي نلقى أويت لنا أو تسمعين إلى ذي العرش شكوانا

إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا

يا حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كانا

وحبذا نفحات من يمانية تأتيك من قبل الريان أحيانا

فليس في الأبيات كلها كبير معنى، لكنها تجري على اللسان وإذا بدأت بها تعجز أن تقف قبل أن تكملها؛ ولهذا كان شعره يسير بين الناس في البوادي والقرى والمدن كسيران النار في الهشيم؛ لأن القضية قضية سبك لفظي في المقام الأول، وهذا مهم جداً في فهم لغة القرآن؛ لأن أكثر من يخطئ في القرآن من أسباب الخطأ عدم فهم ألفاظ القرآن، وأن المقصود من بعضها المعنى العام وليست الحرفية التي تنظر في قواميس اللغة، هذا استطراد في معنى قول الله جل وعلا: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40].

طلق المحيا 19-12-16 01:08 AM

أمر الله تعالى لموسى وهارون بالذهاب إلى فرعون ودعوته إلى الله

ثم أتم الله عليه النعمة، فقال عن هذا الكليم: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وفي الآية السابقة قال: وََلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، لكن لأي شيء؟ ثم قال: (واصطنعتك لنفسي)، وهذا من أعظم الثناء في القرآن، ومن أعظم الثناء في القرآن ما مر معنا من قول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]، وقول الله جل وعلا على لسان خليله إبراهيم: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47]، فهذه ثلاثة مواطن ظاهر فيها الثناء على هؤلاء الأنبياء الكرام، وأعظمها قول الله جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]، وهذا عظيم جداً.

قال تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، ثم انتقل الأمر من تهيئة موسى إلى بعثه، فقال له: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي [طه:42]، وقرنهما بالأمر الأول: وَلا تَنِيَا أي: لا تضعفا، من الفعل: ناء، بمعنى: ضعف وعجز ولان، وهذا دليل على أن أعظم ما يعين على تحقيق المطلوب هو الإكثار من ذكر علام الغيوب، اللهج بذكر الله يعين على تحقيق كل مرغوب، ويدفع به كل أمر مرهوب؛ ولهذا قال الله قبل أن يبعثهما وقبل أن يسمي لهما إلى من يذهبان: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:42-43]، ولا ريب أن فرعون طغى طغياناً عظيماً، قال تعالى عنه: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وكل ذنب يندرج بعد ذلك في هذا الأمر، وهذا إجمال من الله في قوله: إِنَّهُ طَغَى .

قال الله: فَقُولا لَهُ -أي: لفرعون- قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، اللين يكون في الأسلوب لا في المضمون، فإياك أن تفهم أن اللين يكون في مضمون الكلام، إنما اللين يكون في الأسلوب الذي تعرض به خطابك، وهذا يجب أن يدقق فيه الإنسان وهو يقرأ القرآن، فمثلاً: تطبيقه على خبر موسى، الله تعالى أمر موسى وهارون أن يدعوا فرعون إلى التوحيد، وإلى عبادة الله، فلا يعقل أن موسى وهارون فهما من اللين أن يغيرا الدعوة، بأن يشرك مع الله واحد منهما أو هما معاً، أو أنه لا يدعي أنه إله لكن لا يعبد الله.. هذا غير وارد، لكن اللين في قضية كيف تطرح التوحيد.. كيف تقول لفرعون: آمن بالله، كيف تخاطبه، هذا هو اللين في الأسلوب، أما المضمون فيبقى هو المضمون.. ترى رجلاً لا يصلي فتذهب إليه وتنكر عليه إنكاراً عظيماً كونه لا يصلي، لكن كيف تنكر؟ هذا هو اللين الذي أمر الله به، أما المضمون فيبقى كما هو مبجلاً عظيماً نحافظ عليه، كما أن الأسلوب إذا بقي العاصي على ما هو عليه يتغير، والدليل: أن موسى وهارون قطعاً عبدان طائعان لله، والله قال لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ، ومع ذلك قال الله جل وعلا عن موسى أنه قال لفرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102]، وكلمة (يا فرعون مثبوراً) ليس في هذا الأسلوب لين، لكن موسى لجأ إليه بعد أن استنفد مسألة اللين، فلما ثبت فرعون على كفره وإلحاحه وعناده غير موسى أسلوبه عليه الصلاة والسلام.

قال تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ، وقد سبق في علم الله أن فرعون لن يتذكر ولن يخشى، لكن الله أراد أن يعلم من يدعو إليه كيف يدعو ويتدرج في خطابه.

طلق المحيا 19-12-16 01:10 AM

.

خوف موسى وهارون من طغيان فرعون وعدم استجابته وتثبيت الله لهما

قال الله جل وعلا في الخبر نفسه: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] (قالا) أي: موسى وهارون، وهذا الأمر بعد التكليف، (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) والمقصود من الأمرين ألا يقبل منا لا حقاً ولا باطلاً، قال الله جل وعلا لهما: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، والله مع كل أحد يسمع ويرى، لكن هذه معية خاصة لكليم الله وأخيه، وهذا أعظم ما وقر به الاطمئنان في قلب رسول الرحمن موسى عليه الصلاة والسلام، قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ولو اخترت لك من ألفاظ اللغة ما اخترت فلن يمكن أن أؤدي اللفظ الذي جاء به القرآن، كما يقر بذلك كل من يقرأ القرآن ويفهم لغة العرب، فأي اطمئنان وصل إلى قلب موسى، وربه يقول له: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى؟!

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: (فإن فرعون لن يبطش ولن ينطق ولن يتقدم ولن يتأخر إلا بإذنه القدري جل وعلا، وأنا معكما بنصري وتأييدي أسمع وأرى).

قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47] (فأتياه) أي: فرعون، (بآية من ربك) أي: جنس الآيات، وإلا فإن الآيات تسع كما سيأتي تفصيلها، (قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى)، هذا نوع اطمئنان وأسلوب في الكلام، لكن هل هو تحية؟ قال به بعض العلماء استناداً على ما ورد في الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث خطابه إلى هرقل وغيره كتب: (من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد: سلام على من اتبع الهدى).

وقال آخرون: إنه ليس تحية، بدليل أنه لم يأت في أول الكلام، ولكل وجه، فقد يكون ختم به موسى أمره، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ليكون تحية لغيره.

قال تعالى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48]، وهذه قد مرت معنا من قبل، وقلنا: إن الله حصر الخلود في النار على من اتصف بصفتين: التكذيب والإعراض، وكل كافر تجتمع فيه هاتان الخصلتان، وفي هذه الآية وما قبلها ما يسمى عند البلاغيين: إيجاز، والمعنى: أن موسى وهارون قبلا الدعوة، وتوجها إلى فرعون، وسواء طالت مدة وقوفهما بالباب أو لم تطل، فكم مكثا يستلطفان فرعون في الدخول عليه، هذا علمه عند الله، حتى قال بعض الناس: إنه مكث أربعين عاماً، وهذا بعيد، وقال بعض الناس: أربعين يوماً، وهذا لا يبعد، والمقصود أنهما دخلا عليه.

طلق المحيا 19-12-16 01:11 AM

.

محاجة موسى وفرعون

فلما دخلا عليه وعرضا عليه الرسالة قال فرعون: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49]؟ فأجاب الكليم: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، كان فرعون يعلم أن رب موسى هو الله، لكن من باب الاستكبار وإظهار أن الله لا يستحق العبادة خوفاً من انفراط قومه عنه، فأجاب الكريم إيجاباً مختصراً: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ، فالخلق مقدم على الهداية، والنعمة نعمتان: نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد، فمن حيث الترتيب الزمني: فإن نعمة الخلق والإيجاد قبل نعمة الهداية والإرشاد، ومن حيث كونها نعمة وفضلاً ومنة فإن نعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد، والله جل وعلا هنا لما كان يتكلم موسى عليه السلام ويبين فضل الله، كان يتكلم عن القضية من باب ترتيبها الزمني، ولما تكلم جل وعلا عن ترتيبها في الفضل قال: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ [الرحمن:1-3]، فقدم نعمة الهداية والإرشاد على نعمة الخلق والإيجاد في سورة الرحمن، أما هنا فقدم الخلق لأن موسى يتكلم مع كافر، فيريد أن يبين له الأمر.

قال تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ، فخلق الحيوان وهداه إلى ما ينفعه، وخلق النبات والجماد، وأضحى كل شيء يتصرف بالقدر الذي هداه الله جل وعلا إليه، وهذا أمر محسوس، والكلام فيه نوع من الترف الذي يكفي عنه إيجاز القرآن، هذا كله في الكلام عن الرسالة، وفرعون كان ذكياً، فأراد أن يخرج موسى من جو الرسالة، أراد أن يخرجه من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات، فقال له: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51]؟ والقرون الأولى لا تعد، ولا أخذ موسى عليه السلام يعدد من هم قوم نوح ومن هم قوم ثمود، ومن هم قوم عاد، وذلك حتى يأتي الغلط على لسانه؛ لأن هؤلاء لا يحصون، والكلام فيهم لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، وهذا الذي أراده فرعون أن يخرج بالخطاب عن مقصده من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات، قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ، فتنبه الكليم لمقصد فرعون فأجمل في الخطاب: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، أي: أنا رسول، وهذا غيب، ولا اطلاع للرسول على الغيب إلى بمقدار ما علمه الله، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ، وهذه قد مرت معنا، أننا نقول: إن الله جل وعلا بكل شيء عليم، وأن علمه جل وعلا يوصف بأنه لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان، ودليله هذه الآية: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ، (لا يضل) أي: لا يجهل، (ولا ينسى) النسيان المعروف، وأي أحد يأتيه النقص في علمه من عدة أوجه، فيأتيه في أنه يعلم ثم ينسى، ويأتيه النقص في أنه يجهل ثم يتعلم، ويأتيه النقص في أنه يتعلم ثم لا يحيط علماً بما علم أو بما يعلم، فتفوته أشياء، وهذه الثلاث كلها منتفية في حق الرب تبارك وتعالى.

ثم أخذ موسى يعدد التعريف بربه، قيل: إن هذا من كلام موسى، وقيل: إنه من كلام الله، والعلم عند الله، قال تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، ثم ذكر الخلق: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:53-54]، هنا أراد موسى عليه السلام -إذا قلنا: إن الكلام لموسى في نفس السياق الخطابي إلى فرعون- أن يعرف بربه، وعندما تضرب أمثالاً أو تعرف بأحد فاذكر أقرب ما يكون إليه، وألصق ما يكون بحياته؛ لأن هذه لا سبيل إلى إنكارها؛ ولهذا قال الله لمشركي العرب: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17]؛ لأنهم يغدون ويروحون معها، فقالها قبل السماء وقبل الأرض، رغم أن السماء والأرض آيات عظيمة باهرة، وهذا لا تعارض فيه، لكنه قدم ما هو الألصق حتى يكون أقرب إليهم، فالمقصود من المثل تقريب الأمر وليس إبعاده، فإذا كان المثل إذا ضرب يجعل القضية عائمة غير واضحة فإن المثل غير موفق؛ ولهذا لما أراد موسى أن يعرف بربه قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً وهو الغيث والمطر، فَأَخْرَجْنَا بِهِ أي: بهذا المطر، أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ، شتى في كل شيء، منه ما تأكله الدواب، ومنه ما يأكله بنو آدم، ومنه ما لا يأكله لا الدواب ولا بنو آدم إنما هو للزينة، ومنه الحامض، ومنه الحلو، ومنه غير ذلك، أنواع شتى خلقها الله جل وعلا ثم قال جل وعلا: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ، أي: شيء لكم وشيء لدوابكم، إِنَّ فِي ذَلِكَ ، أي: في هذه الأمور كلها الدالة على عظيم خلقه لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى، أي: ذوي العقول، ولم ترد كلمة (النهى) في القرآن العظيم إلا في موضعين كليهما في سورة طه، قال الله جل وعلا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى، وقال جل وعلا في خاتمة السورة، بعد أن ذكر أخبار الأمم السابقة والكتاب والميزان والأجل المسمى، ثم قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:128].

والمقصود: أن أهل العقول هم أقدر الناس وأولى الناس وأشد الناس تهيئة لأن يعتبروا بما يرونه أمامهم.

ثم ختم الله جل وعلا هذا المقطع بقوله: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، والكلام كله عن الأرض، وقد مر معنا أن خلق أبينا آدم مر بمراحل:

أولهن: المرحلة الترابية من قبضة قبضت من الأرض، وهذا معنى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ، أي: باعتبار خلق أبيكم، وإلا فإن الناس خلقوا من نطفة، (وَفِيهَا) أي في الأرض (نُعِيدُكُمْ)، والمقصود: أن الإنسان مرده إلى القبر، وحتى لو قلنا: أن إنساناً التقمه حوت، أو افترسه سبع؛ فإن الحوت والسبع مآله إلى أن يموت، ثم مآله إلى أن يتحلل في الأرض، فسواء دفن الشخص بطريق مباشر أو لم يدفن بطريق مباشر فإن مصيره إلى أن يكون تراباً، يقول أبو العلا المعري في أبياته الفلسفية الشهيرة:

خفف الوطء ما أظن اديم الأرض إلا من هذه الأجساد

غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي

رب قبر صار قبراً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد

سر إن استطعت في الهوى رويداً لا اختيالاً على رفات العباد

إلى آخر ما قال في قصيدة معروفة المقصود منها أن الأرض أكثرها موتى قبروا فيها، والله يقول: (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) ثم قال: (وَمِنْهَا) أي: من الأرض، نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى وهذا الإخراج يكون يوم البعث والنشور، ويكون نبينا صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر، فيجد أخاه الذي نتحدث عنه الآن آخذاً بقوائم العرش،

قال صلى الله عليه وسلم: (فلا أدري أفاق قبلي -أي موسي- أم جوزي بصعقة الطور)، وقوله: (أم جوزي بصعقة الطور) أي: أن نفخة الفزع أو الصعق لم يدخل فيها موسى عليه الصلاة والسلام.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أدري) يقفل الباب في البحث في المسألة؛ لأن ما جهله النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعلمه أحد غيره، اللهم إن لم يكن بحثاً غير مجزوم فيه من باب الترف العلمي والسبق في مضمار أقدام العلماء.

نخلص من هذا كله: أن الله جل وعلا اصطفى هذا الكليم، وقربه أدناه، وكان في أول أمره همه جذوة من النار، فعاد وهو كليم الواحد القهار، ثم لما من الله عليه بالرسالة أحب أن يشرك الله جل وعلا أخاه في الرسالة، فقبل الله جل وعلا له هذا السؤل، وذكره بالمنن الماضية، وكيف نشأ محفوظاً برعاية الله جل وعلا حتى جاء على قدر بين يدي الله، يكلمه ربه ويعطيه مقام التكليم.

ثم بعثه الله جل وعلا إلى فرعون، وليس موسى أول الرسل إلى أرض مصر؛ بل قد دل القرآن على أن هناك رسلاً قبله، ومنهم يوسف عليه السلام، قال الله جل وعلا على لسان مؤمن آل فرعون: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:34] أي: من قبل موسى، فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34]، وهذا ظاهره -والعلم عند الله- أنه لم يبعث رسولاً بعد يوسف إلى أهل مصر.

ولما وقف موسى بين يدي فرعون خاطبه فرعون بقوله: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49]؟ فعرفه موسى عليه الصلاة والسلام بربه، فلما احتار فرعون في الجواب أراد أن يخرج عن ماهية الخطاب، ويشغل موسى بقضايا الحكايات، فرده موسى إلى أمور الرسالات: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، وهذه تعلم المرء كيف يجادل الآخرين، وأنه أحياناً من يجادلك يحاول أن يخرجك من الشيء الذي تجيده إلى الشيء الذي لست متمكناً فيه، فلا تمكنه من مراده، وإنما عد به إلى الجادة التي تحسنها؛ لأن الإنسان إذا تكلم بالشيء الذي لا يعرفه قد تنكشف سوءته، وتظهر عورته، وخير له ألا يقتحم حججاً لم يؤصل عليها ولم يعرفها، ولا يستسلم لخطاب الغير في قضية مجاراته في طرائق عدة، ولذلك قال موسى: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ، ثم توالت آيات تبين ما من الله جل وعلا به على الخلق تظهر ربوبيته، وهذه الأمور لا يستطيع فرعون ولا غيره أن ينكرها، وهي أن الله خلق الأرض وجعلها سبلاً، وأنزل من السماء ماء، وأنبت الأرض، ويسر للأنعام وبني الإنسان في المقام الأول أن يأكلوا منها، هذا كله إخبار من الله جل وعلا لا يستطيع أحد أن يرده لا فرعون ولا غيره، حجج باهرة، وآيات ظاهرة، وقدرة تعجز من يراها..

تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات على ورق هو الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك

هذا ما تيسر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 19-12-16 01:44 PM

حينما بعث الله تعالى موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه استكبر وكذب وأبى، فحاجّه موسى عليه السلام فلم ينفع ذلك، ثم زعم فرعون أن موسى عليه السلام إنما جاء ليخرجه وقومه من أرض مصر، وزعم أن موسى ساحر، فأراد أن يواجهه علانية أمام الناس ليظهر الصادق من الكاذب، فتواعدا إلى يوم الزينة وهو يوم عيدهم، فاجتمعوا فيه، وجاء موسى وجاء السحرة، فألقوا ما بأيديهم، وألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، وحينها آمن السحرة، وظهر الحق واندحر الباطل.

طلق المحيا 19-12-16 01:45 PM

تفسير قوله تعالى: (ولقد أريناه آياتنا كلها...)

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى [طه:56]، المخاطب هنا هو فرعون بالاتفاق، وقد مضى معنا ما أظهره موسى لفرعون من الآيات، وينبغي أن تعلم قبل أن نقص عليك ما في هذه الآيات من عبر وعظات، ودلائل وآيات، أن هذه الأمور لم تتم في برهان، وأنه ليس بمجرد أن دخل موسى على فرعون تمت القضية كلها، ولكنها مرت عبر سنين، فموسى عليه الصلاة والسلام استوطن أرض مصر فترة طويلة قبل أن يخرج منها، وما ذكره الله جل وعلا من خبر قارون وهلاكه: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81]، إنما كان قبل خروج موسى من أرض فرعون, ووجدت له صراعات، منها: أن الله جل وعلا أمره أن يتخذ بيوتهم قبلة، وأن الله جل وعلا أمره بأمور كثر، ومرت الآيات كالطوفان والجراد والقمل والضفادع.. وهذا كله حصل على مراحل زمنية طويلة، وأن الله جل وعلا أرحم من أن يعذب من غير أن يعطي فترة زمنية لمن أراد أن يعذبهم، وإنما لا يهلك على الله إلا هالك، والشقي من لم تتداركه رحمة الله تبارك وتعالى، وفرعون إنما أهلكه شقاؤه وعناده ومكابرته سنين طويلة.

فهنا يقول الله جل وعلا: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى [طه:56]، (آياتنا) جاءت بالكسر؛ لأنها جمع مؤنث سالم، وجمع المؤنث السالم ينصب بالكسرة نيابة عن الفتحة، وقد أكد بتوكيد معنوي هو كلمة (كل)، ولهذا كلمة (كل) جاءت منصوبة؛ لأنها أكدت اللفظ، واللفظ منصوب.

والمقصود بكلمة (كل) هنا كل الآيات التي كتب الله أن يعطيها موسى حجة على فرعون، وكلمة (كل) لا تفيد عدداً، لكن العدد جاء مبيناً في سورة أخرى، قال الله تعالى: فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النمل:12]، وهذه التسع الآيات قد مرت معنا كثيراً، وهي: اليد والعصا، هذه اثنتان، وقال الله: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:130]، وهذه اثنتان، مع الأوليين أصبحت أربعاً، وقال جل وعلا: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133]، وهذه خمس مع الأربع الأول تصبح تسعاً، وهي المقصودة بقول الله جل وعلا: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا [طه:56].

ومع تلك الآيات المتتابعة المفصلة قال الله: فَكَذَّبَ وَأَبَى ، وقد ذكرنا عند تفسير قول الله جل وعلا: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48]، أن أعظم فائدة أنه لا يخلد في النار إلا من كذب وتولى.

فقول الله هنا: فَكَذَّبَ وَأَبَى ، هي عين قول الله: عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48]، وهي عين قول الله: لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:15-16]، فالتولي والإباء والإعراض بمعنى واحد، وكل من يريد أن يتخذ منهجاً في معرفة عقائد الناس يجب عليه أن يستصحب هذا الأصل قبل أن يجازف في تكفير الناس.

طلق المحيا 19-12-16 01:46 PM

تفسير قوله تعالى: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا... وأن يحشر الناس ضحى)

قال الله تعالى عن فرعون وهو يخاطب موسى: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى [طه:57]، فسمى تلك الآيات سحراً، وخص منها بالذات اليد والعصا، والعصا على وجه الخصوص؛ لأنها انقلبت على هيئة حية وثعبان.

وهذا القول أراد به فرعون إثارة عامة والغوغاء، أن المقصود الأسمى من رسالة موسى وهارون -في زعمه- ليس هو توحيد الله، وإنما إخراج أهل مصر من مصر، وقد كانت القوى السياسية العامة في أرض مصر جعلها فرعون مقسمة ثلاثة أقسام:

القوة الإدارية السياسية جعلها فرعون بيد هامان: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا [غافر:36]، وكان وزيراً لفرعون، والقوة المالية الاقتصادية كانت بيد قارون، والقوة الإعلامية كانت بيد السحرة.

فقال فرعون هنا: أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ [طه:57-58]، حتى يؤكد أن ما جاء به موسى سحر، والسحر له حقيقة بلا شك، وإن كان يخفى على أكثر الخلق، لكن له حقيقة كما هو مذهب أهل السنة، والله جل وعلا ذكره في مواطن متعددة في كتابه، ونص على أن تعلمه كفر، قال الله جل وعلا: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102]، وليس هذا مقام البسط فيه؛ لأننا نبقى أوفياء للآيات، لا نخرج عنها بأكثر مما هو لازم، فنقول: قال فرعون لموسى: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى [طه:58].

هل هو موعد زماني أو موعد مكاني؟ ظاهر كلام فرعون أنه موعد كلامي، لكن جواب موسى جعله زمانياً، وكأنه يضمن أن ينتصر، قال بعض العلماء في تفسير: مَكَانًا سُوًى ، أي: مكاناً وسطاً، ليس ببعيد عني ولا ببعيد عنك، وأظنه بعيداً، وإنما المعنى: أي: مكان ظاهر لا خفية فيه، فحوله موسى موعداً زمانياً: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه:59].

فأثبت موسى من قبل أن يبدأ العراك معهم ثقته بنصر الله، فقال: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ، وأعظم ما يمكن أن يستنبط في هذا المقام: أن دعوة الأنبياء دعوة واضحة لا تحاك في الخفايا، فليست الدعوة أحزاباً سياسية، ولا جماعات غير مرضية، ولا غير ذلك، وليس في دين الله رءوس وغير ذلك، وبروتوكولات خفية، وبروتوكولات يعلمها العامة وغير ذلك، إنما دين الله جلي واضح تعبد الله به الجميع، ولهذا لم يكن عند موسى عليه السلام شيء يخفيه في الدعوة إلى ربه، ولذلك قال: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى .

ويوم الزينة في ذلك الوقت وفي ذلك الزمان كان يوم عيد لهم لا عمل شاق لهم فيه، فهم في فسحة من أعمالهم، وعندما يكون الناس في فسحة من أعمالهم يكونون أقدر على أن يصلوا إلى المطلوب، وأن يأتوا إلى هذا الأمر الذي سيشهدون فيه الصراع، وبعض أهل العلم يقولون: إن الأعياد المنصوص عليها شرعاً: يوم الزينة كان لفرعون وآله، والعيد الذي ذكره الله جل وعلا عن قوم إبراهيم لما رفض إبراهيم أن يذهب معهم، وعيد الفطر والأضحى التي جاءت في السنة، التي جاءت بدلاً من يوم بعاث الذي كان عيداً للأنصار أوساً وخزرجاً في الجاهلية.

ومعلوم أنه كلما كثر حشر الناس، وكان الحضور في رابعة النهار ضحى، والكل سيشاهد ويرى، كان ذلك أدمغ لحجة فرعون، وأظهر وأبين لحجة موسى، وأنكأ لأعداء الله وخصومه.

طلق المحيا 19-12-16 01:48 PM

تفسير قوله تعالى: (فتولى فرعون فجمع كيده ... وقد خاب من افترى)

قال الله تعالى: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [طه:60].

ولا ريب أن ما بين هذا اليوم الذي تواعدا فيه وما بين اليوم الموعد نفسه فترة زمنية، وهذه الفترة الزمنية تسمح للناس بأن يخوضوا، وللخبر أن ينتشر، ويصبح لا هم للناس وليس هناك خبر يسري مثل هذا الخبر، فيصبح الجميع مهيأ لأن يصل، ويريد أن يعرف أين الحق، لكن الناس حتى في معرفتهم للحق يتفاوتون، قال الله جل وعلا: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ، كيف جمع كيده؟ بينه الله في آيات أخرى بقوله: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء:53]، وبعث بعد ذلك أن يأتي السحرة من كل مكان، وهذه الفترة الزمنية علا فيها قدر السحرة؛ لأنه غلب على ظنهم أن أمر فرعون أصبح بيدهم، فالآن القوة السياسية التي كانت بيد هامان تنحت قليلاً، والقوة المالية التي كانت بيد قارون تنحت قليلاً، وجاء دور قوة الإعلام الذي كان متمثلاً في السحرة.

فأراد السحرة لأنفسهم منازل، أرادوا أن يشترطوا على فرعون شروطاً تجعلهم أرفع منزلة بعد الغلبة، قال الله في آية أخرى: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء:41-42]، فأعطاهم فرعون وعوده، وأغراهم بالمال وعلو المنازل، فجاء السحرة وهم مدفوعون دفعاً دنيوياً عظيماً، وجاء الناس، لكن الناس كان الدافع لهم أن يروا انتصار السحرة، قال الله جل وعلا عن الناس: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الشعراء:40].

ولم يأتوا ليعرفوا أين موطن الحق، وأين مكمنه، وإنما جاءوا لينظروا كيف سوف تغلب السحرة موسى عليه السلام وأخاه.

ولكن مع ذلك أنبياء الله يبقون رفيقين بالخلق، قال الله جل وعلا: قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه:61]، (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي: بصنيعكم، وبردكم للرسالة: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ [طه:61]، فخوفاً من نزول العذاب عليهم حذرهم؛ لأنه لا مصلحة للنبي في هلاك قومه، والأنبياء أرحم الخلق بالخلق، وأنصح العباد للعباد، لكن إذا أبى واستكبر ذلك المدعو، وأعرض عن الله، وجعل كلام الله وراءه ظهرياً، وحقت عليه كلمة العذاب؛ فإن كلمة العذاب لا تحق إلا على هالك، فإذا هلك من هلك بعذاب الله فلا ينبغي لمؤمن أن يأسف عليه ولا أن يحزن؛ لأنك لست أرحم بالخلق من ربهم، قال الله عن أنبيائه أنهم يقولون عن أممهم بعد الهلاك: فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف:93]، فلا يصيبهم أسى على قومهم بعد هلاكهم، ولكن الرحمة تبقى ما زال هناك أمل في أن يهتدوا.

وقوله: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ، ولا افتراء أعظم من الافتراء على الله جل وعلا، وأعظمه قول فرعون: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وتصديق هؤلاء الناس لفرعون، واتخاذهم إياه إلهاً من دون الله.

طلق المحيا 19-12-16 01:49 PM

تفسير قوله تعالى: (فتنازعوا أمرهم بينهم... وقد أفلح اليوم من استعلى)

قال الله تعالى: فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [طه:62]، أي: عقدوا مجلساً خاصاً بهم، يتشاورون في أمر موسى وأخيه، في هذه الداهمة التي طغت عليهم: قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [طه:63].

لا يؤثر في الناس شيء أكثر من خوفهم على مراكزهم أن تتبدل، وهذا معنى: وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ، وقد انتهز فرعون هذه المسألة، فأخبرهم أنه ما جاء موسى وهارون إلا ليغيروا الوضع الاجتماعي القائم، وهذا حصل حتى في عهد النبوة، فإن أبا جهل وأبا سفيان كانوا يقولون للناس: إن محمداً يريد من الفئة المستعبدة كـبلال وعمار أن تسود، وأن ترقى، وأن يتغير الوضع الاجتماعي، حتى يصد الناس عن دين الله، ولا أحد منتفع من وضع يريد بذلك الوضع أن يتغير إلا أن يكون رجلاً ربانياً لله، وإلا فإن الأصل أن كل صاحب وضع اجتماعي لا يريد ذلك الوضع الاجتماعي أن يتغير، وكل مضطهد في وضع اجتماعي يتمنى من ذلك الوضع أن يتغير حتى يعلو مكانه، ولذلك فإن الخارجين على أي دولة -من حيث الأنظمة السياسية المحضة- في أي عصر ومكان إنما يأتون للمغلوبين على أمرهم حتى يغيروا مكانتهم.

وكمثال: فإن الدولة الأموية في عصرها اضطهد آل البيت واضطهد الموالي الذين دخلوا في دين الله من غير العرب، فلما قامت دولة بني العباس قامت على هذا الخطأ الذي وقع فيه بنو أمية، فأكثر نصراء العباسيين كانوا من الموالي، فقامت دولة بني العباس على أكتاف الموالي، وصاحب الفضل الكبير في قيام دولة بني العباس هو أبو مسلم الخراساني ، ولم يكن عربياً، وإنما كان ممن استضعفهم بنو أمية واستعبدوهم، ولم يكن لغير العرب سلطان ولا شوكة في عهد دولتهم، حتى مسلمة بن عبد الملك ، وهو أحد أبناء عبد الملك ، وقد كان قرة عين أبناء عبد الملك ، لكنه لم يعط الخلافة؛ لأن أمه لم تكن عربية، فكان الموالي مضطهدين في عهد بني أمية، فأرادوا للمجتمع أن يتغير فتغير، وجاء بنو العباس، فلما جاء بنو العباس وأصبح بيدهم آل البيت والموالي، ولا بد أن يختاروا أحدهما، ففرطوا في العلويين وأبقوا بني العباس، وبقي العلويون مضطهدين حتى في دولة بني العباس، وبقي الطرف الآخر وهم الموالي، والموالي كثر، فالأعراق التي جاء منها الموالي لا تتعدد، ولا بد من اختيار فئة واحدة، فاختار العباسيون في أول دولتهم الفرس، فقدم الفرس، ورفع شأنهم، حتى وصل البرامكة إلى ما وصلوا إليه، ثم لما جاء المعتصم -وكانت أمه تركية- قلب الموازين، وأبقى على الموالي الأتراك؛ لأنهم أخواله، وأضاع الفرس، فساد الأتراك، ثم كلما جاء خليفة قرب مواليه، ولئن أخطأ الأمويون في إبعادهم للموالي باضطهادهم؛ فإن خطأ بني العباس أكبر في أنهم اصطفوا الموالي حتى أصبح هؤلاء يغيرون من شاءوا، ويضعون من شاءوا من الخلفاء.

والمقصود من هذا الاستطراد: أن القرآن يقرأ ليفهم أوضاع الناس من خلاله، فكان فرعون يتخذ هذه المسألة أمام الناس: قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ، وهذه الآية قد أشكلت على العلماء نحوياً، وضربوا فيها مضارب شتى، ولن أقول فيها شيئاً جديداً، لكن الاتفاق على أن (إن) تنصب، وأن اسم الإشارة الأصل أنه مبني، وأنه إذا ثني يأتي منصوباً بالياء، فيخرج من كونه مبنياً إلى كونه معرباً، فأشكل على العلماء أن (هذان) جاءت بالألف، فبعض العلماء قال: (إنْ) هنا مخففة لا تعمل، وما دامت لا تعمل فأصبحت (هذان) مبتدأ، و(لساحران) خبر، وقال آخرون -وهذا قول لبعض الكوفيين-: (إن) نافية، واللام في (لساحران) ليست اللام المزحلقة، وإنما أداة استثناء، والمعنى عندهم: ما هذان إلا ساحران.

وقال آخرون غير ذلك، وتكلم فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه، مع أنه غير نحوي، لكن له فيها كلام نحوي جيد، ومال رحمه الله تعالى إلى أن (إنْ) هنا بمعنى: نعم، الحق أن اللغة تؤيده، وبتعبير أصح: الاستعمال العربي يؤيده، فقد قال عبد الله بن قيس الرقيات -والرقيات ليس نسبه، لكنه تغزل بأكثر من امرأة اسمها رقية، فعرف بـعبد الله بن قيس الرقيات ، وهو ممن يستشهد بشعره من حيث اللغة- قال في بيت شعر له:

بكرت علي عواذلي يلحينني وألومهنه

ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنَّه

وقوله: (إنه) هنا بمعنى: نعم، ولذلك قالوا: (إن) في الآية بمعنى: نعم، فيصبح لا خلاف في الآية نحوياً، ومعناها: نعم هذان لساحران.

لكن رد علي هذا بأن نعم حرف جواب، وليس هناك سؤال هنا، ورد الآخرون بأكثر من ذلك، والمقصود أن نعرف التصور النحوي العام في قضية إعراب هذه اللفظة.

قال تعالى عنهم: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ [طه:64]، أي: حتى يكون ذلك أقوى على قهر عدوكم: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [طه:64]، وبالطبع ثمة مطامع بين أعينهم، مطامع تنقسم إلى قسمين: الإبقاء على الوضع الاجتماعي القائم، وأمل الزيادة فيه، لأن فرعون قال: وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء:42]، فأعطاهم وعوداً، وإن كنا نجزم أنه لو تحقق لهم ما أرادوا فإن فرعون لن يقبل، لكن على العموم هذا وعد لهم.

طلق المحيا 19-12-16 01:51 PM

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي... أنها تسعى)

قال الله جل وعلا: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [طه:65]، من القائل؟ إنهم السحرة، فقد جاء يوم الزينة، وحضر الناس من كل مكان، لا بغية للناس إلا أن يروا الانتصار، وفرعون على الأظهر في مكانه مبجلاً، وموسى وأخوه معهما رب العالمين، وقد قال لهما جل وعلا من قبل: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وموسى هو موسى الذي ربي من قبل في جبل الطور، بماذا ربي؟ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ [طه:17-18]، والآن هو نفسه واقف وفي يمينه العصا التي أخبره الله جل وعلا أنها آية، والله جل وعلا أخبره ولا راد لحكمه، ولا معقب على مشيئته، فوقف موسى كما وقف قبل بين يدي ربه، والعصا في يمينه، وأقبل هؤلاء قد أجمعوا أمرهم صفاً، وقد أفلح اليوم من استعلى.

هنا ننيخ المطايا، فلا أحد أكرم من الله، وتعلّم مما يأتي كيف تتعامل مع الله، فإن الله جل وعلا أرحم الراحمين، ومعنى (أرحم الراحمين) هنا: أنه لا يضيع عند الله من المعروف ولو مثقال ذرة، وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابه، وهذا -والله- ليس من فرائد العلم باعتبار أنه غريب ستجده، لكنه من فرائد العلم إذا طبقته.

فهؤلاء السحرة -رغم المغريات التي بين أيديهم- استحيوا من موسى قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [طه:65]، وهذه العبارة في التلطف مع موسى وعدم جبره على الإلقاء أولاً، أو عدم جبره على الإلقاء آخراً، وقد جعلها الله جل وعلا سبباً في هداية القوم بهذه النية الطيبة التي خرجت على شكل ألفاظ قد لا يشعر بها أحد، لكن هذا ما أراده الله تمهيداً لعطاء رباني لهم بعد ذلك كما سيأتي.

وفي آية أخرى قال تعالى: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [الأعراف:115]، قال تعالى: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، لماذا قال: بل ألقوا؟ أنت عندما تذهب إلى السوق لن تستطيع أن تحكم على أحسن وأجود ما تريد شراءه إلا إذا مررت على السوق كله، فإذا مررت على السوق كله واخترت العينة التي تريدها وجاء أخوك يلومك تقول: إن هذا هو أفضل ما هو موجود، وإذا أراد الله بعبد خيراً أخر ظهوره بين أقرانه حتى ييأس الناس من كل أحد، ويخرج أقرانه كل ما لديهم، فإذا أراد الله بعبد من دونهم فضلاً زائداً عليهم نثر كل منهم ما في كنانته، وأظهر ما عنده، ولم يبق شيء لم يقدمه، ثم أخرج الله جل وعلا وليه الذي يريد أن يقدمه على غيره، فهذا حصل عيناً في قضية موسى، فقد قال لهم موسى: بل ألقوا، فما من حبل ولا عصا إلا وألقوها، وليس الأمر بالهين، قال الله تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ، أي: إلى موسى: مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى .

وقول الله جل وعلا: يُخَيَّلُ يدل صراحة على أنها لم تكن تسعى، وهذا سحر تخييل، وهو أحد أنواع السحر المذكورة في القرآن، وقد ذكر الله في القرآن سحر التخييل، وصورته: أنك ترى الشيء على غير حقيقته بما يريده الساحر أن تراه، وإلا فالأصل أن حقيقة الأمر الذي ترى أنت غير موجودة، فهي حبال وعصي، لكن موسى يخيل إليه أنها تسعى، وبالقطع ما دامت تخيل إلى موسى وأخيه فكيف بالعامة والدهماء الذين يحيطون بحلبة الصراع، سوف سيرون أموراً عجيبة، وقد ذهب بعض المشايخ من الجامعة الإسلامية إلى أحد البلدان الأفريقية، فوجدوا رجلاً معه جمل، والناس يلتفون حوله، فكان هذا الرجل يدخل من دبر الجمل ويخرج من فمه، والناس ينظرون مفتونون، فأحد هؤلاء المشايخ مع زملائه رجع قليلاً عن نفس المكان، ثم قرأ آية الكرسي وهو يتممها وقف لينظر، فوجد الرجل يدخل بسرعة من تحت أرجل الجمل، مع أنه قبل قليل رآه يدخل من الدبر ويخرج من الفم، فأخبر من معه من زملائه الذين ذهبوا للدعوة الخبر، فذهبوا وقرءوا آية الكرسي ورجعوا فرأوا هذا المسكين يمشي بين يدي الجمل ورجليه، ولا يدخل فيه أصلاً؛ لأنه عقلاً مستحيل أن يكون دخل في الجمل، لكنه سحر أعين الناس، وهذا سحر التخييل حجب عن هؤلاء الفضلاء بالآية العظيمة آية الكرسي، وقد ورد في فضلها ما لا يخفى على الكثير، والمقصود أن هذا سحر التخييل.

والسحر الآخر قال الله عنه في سورة البقرة: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا [البقرة:102]، أي: من الملكين مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]، فذكر الله جل وعلا سحر التفريق بين المرء وزوجه، وأن هذا يقع، لكن الله ذكر أنه مقيد بإذن الله تبارك وتعالى، ولا يمكن أن يقع شيء لا قدرياً ولا شرعياً إلا بإذن الرب تبارك وتعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، وكل السحر ضرر، والله يقول: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ [البقرة:102].

خلاصة الأمر: أني أجمع شتات معاني الآيات في أن السحر في القرآن جاء على صورتين: سحر تخييل، وسحر تفريق، ولا أذكر هناك نوعاً ثالثاً موجوداً هنا، وقد ذكر بعض الفضلاء أنواعاً أخر، لكن لا أعلم لها دليلاً من كتاب الله.

الذي يعنينا أن الله جل وعلا يقول: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ [طه:66]، أي: يخيل إلى موسى أَنَّهَا تَسْعَى ، أي: تتحرك.

طلق المحيا 19-12-16 01:53 PM

تفسير قوله تعالى: (فأوجس في نفسه خيفة موسى... ولا يفلح الساحر حيث أتى)

قال الله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67]، دخل الخوف إليه، رغم أنه يعلم أنه سحر، وهذا باعتبار بشريته، لكن هذا ليس مستقراً في قلبه، وإنما هو أمر عارض، وعليه تحمل كثير من الآيات المشابهة، فليس الخوف مستقراً في قلبه عليه السلام، وإنما هو باعتبار الجبلة وأمر عارض، والخوف الحاصل في هذا المجمع لا يمكن أن ينزع إلا بوحي عظيم من رب كريم، فأوحى الله جل وعلا إليه: قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى [طه:68]، فأنت أعلى منهم؛ لأن ما قدموه تلفيق وتمويه، وما ستقدمه تأييد من العلي الكبير، وشتان ما بين الأمرين، فهذا تلفيق تمويه، يخدعون به الناس، أما أنت فما ستفعله هو أمر إلهي ومعجزة إلهيه من لدن ربك.

قال تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69].

قال العلماء: ذكر الله اليمين هنا من باب البركة، واليمين معلوم فضلها بالشرع، ومن دلائل فضلها أن من طرائق القرآن أن الله إذا أفرد وجعل مقابل الإفراد جمعاً دل ذلك على فضيلة المفرد، قال الله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ [النحل:48]، وقال تعالى: وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، فأفرد النور وجمع الظلمات، وأفرد اليمين وجمع الشمائل ليبين فضل النور وفضل اليمين مقابل الظلمات ومقابل الشمائل.

قال الله تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ ، هذا تذكير بالشيء القديم يوم أن كان بين يدي الله، فألقى الكليم ما أمره به البر الرحيم فألقى عصاه، قال الله: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69].

قول الله جل وعلا: حَيْثُ أَتَى ، نفي قاطع كلي لا استثناء فيه أن الساحر لا يمكن أن يفلح أبداً، وأكبر الدلالة على أن السحرة لا يفلحون أنهم أفقر الخلق، ولا يستطيعون أن يحموا أنفسهم من دورية، أو رجال هيئة، وهم بشر مثلهم، لا يملكون من الأعوان أحداً مثلهم مما يدل على ضعفهم وعجزهم، وحتى لو تظاهروا مرة أو مرتين أو ثلاثاً لا يلبثون أن يقعوا.

وما هو الذي حصل مع سحرة فرعون؟ قال الله في آية أخرى: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف:117]، انقلبت هذه العصا إلى حية حقيقية، وليست شيئاً في أعين الناس مخيلة، بل انقلبت إلى حية حقيقية، وهذه الحية الحقيقية لديها القدرة على أن تأكل الحبال والعصي، وهي تراها على أنها حبال وعصي، لا تراها على أنها حيات، فأخذت تأكلها، ولا يعرف الشيء مثل صانعه، وهؤلاء السحرة ينظرون إليها على أنها حية، ويرون حبالهم وعصيهم على أنها حبال وعصي؛ لأنهم لا يسحرون أنفسهم، لكن تبين لهم قطعاً أن ما جاء به موسى ليس بسحر، وأنه مؤيد بربه، والآن ما الذي نفعهم بعد الله؟ تلك الكلمة الطيبة يوم أن أنصفوا موسى بقولهم: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [طه:65].

وفرعون يسمع، لكن لشيء أراده الله، حتى يتم الله عليهم النعمة، وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابه، فمثلاً: انظر إلى هاجر أين كانت؟ كانت خادمة عند ملك كافر، وسارة كانت من أجمل نساء العالمين، وهي أقرب الناس شبهاً بأمنا حواء، فجاء الفاجر ليفعل بها، ونحي إبراهيم، فجلس إبراهيم يدعو، وجلست سارة تدعو، وقد جاء في الحديث الصحيح أنها كانت تقول: (اللهم إن كنت قد آمنت بك، وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فاحفظني)، فحفظها الله، فلما حفظها الله شل ذلك الفاجر وأعيق، فقال لها: ادعي لي ولا أضرك، فدعت له، فلما عاد واطمأن عاد مرة أخرى فرجعت إلى دعائها، فرده الله عنها، فدعت مرة أخرى، فقال لمن أتى بها: إنك لم تدخلني على امرأة، إنما أدخلتني على شيطان، ثم فتن بجمالها، وقال في نفسه أن هذا الجمال محال أن يخدم نفسه بنفسه، فقال: أعطوها هاجر ، وهاجر جارية عنده وهو كافر ظالم، فأعطيت هدية لـسارة ، فخرجت هدية جارية لـسارة تخدمها، ويشاء الله أن سارة يتأخر حملها، فهي قد حملت وولدت إسحاق، لكن تأخر حملها، حتى يصبح في قلب سارة حزن على زوجها إبراهيم أن ليس له ولد، فتطلب منه أن يدخل على جاريتها هاجر بعد أن وهبته إياها، فيدخل إبراهيم على هاجر فيولد من هذه الجارية التي هي بالأمس خادمة عند ملك كافر يخرج من هذا الرحم أب لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله، وهو إسماعيل جد العرب وجد نبينا صلى الله عليه وسلم.

فانظر إذا أراد الله بعبد فضلاً كيف تجري الأقدار، ولو كان قدر الله أن سارة حملت بإسحاق لما طلبت سارة من إبراهيم أن يدخل على هاجر ، لكن أخر حمل سارة من إبراهيم حتى يدخل إبراهيم على هاجر فيكون من هاجر إسماعيل، ويكون من إسماعيل محمد صلى الله عليه وسلم.

والمقصود أن هؤلاء رزقوا خطاباً حسناً، وحتى الخطاب الحسن هذا فضل من الله، لكن حتى تعلم أن الأمور لها أسباب تجري على نسق، والله يقول في هذا حقاً وفي أمثاله: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وهذه نفائس العلم التي تبنى عليها أحداث الزمن، ومرور الأيام، وكيفية أخذ العبر، والدراية بأحوال الخلق، وأن هناك رباً لا رب غيره ولا إله سواه، يحكم في خلقه ما يشاء، ويفعل ما يريد.

طلق المحيا 19-12-16 01:54 PM

تفسير قوله تعالى: (فألقي السحرة سجداً....)

بعد هذا كله ماذا حصل؟ قال الله تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70]، معلوم أن السحرة ما كانوا واحداً أو اثنين بل كانوا كثيرين، فمنهم من قال: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:121]، ومنهم من قال: (آمنا برب موسى وهارون)، ومنهم من قال: آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70]؛ لأنهم لم يعتقدوا أبداً أنهم سيؤمنون حتى نقول: لقد اتفقوا على كلمة واحدة، فاختلف التعبير، وبكل تعبير ورد القرآن، فذكر الله جل وعلا الأساليب التي عبر عنها السحرة.

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما نقل عنه: (كانوا أول النهار كفرة سحرة، وأصبحوا آخر النهار شهداء بررة)، ولهذا لا ييأس أحد من هداية أحد، ولا يدري أحد كيف تكون الخواتيم، فقد خرجوا من بيوتهم وهم يمنون أنفسهم بالعطايا الدنيوية، ويريدون أن يحاربوا الله ورسوله، ثم لا يلبثون أن يؤمنوا ويخروا ساجدين، هذا السجود -كما سيأتي- أورثهم عزة ومنعة؛ لما مر معنا أن الإنسان لا يمكن أن يكون في وضع هو ذليل فيه أعظم من ذلة السجود، وكلما ذللت نفسك بين يدي الله كنت منه قريباً، فلما ذلوا أنفسهم وسجدوا أورثهم الله بذلك السجود الذي سجدوه له عزة وإباء ومنعة، فلما هددهم فرعون لم يبالوا بتهديده؛ بل قالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72].

أربعون عاماً وفرعون يرسخ فيهم أنه رب، وأنه إله، وأنه يقتل ويبطش، كل هذا محي بسجدة ربما لم تتجاوز دقائق معدودات؛ لأن الموروث الذي أخذوه من فرعون هباء منثور وإن كان له حقيقة، أما ما أخذوه من عطاء إيماني، ونور قلبي من الله فإنه يثبت، يقول الله جل وعلا: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وقال: (أما إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن -أي: جدير وحقيق- أن يستجاب لكم).

وهذا اليوم كان يوم زينة لهم، فأبدلهم الله جل وعلا بأن نجاهم في يوم عاشوراء الذي صامه موسى وبنو إسرائيل من بعده، ثم صامه نبينا صلى الله عليه وسلم.

وخلاصة ما ذكرناه: أن الله جل وعلا أخبر في هذه الآيات التي بين أيدينا أنه أظهر الآيات، وأقام الحجج والبراهين على فرعون، لكن فرعون استكبر.. آية بعد آية وهو يردها، ثم وقع منه -حفاظاً منه على الوضع الاجتماعي القائم عنده- أن يخوف الناس، وتواعد مع موسى على يوم هو الذي عرضه، فأجابه موسى، ثم كان ما كان من عرض الأمرين، وقلنا: إن من الخير لك ألا تبدأ أحداً بنقاش حتى لا تشعر بالغلبة، وإنما اطلب من غيرك أن يعرض ما عنده حتى لا يكون ما عندك القصد به العلو على الناس، فنصر الله جل وعلا كليمه وأخاه، فأثر ذلك فيمن يعرف الحق وهم السحرة، ولا يعلم أن أحداً من القبطيين الذين شهدوا ذلك النزاع آمن؛ لأنهم خرجوا من بيوتهم وليس في نيتهم الإيمان، ولم يقع في قلوبهم البحث عن الحق، فقد قالوا: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الشعراء:40].

فكانت منة الله على السحرة دون غيرهم من الناس، وقد ذكرنا أن ابن عباس قال: كانوا في أول النهار كفرة سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة، وقلنا: إن في هذا بياناً لفضل الله ورحمته بالخلق، وأنه لا يدرى كيف تكون الخواتيم، ختم الله لنا ولكم بخير.

هذه جملة ما تحدثت عنه هذه الآيات في سورة طه، نسأل الله لنا ولكم التوفيق والمزيد من العون والرعاية، وسنكمل إن شاء الله في لقاء قادم خبر هذا النبي الكريم مع فرعون.

نسأل الله التوفيق، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، هذا ما تهيأ إيراده، ويسر الله جل وعلا على قوله، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين كرة أخرى.

طلق المحيا 19-12-16 02:12 PM

لما آمن سحرة فرعون بالله تعالى توعدهم فرعون بالقتل والصلب والعذاب الشديد، ولكنه لما وقر الإيمان في قلوبهم لم يبالوا بفرعون وتهديداته، فثبتوا حتى نالوا الشهادة في سبيل الله تعالى، وبعد هذا الحدث أمر الله تعالى موسى أن يخرج بقومه من بني إسرائيل ليلاً، فأتبعهم فرعون وجنوده، فأغرقهم الله تعالى في البحر ونجى موسى وقومه تفضلاً وتكرماً ومنة منه سبحانه عليهم.

طلق المحيا 19-12-16 02:16 PM

تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم...)

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم ما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعل سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد أخبر الله جل وعلا عن سحرة فرعون أنهم آمنوا، قال تعالى: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70] ، وقد حدث هذا التلعثم في القول الآن لأن قضية الإيمان وردت بعدة صيغ، فقد قال بعضهم: آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70]، وقال بعضهم: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122].

وينبغي أن يعلم أن السحرة كثيرون، فطبيعي جداً أن يختلف بعضهم مع بعض في قضية ماذا يقولون، فهم جميعاً آمنوا بإله واحد هو رب العزة والجلال، لكن التعبير عن هذا الإيمان اختلف لتعددهم، فبعضهم قال: آمنا برب موسى وهارون، وبعضهم قال: آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70] فقدم هارون باعتباره الأكبر، ومنهم من قال: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122] ، لكن الذي يجمع هؤلاء السحرة أنهم جميعاً آمنوا بالرب تبارك وتعالى.

هذا الأمر وقع على ملأ من الناس، وقد ذكرنا سابقاً أن موسى عليه الصلاة والسلام لا يخفي شيئاً عن الناس في دعوته، وقلنا: إن سمات الأنبياء وأتباعهم أنهم يدعون جهاراً ولا يخشون أحداً، بمعنى: أنه ليس هناك شيء يبيتونه لأنفسهم حتى يضعون دينهم في الخفايا، ولهذا قال لهم موسى: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه:59]، فكانت دعوته جهاراً، ولما حصل الموقف وألقى السحرة ألقى موسى عصاه كما أخبر الله: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف:117]، ثم قال الله جل وعلا: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70] ، فلما آمنوا انقلبوا من كونهم في أول النهار كفرة أشراراً إلى كونهم أتقياء أبراراً، وهذا يدل على أن الهداية بيد الله.

ثم قال الله جل وعلا على لسان فرعون: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه:71] ، هذا القول وردة الفعل الفرعونية إلى اليوم والناس في حياتهم الاجتماعية إذا رأوا رجلاً متغطرساً يقولون: هذا فرعوني، وهذا مأخوذ من دأب فرعون وقوله وسياسته في الناس، فما اكتفى أن يدعي أنه إله حين قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقد جاء في الأثر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبغضت أحداً بغضي لفرعون يوم سمعته يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]).

ومن المعلوم أنه من كذب على الله هين عليه أن يكذب على الخلق، ولهذا قال فرعون: آمَنْتُمْ لَه [طه:71] الهمزة من أصل الفعل وهي همزة استفهامية، قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه:71] حتى الإيمان بالله في ظنه يحتاج أن يستأذنوه، ومعلوم أنه حتى لو استأذنوه لن يأذن لهم، وهم غير ملزمين شرعاً بأن يستأذنوه، لكن حتى لو استأذنوه فإنه لن يأذن لهم، وقوله هذا يدل على علوه وتكبره.

ثم قال: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71] انظر كيف قلب الأمر وجعل موسى معلماً لهم، وهو يعلم أن موسى ما كان ساحراً طرفة عين، وأنه هو الذي بعث في المدائن حاشرين ليأتوه بكل سحار عليم، لكنه -كما قلنا- من تجرأ في الكذب على الله بدهياً أن يكذب على غيره.

ولهذا قال هرقل لـأبي سفيان في قصة محاورتهم في أرض هرقل، قال له عن النبي صلى الله عليه وسلم: أجربتم عليه كذباً؟ قال: لا، فقال هرقل -بعقله لا بنقله-: ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله. فجعل ذلك أمارة على صدق نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.

إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71]، هذا وصف من فرعون له، ثم جرى مجرى التهديد الفعلي بعد أن ذكر القولي فقال: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [طه:71] ، وجاءت (أيدي) بالنصب لأنها مفعول به فظهرت العلامة على الياء، وهذا نوع من التهديد، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ [طه:71] ، والصلب: هو الرفع والحمل، ويكون غالباً على ألواح وخشب، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] ، ومعلوم قطعاً أن الصلب هنا إنما كان على جذوع النخل. قال بعض العلماء كـأبي حيان في البحر المحيط: إن فرعون نقر لهم في النخل وأدخلهم فيها. وهذا القول منه ليفر من قول الله جل وعلا: على جذوع النخل)، لكن هذا القول أكثر أهل العلم على خلافه.

وإنما كان ينبغي أن يعلم أن حروف الجر في اللغة ينوب بعضها عن بعض. هذا أمر، الأمر الثاني: قال بعض من يعنى باللغة في القرآن: أنه قال: لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] ليبين يسر الأمر عليه، يعني: أراد فرعون أن يقول: إن كوني قادر على أن أصلبكم في جذوع النخل هذا أمر هين علي؛ لأن كلمة (على) تعني الفوقية والاستعلاء، فكأنه يحتاج إلى من يعينه ليرتفع، فحاد عنها فرعون -أي: أنه حاد عن مثيلتها لأنها ليست في لغته، لكنه حاد مثيلتها في لغته- وإنما عبر بحرف الجر (في) ليبين سهولة الأمر عليه.

ثم قال: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا [طه:71] ، يعني: أنا أو أنتم أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [ طه:71]، وهذه زفرات يطلقها ذلك الذي لعنه الله كردة فعل يائسة لما رأى إيمان السحرة.

طلق المحيا 19-12-16 02:17 PM

تفسير قوله تعالى: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات... والله خير وأبقى)

لقد مر معنا في تفسير سورة القلم أن السجود من أعظم ما ينال به العبد عظيم اليقين، وهذه الأحداث شاهدة على ذلك، قال الله جل وعلا على لسان السحرة لما هددهم فرعون -وهذا كله في أرض الموقف أرض المجادلة- قالوا له بعد أن قال: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:71-72] ، فألقى الله جل وعلا في قلوبهم الإيمان واليقين ووجدوا حلاوته، رغم أنه ليس لهم أياماً ولا شهوراً ولا أعواماً في الطاعة والإيمان والعمل الصالح، لكن تلك الحظوة الألهية نالوها ببركة سجودهم، حتى يعلم أثر العمل الصالح على قلب العبد، ثم ردوا عليه بطريقته كما كان يطلق الأفعال على صيغة الأمر، قالوا له: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72] ، أي: فافعل ما شئت، ثم بينوا له ضعفه فقالوا: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72] ، قد يكون الله أعطاك سلطاناً على الدنيا، لكن ليس لك سلطان على حياتنا في الآخرة والدنيا، وسواء قضيت علينا أو لم تقض علينا فمردنا أصلاً إلى الموت فلا نخوف بشيء، لكن العبرة بالحياة الأخروية فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72] ، وجاءت (الحياة) بالنصب لأنها بدل من اسم الإشارة (هذه).

وهذا قاعدة نوحية تأتي دائماً: كل اسم معرف بـ(ال) بعد اسم الإشارة فيعرب بدلاً عنه، فما يقال في إعراب اسم الإشارة الذي قبله يقال في إعراب الاسم الذي بعده، وهذا نظيره: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ مفعول به، الْحَيَاةَ بدل من (هذه).

ثم قالوا له: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73]، وعبارة الإكراه هنا مأخوذة من أن فرعون سول لهم هذا الأمر بأن مناهم ووعدهم وقال: وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء:42] ، فاعتبر هذا شرعاً نوع من الإكراه، قال الله جل وعلا: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ [طه:73] ، ثم قارنوا بين ربهم وبين فرعون فقالوا: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73] ، ولا ريب أن الله خير وأبقى.

وهذا منهاج للمؤمن في كل ما يأتيه، فلا يكن في شيء يتعلق بالله وفي شيء يتعلق بمخلوقاته، فثق أن ما عند الله جل وعلا خير لك وأبقى، وهذه من الطرائق التي ربى الله جل وعلا بها رسله عليهم الصلاة والسلام، وهذبهم بها، وثبت قلوبهم جل وعلا بها، أنه أعلمهم أن الآخرة هي الباقية، وهي التي يعمل الخلق لها، قال صلى الله عليه وسلم لما رأى الأنصار والمهاجرين يبنون المسجد: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة).

وهذا أمر يستحضره المؤمن، وتعلمون قصة العلامة الألباني رحمه الله لما بشر بفوزه بجائزة الملك فيصل العالمية أراد بعض الصحفيين أن ينال حظوة عنده بأن يجري له مقابلة صحفية، ومعلوم أن جائزة الملك فيصل جائزة عالمية يرقبها كل عالم سواء في خدمة الإسلام أو في غيره، فلما بشر بها قال الشيخ وهو يبكي هاتفياً: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73] ، وقال: وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى [الضحى:4] .

فمهما أعطي الإنسان من الدنيا ينبغي عليه أن يستحضر هذا الأمر العظيم، وأن ما عند الله خير وأبقى، حتى لا يفتن بما أعطاه الله جل وعلا إياه في الدنيا.

طلق المحيا 19-12-16 02:21 PM

تفسير قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرماً... وذلك جزاء من تزكى)

قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا [طه:74] ، هذه يمكن أن تكون من كلام السحرة المؤمنين، ويمكن أن تكون تذييلاً من كلام الله جل وعلا، فهي تحتمل الأمرين، قوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا [طه:74] ، أي: كافراً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74] ، وهذا أحد أنواع عذاب جهنم أن الإنسان فيها لا ينتهي، وفي نفس الوقت لا يبقى حياً حياة منعمة.

والأمر الثاني: ذكره الله في سورة أخرى أنهم قالوا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21] ، متى ينفع الصبر؟ إذا كان يعينك على تجاوز الأذى، لكن إذا كان الصبر لا ينفع فإنه يصبح في ذاته عذاباً، وهذا -والعياذ بالله- حال أهل النار.

قال الله جل وعلا: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74] ، وكما في سياق القرآن في أكثر من موضع إذا ذكر الله أهل النار يذكر أهل الجنة، وإذا ذكر أهل الجنة غالباً يذكر أهل النار.

وقوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74]، هذه نحوياً جملة شرطية بدأت بـ(من) وهي اسم شرط، ولذلك (يأت) حذفت ياؤها؛ لأنها فعل شرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وقوله سبحانه: فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ [طه:74]، الفاء واقعة في جواب الشرط، وسوغ أن يبتدئ جواب الشرط بالفاء أن جواب الشرط جملة اسمية.

قال تعالى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:75] ، قوله: (ومن يأته مؤمناً) أي: حال كونه مؤمناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:75]، الجنة والنار كلاهما يقال في حق أهلها: درجات، لكن تنفرد النار بأن يقال في حقها: دركات، فيقال: لأهل النار درجات؛ نص عليه القرآن في سورة الأنعام، لكن لا يقال لأهل الجنة: دركات، بل هذا الاسم وقف على أهل النار.

قال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:76] ، وقد مر معنا معنى التزكية بالتفصيل في قول الله جل وعلا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

طلق المحيا 19-12-16 02:22 PM

تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي... وأضل فرعون قومه وما هدى)

قال تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [طه:77] ، ذكر الله جل وعلا هنا خروج موسى عليه السلام من أرض مصر، وقد جاء ذكر الخروج في سورة طه موجزاً وفصل في سورة الأعراف ويونس وغيرهما.

والقرآن سماه الله جل وعلا مثاني بمعنى: أن الأخبار والقصص فيه غالباً تتكرر، فما يوجزه الله في سورة يبسطه في سورة أخرى، وأحياناً يكتفي الله جل وعلا بالبسط في سورة واحدة ولا يثنيه، كما في قصة نبينا يوسف؛ فإنها لم تتكرر في القرآن، بخلاف قصة موسى فإنها ذكرت في أكثر من موضع وفي كل موضع تساق حسب السياق العام للسورة.

وقوله: (أن أسر) دل على أنهم خرجوا ليلاً؛ لأن السرى لا يكون إلا في الليل، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا [طه:77] ، والضرب هنا حقيقي، وهو أن موسى عليه الصلاة والسلام ضرب البحر بعصاه، والبحر بالاتفاق هو بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر، لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [طه:77]، أي: لا تخاف أن يدركك فرعون، ولا تخشى غرقاً من البحر، فلا فرعون يقدر له أن يدركك هو وجنده، ولا البحر قادر على أن تكون غريقاً فيه، وإنما سينجيك ربك من إدراك فرعون ومن موج البحر وما يكون فيه من الغرق والهلاك.

وقد جاء هذا الأمر مفصلاً، ولعله يأتي، لكن بالجملة نقول: موسى أخذ قومه، ولما وصل إلى شط البحر قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62]، فأمره الله أن يضرب البحر فضربه قائلاً: انفلق يا أبا خالد! وهي كنية تقولها العرب للبحر، وورد -والعلم عند الله- أنه قال: باسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان.

فانقلب البحر يبساً كما أخبر الله، وانشق اثنتي عشرة طريقاً على قدر أسباط بني إسرائيل، فعبر موسى والمؤمنون الذين معه حتى انتهوا إلى الضفة الأخرى، وجاء فرعون فتردد في العبور، وبقي ينتظر خوفاً من أن يعود البحر بحراً، فلما وصل موسى والمؤمنون الذي معه إلى الضفة الأخرى واطمئن موسى أنه قد سلم، وأن فرعون يحاول أن يدركه، أراد أن يضرب البحر كرة أخرى ليعود بحراً فيقطع الطريق على فرعون، فأوحى إليه رب العزة: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا [الدخان:24] ، أي: ساكناً، فبقي البحر ساكناً، وامتنع موسى عن ضربه بأمر الله، وتشجع فرعون ليهلكه الله جل وعلا وظن أن البحر سيبقى أبدياً على هذه الحال، فعبر هو وجنوده، فلما اكتمل دخولهم في البحر أمر الله البحر أن يعود بحراً، فأغرق فرعون فقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90] ولم يقل: آمنت بالله، وإن كان إيمانه صحيحاً، والله جل وعلا كما قال أهل العلم: أثبت الإيمان لفرعون لكنه لم يقبله منه، قال الله تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91]، فذكر أنه قبل لم يكن على هذه الحال.

وقد جاء في الأثر أن جبريل عليه السلام كان يضع الطين في فم فرعون مخافة أن يقول فرعون كلمة يستجلب بها رحمة الله، وقد مر معنا كثيراً أن رحمة الله جل وعلا لا تستجلب بشيء بعد الإيمان والعمل الصالح بأكثر من الدعاء، والإكثار من المدح والثناء على الله يستدر به العبد ما عند الله جل وعلا، فإن الرب تبارك وتعالى لا أحد أحب إليه المدح من نفسه، ولذلك مدح ذاته العلية.

وهذا أمر مشاهد في الكتابة والسنة، فإنه كم من عبد صالح ذكر الله جل وعلا دعوته، كدعوة ذي النون، وكقوله صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول في دعائه: اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال: (لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً) .

والمقصود من هذا: أن الله جل وعلا تستدر رحمته ويستجلب ما عنده من الفضل والإحسان بكثرة الثناء عليه، وانكسار العبد بين يديه، وهذا الأمر كان مظنة أن يأتي فرعون، وإلا لو تقرر عند جبريل أن الله لن يرحم فرعون قطعاً مهما قال لما كان هناك حاجة لأن يضع جبريل الطين في فم فرعون، وهذا يدل على أن رحمة الله جل وعلا واسعة، وأنه لا يهلك على الله جل وعلا إلا هالك، وأن العاجز حقاً من لم يجد ألفاظاً ولا كلمات يعبر بها عن مسكنته وانكساره بين يدي الرب تبارك وتعالى.

وتعظيمك لله جل وعلا لا بد أن يلازمه عدم مبالغتك في مدح الخلق وتعظيمهم، ولهذا تخرج منا أحياناً من غير شعور كلمات نقولها لمن نحب في التعظيم دون أن نشعر، فيسمع البعض إذا ألقى كلمة في محفل أو أمام أمير أو ذي سلطان يقول: إن الكلمات تقصر، وإن العبارات تعجز.. وهذا أمر محرم؛ بل خطأ عظيم؛ لأن الكلمات العربية إذا وسعت كلام الله فمن باب أولى أن تسع غيره، إذا وسعت ألفاظ العربية مدح الرب جل وعلا فمن باب أولى وأحرى أن تسع مدح غيره، لكن الناس إذا وصلوا إلى من بيده العطايا أو من يخشى منه نسوا أمراً من جانب الله، لكن على الإنسان أن يكون متوازياً، فيعرف لأهل القدر قدرهم ولأهل الفضل فضلهم، لكنه يبقى معظماً التعظيم المطلق لربه تبارك وتعالى.

يقول حافظ عن اللغة العربية:

وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات

والمقصود أن الله جل وعلا جعل قرآنه بلسان عربي وفيه الثناء على ذاته العلية جل وعلا، فكيف بالثناء على المخلوقين؟! من باب أولى أن تتسع له اللغة، ويوجد فيها من العبارات والألفاظ ما نمدح به من نحب أو نجل أو نعظم أو نخشى.

المقصود من هذا كله: أن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام عبر بقومه البحر، وبعد أن عبر بهم البحر أصبحوا في أرض سيناء، قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [طه:77-78]، (غشي) بمعنى: غطى.. أي: غطى فرعون وجنوده.

وإذا جاء الفعل وجاءت بعده (ما) مرتبطة بالفعل الذي بعدها -التي تسمى ما المصدرية أو ما الموصولة أحياناً على خلاف بين النحاه- فاعلم أن المقصود التعظيم، ومنه قول الله جل وعلا: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:16] ، هذا أسلوب تعظيم وتفخيم وتهويل، والله يقول هنا: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [طه:78-79].

طلق المحيا 19-12-16 02:23 PM

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم.... ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى)

منَّ الله على بني إسرائيل بعد ذلك بقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:80-81]، إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهذه ملاطفة من العلي الكبير في خطاب أولئك القوم، فنسبهم إلى جدهم الأكبر الذي ينسبون إليه، وهو نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.

والرب تبارك وتعالى عندما ينادي عبادة، إما أن ينسبهم إلى أب عام كآدم، أو أب خاص كيا بني إسرائيل، أو يناديهم نداء كرامة، وهذا في أكثر الآيات المدنية، كقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104] ، فهذا يسمى نداء كرامة، أو يناديهم نداء عاماً لا ينسبون فيه إلى أب ولا يذكرون فيه بكرامة، ومنه قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، فقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الحج:1] نداء عام يدخل فيه البر والفاجر، والمؤمن والكافر، ولا يمكن أن نصطلح على أنه نداء كرامة؛ بل هو نداء عام.

فقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ [طه:80] ، يمن الله جل وعلا على بني إسرائيل بما كان من نجاتهم من فرعون، قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ [طه:80] الذي هو فرعون، وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [طه:80] ، أي: جبل الطور، وهو جبل واحد، و(الأيمن) جاءت منصوبة و(الطور) جاءت مجرورة لأنها مضاف إليه، و(الأيمن) ليست صفة للطور، بل هي صفة للجانب؛ لأنها لو كانت صفة للطور لكان المعنى: أن هناك طوراً أيمن وطوراً أيسر، وطوراً في الوسط.. ولا يوجد إلا جبل طور واحد، لكن هذا الجبل -جبل الطور المبارك- له عدة جوانب.

وأصلاً كلمة أيمن ليست جهة ثابتة؛ لأن الثبات في اليمين واليسار غير وارد، فمثلاً أنا أجلس الآن على هذا الكرسي وهذه الجهة عن يميني، لكن لو حولت الكرسي فستصبح هذه الجهة عن يساري، فالأيمن غير وارد، لكن الله جل وعلا يخبر عن الجهة التي جاء منها موسى عليه الصلاة والسلام.

إذاً: الأيمن صفة لجانب، وجانب نكرة، والأيمن معرفة، لكن الذي جعل جانب معرفة هو الإضافة، فلما أضيفت كلمة جانب إلى كلمة الطور اكتسبت التعريف، فلما أضحت معرفة حق لها أن توصف بكلمة الأيمن.

وهنا مسألة نبه عليها بعض العلماء وذكرها الدكتور صالح العايد في كتاب نظرات لغوية نقلاً عن صاحب البرهان في علوم القرآن، وهي قضية دقيقة جداً استنبطها العلماء في قضية جانب الطور الأيمن، فالله جل وعلا ذكر هنا أنه واعد موسى جانب الطور الأيمن، لكن لما تكلم عن نبيه صلى الله عليه وسلم قال: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ [القصص:44] ، فلماذا لم يذكر الله تعالى الأيمن هنا؟ قالوا: لأنه يوجد هنا نفي، وكملة (الأيمن) فيها تشريف، لكن كلمة (الغربي) لا تعني شرفاً بذاته، نقول: جهة اليمين جهة شرف، لكن الغربي والشرقي والشمال والجنوب ليس فيها في ذاتها شرف، فلما أراد الله النفي عن نبيه ملاطفاً لنبيه لم يصفها بالأيمن؛ لأنه لو وصفها بالأيمن فيكون قد نفى اليمن عن نبيه، والله لا يريد هذا، فقال جل وعلا: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ [القصص:44] ، إجلالاً وإكراماً وملاطفة لرسوله صلى الله عليه وسلم.

وقبل أن أكمل هذا أقول: علم التفسير مواهب يعطيها الله جل وعلا من يشاء، والناس قدرات، ويظهر أثر كل ذي قدرة في تفسيره، فمن كان ذا قدرة في الاستنباطات اللغوية سيظهر هذا جلياً في كلامه، ومن كان قوياً في الفقه مثلاً سيظهر هذا في كلامه.. وهكذا، فقبل أن تبحث عن تفسير الآية ابحث عما تريده من الآية، فإذا بحثت عما تريده من الآية سيسهل عليك أن تبحث في كتب التفسير، لكن هذا لا بد أن يسبقه أن تكون ملماً بكتب التفسير، وبعضها يظهر من عنوانها، فالكتاب الذي ذكرناه اسمه: نظائر لغوية، فواضح أنه يبحث في اللغة، وأحكام القرآن لـابن العربي واضح أنه يتكلم في الفقهيات، فأحياناً من العنوان يظهر، وأحياناً من كثرة المطالعة والدربة تستطيع أن تعرف مناحي المفسرين فيسهل عليك بعد ذلك أن تصل إلى مرادك.

نقول: قال الله جل وعلا: وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [طه:80] ، يكاد أهل العلم رحمهم الله يجمعون على أن المقصود بالمنَّ شيء أنزله الله من السماء عليهم كالطل يجدونه على رءوس الأشجار أشبه بالعسل الأبيض، يتجمع كالصمغ ثم يأخذونه، وهو نوع من الحلوى رزقه الله جل وعلا بني إسرائيل، وقالوا في السلوى: إنها طير السمان المعروف.

هذا ما ذكروه، لكن جاء في الحديث أن الكمأة من المن، والذي يظهر -والعلم عند الله- أن ما قاله الأفاضل الأكابر في هذا قوي جداً لتظاهرهم عليه، ومن الصعب أن يخطئ الإنسان جمعاً، لكن فيما يبدو أن المنَّ هو الكمأة التي تظهر الآن من غير ما زرع، تكون مقرونة بوقت المطر فهذه منه؛ لأنه ليس فيها جهد لأحد؛ فلأجل ذلك غالب الظن أنها مقصودة إن لم تكن هي كلها، فتكون في الحديث بيانية أو على الأقل نوعاً مما أخرجه الله جل وعلا لبني إسرائيل.

والمقصود: أن بني إسرائيل عندما خرجوا مكثوا في الصحراء فاحتفى العلي الكبير بهم إكراماً لأنبيائهم، ولما أراده الله جل وعلا من ابتلائهم أنزل عليهم المن والسلوى، قال الله جل وعلا: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [طه:80]، وهذا أمر للإباحة كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ [طه:81] بتجاوز الحد فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي [طه:81] ، ثم قال الله تذييلاً لهذا الأمر: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81] ، والهوى هنا المقصود به: السقوط المرُيع، والمقصود به الهلاك الفظيع لكل من حل عليه غضب الله تبارك وتعالى.

وهنا أتوقف قليلاً لأقول: إن كلمة (هوى) في القرآن وردت بمعنى السقوط، قال الله جل وعلا: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] ، وهنا نستبعد تفسير بعض العلماء لقول الله جل وعلا: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1] ، بأن المقصود به نزول القرآن، فإن بعض أهل العلم يقول: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1] المقصود أن القرآن نزل منجماً، فيجعل (هوى) بمعنى نزل، لكن استخدام لفظة (هوى) في القرآن لا يساعد على هذا، ومنه هذه الآية: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81].

طلق المحيا 19-12-16 02:25 PM

تفسير قوله تعالى: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى)

ثم قال البر الرحيم يذكر غضبه ويذكر رحمته: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، هذا القول الرباني من الله جل وعلا جاء بعد قوله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:81-82] ، وقد يظن الناس من لم يؤت بضاعة في التفسير أن الأمر مرتب ترتيباً حرفياً، وإنما المقصود: أن الإنسان إذا وقر في قلبه الإيمان والأسف على ما كان منه من عصيان، ولزم الصراط المستقيم، هذا الذي هو أهل لأن يغفر الله جل وعلا له.

لكن الآية لا تعني الحصر، فإن الرب جل وعلا قد يغفر من غير ما سبب من العبد، وبعض أهل العلم -كما في شرح العقيدة الطحاوية- أجمل أسباب المغفرة إلى ثلاثة عشر سبباً، وجعل خاتمتها وأكملها بغفران الله تبارك وتعالى من غير سبب من العبد.

لكن هنا الله جل وعلا يذكر أعظم أسباب غفران الذنوب: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] ، وعلى هذا فإن الإنسان وهو يعمل العمل الصالح لا بد أن يكون في نفسه مستصحباً أنه يريد بالعمل الصالح غفران الذنوب، كما قال الله قبل ذلك على لسان السحرة: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا [طه:73] ، ونقول مراراً: إن المرء لا يحمل فوق كاهله شيئاً أشد عليه من ذنبه، ولهذا علق الله جل وعلا جوائز فضائل الأعمال بغفران الذنوب، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحج وأخبر عما يجده العبد من عناء فيه، وأنه عبادة يجتمع فيها البدن والمال والقلب، قال صلى الله عليه وسلم: (رجع كيوم ولدته أمه)، فعلقها بمغفرة الذنوب؛ لأن الصالحين لا يؤرقهم شيء أعظم من أنهم يسألون الله جل وعلا غفران ذنوبهم.

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما

ولما أراد الله أن يخبر ببعض كرامته على نبيه صلى الله عليه وسلم قال له: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2] ، وهو عليه الصلاة والسلام يعلم الصديق فيقول له: أن يقول في دعائه: (اللهم إنني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).

والمقصود: أن غفران الذنوب من أعظم ما يطلبه العبد من ربه تعالى.

إلى هنا ينتهي وضع عام في حياة بني إسرائيل ذكره الله جل وعلا، ثم يذكر الله تبارك وتعالى بعده مسارعة موسى -كما سيأتي تفصيلاً- إلى لقاء ربه.

طلق المحيا 19-12-16 02:27 PM

حداث حدثت لبني إسرائيل قبل أن يخرج موسى من أرض مصر

لكن نقف هنا لنقول في جملة هذه الآيات: تنحصر هذه الآيات في الحديث عما كان من إيمان السحرة، وهو أول نقلة نوعية في دعوة موسى إلى استقرارهم في أرض سيناء، وهذه المرحلة التاريخية من انتصار موسى إلى استقرارهم في أرض سيناء مرت بأحداث لم تذكرها الآية هنا من تلك الأحداث، فالقرآن يفسر بعضه بعضاً.

إن موسى قبل أن يرتحل من أرض مصر أمر قومه أن يجعلوا بيوتهم قبلة، واختلف العلماء في معنى وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87] ، فبعضهم قال: إنه أراد الصلاة، وعندي أن هذا بعيد؛ لأن الله قال بعدها: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس:87] ، لكن الذي أفهمه -والعلم عند الله- أن المعنى: اجعلوا بيوتكم متقاربة مميزة في ناحية البلدة حتى تستطيعوا أن تذهبوا إلى البحر عندما يأذن الله جل وعلا برحيلكم من أرض مصر.

والمقصود: أن موسى استقر في أرض مصر طويلاً قبل أن يرحل ويتركها إلى أرض الطور، وفي هذه الأثناء وقعت ما وقعت من الآيات، قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ [الأعراف:133] ، هذا وقع ما بين إيمان السحرة وما بين خروج موسى من أرض مصر، وقد ذكرت السنة الصحيحة أن موسى أخذ معه جسد يوسف، وهذا لم يأت في القرآن، لكن جاء نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حسنه وصححه بعض أهل العلم.

كذلك من الأحداث التي وقعت في هذه الحقبة التاريخية من إيمان السحرة إلى خروج موسى: قضية قارون وما كان منه، فإن قارون والخسف به وهلاكه إنما وقع في أرض مصر ولم يقع بعد ذلك، فهذه أحداث تاريخية أجملها القرآن وجاءت مفرقة، وقصة قارون قد ذكرت في سورة القصص، وذكرت وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87] في سورة يونس، وبعضها ذكر في سور أخر، وبعضها ثني وكرر، وبعضها لم يذكر إلا مرة واحدة.

والمقصود: أن تفهم أن هذا السياق يسمى إيجاز حذف، ذكر الله جل وعلا فيه منته على بني إسرائيل، وهذا الاحتفاء الإلهي ببني إسرائيل مبني على أن الله جل وعلا جرت سنته في خلقه أنه لا بد للناس من أئمة ذوي روح، بمعنى: أئمة في العلم والهداية، والله جل وعلا ينقل هذا الأمر من أمة إلى أمة، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، ولكن كلما استمسكت الأمة بهدي السماء كانت حقيقة بأن تقود العالم، والله جل وعلا قد قال عن بني إسرائيل: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32].

ومن الخطأ أن بعض الناس ممن يغلب عليهم العمد أو السهو أحياناً غير المقصود يقولون: يا أحفاد القردة والخنازير! فهي من حيث الحقيقة الخلقية لم يجعل الله لمن نسخهم حفدة، فهو أمر منتفي.

والأمر الثاني: أن بني إسرائيل ينسبون إلى نبي عظيم كريم، والله جل وعلا قال عنهم: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32] ، لكن ظهر فيهم قتل الأنبياء، وتبديل كلام الله، وقولهم: قلوبنا غلف، واتهامهم لمريم، ومحاربتهم لعيسى ومحاولة قتله، هذا هو الذي أضاعهم وأذهبهم، فالإنسان إذا تكلم يتكلم بهدي من القرآن لا بعاطفة تؤججه، والله تبارك وتعالى يقول: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] ، إلى غير ذلك مما يبين الله جل وعلا فيه الإنصاف عند الخطاب.

طلق المحيا 19-12-16 02:29 PM

تفسير قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى... وعجلت إليك رب لترضى)

قال الله جل وعلا بعد ذلك لموسى وهو في جبل الطور: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى [طه:83] ، هذا يفهم منه أن موسى استبق قومه إلى جبل الطور ليتحقق الوعد المكاني والزماني، فقد ضرب الله له ميقاتاً زمانياً ومكانياً، الميقات الزماني أربعون يوماً، والميقات المكاني جبل الطور، فسبق موسى قومه، وجعل أخاه هارون يخلفه فيهم، فسأله ربه: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى [طه:83] ، و(ما) هذه استفهامية قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي [طه:84] ، قال بعض العلماء: إن هذا الجواب غير مطابق للسؤال، فقد كان ينبغي أن يقول: أعجلني كذا وكذا، ولا يقول: إن قومي قريبو عهد بي ومكان، لكن قالوا: لماذا احتار موسى في الجواب؟ قالوا: لأنه هاب معاتبة الله جل وعلا له، فلم يجد جواباً يخاطب به ربه، والمقصود أن معاتبة الله جل وعلا لموسى وسؤاله إياه أوقع في موسى الرهبة والخوف، فكان جوابه غير مطابق للسؤال، وإذا صح هذا التأويل الذي اختاره بعض أهل العلم فحري بنا أن نقول: إذا كان هذا النبي الكريم الذي لم يقترف ذنباً أصابه ما أصابه من الذهول لما عاتبه ربه، فكيف بمن يلقى الله جل وعلا وقد عصاه، وتجاوز حدوده، وانتهك حرماته!! نسأل الله السلامة والعافية.

قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي [طه:84] ، أي: غير بعيد عني وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] ، هذه تصلح جواباً، وقد قال العلماء بناءً على هذه الآية: إن العجلة مذمومة إلا إذا كانت مسارعة في الخيرات، وقوله: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] ، فيه أن طلب رضوان الله جل وعلا من أعظم المقاصد وأجل المطالب، ولا توجد عطية أصلاً بعد رضوان الله، قال الرب تبارك وتعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَر [التوبة:72] ، وكلما كانت بغية المرء أن ينال رضوان الله جل وعلا كان من أعظم الساعين في أسباب التوفيق، فوالله إنك لن تخرج من دارك تطلب أمراً أعظم من رضوان الله.

فكلما غلب على ظنك في عمل أن فيه رضوان الله فلا تتردد في السعي إليه عاجلاً أم أجلاً.

طلق المحيا 19-12-16 02:30 PM

تفسير قوله تعالى: (فإنا قد فتنا قومك من بعدك... فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي)

قال الله تعالى لموسى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه:85] ، السامري من مبهمات القرآن، ولم يذكر إلا في سورة طه، وشخصيته جاءت في القرآن من حيث الجملة شخصية مبهمة، سواء في أول أمرها أو في خاتمة مطافها، وقد نسب الله الفتنة هنا إليه، ونسب الضلال إلى السامري ، ويجب أن يحرر: أن الهداية والضلال بيد الله، فما السامري هنا إلا سبب جعله الله جل وعلا، كما جعل الملكين فتنة لبني إسرائيل بعد موسى: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] ، فالشيطان مثلاً جعله الله جل وعلا من أسباب الغواية، والمال جعله الله جل وعلا فتنة، والنساء جعلهن الله جل وعلا في حق بعض الرجال فتنة.

والمقصود من هذا: أن الهداية بيد الله، أما هذا السامري فهو كان سبباً في غواية بني إسرائيل كما سيأتي التفصيل في موضعه، لكن الذي يعنينا هنا أن الله جل وعلا قال: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه:85] ، الخطاب هنا لموسى وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:87-88] ، أي: أنه صنع لهم عجلاً له خوار، والعجل: ولد البقر، (وله خوار) الخوار هو صوت العجل، فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، (نسي): فعل ماض مبني على الفتح، ومن الذي نسي؟ الفاعل غير مذكور، فيصبح المعنى يحتمل عدة تأويلات، منها: أنهم قالوا: فنسي موسى أن يخبركم أن هذا إلهكم، هذا مراد أراده السامري ، ومراد آخر: فنسي موسى أي: نسي أن هذا الإله وذهب يطلبه في مكان آخر، وهذا أقوى الاحتمالات، وقد ذكرت احتمالات أخر لكن هذه أقواها.

فالله جل وعلا ابتلى بني إسرائيل في الفترة التي تأخروا فيها عن إدراك موسى بأن عبدوا العجل، وعبادتهم للعجل هي مرادهم بقولهم في سورة البقرة: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80]، فهم يقولون: إنه محكوم لنا بالجنة، وأن النار لا تمسنا إلا أياماً معدودة هي الفترة التي عبدنا فيها العجل، ولأن عبادة العجل كانت مهلكة عظيمة لهم اشترط الله عليهم في التوبة أن يقتلوا أنفسهم، كما أخبر الله جل وعلا في سورة البقرة.

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، وعليه البلاغ، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

طلق المحيا 19-12-16 03:24 PM

حينما كان موسى عليه السلام في ميقات ربه في جبل الطور غائباً عن بني إسرائيل وكان قد استخلف عليهم أخاه هارون، استغل السامري هذه الفرصة فصنع لبني إسرائيل عجلاً من ذهب له خوار، وأمرهم أن يعبدوه فعبدوه من دون الله تعالى، وقالوا: إنه إلههم وإله موسى، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ولما رجع موسى أنكر عليهم وعاتب أخاه، ثم حاور السامري في هذا الأمر، وقال له: اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس، أي: لا أحد يقترب منك ولا تقترب من أحد، ثم أمر الله بني إسرائيل بالتوبة إليه، وبعد ذلك ذكر الله تعالى ما سيكون في الأرض من دمار شامل عند قيام الساعة، فإذا قامت الساعة جازى الله المحسنين بإحسانهم والمسيئين بإساءتهم، ولا يظلم ربك أحداً.

طلق المحيا 19-12-16 03:25 PM

افتتان بني إسرائيل بالسامري وعبادتهم للعجل في غياب موسى

الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله رب الأرض والسماوات وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أتم الله به النبوة وختم الله به الرسالة، صلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصاحبه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فما زلنا -معشر الأحبة- في تفسير قول الله جل وعلا في سورة طه: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طه:86] .

وهذا الخبر مفرح على ما قبله، وهو أن موسى عليه الصلاة والسلام أخبره الله جل وعلا وهو عند جبل الطور بأن قومه قد فتنوا من بعده، وأنهم عبدوا العجل بناءً على أمر أو إشارة أو دلالة من السامري ، وحتى يكون المنهج واضحاً فإن بعض الآيات في القرآن يحسن ذكر إجمالها، والإنسان إذا فقه مجمل القضية يستطيع بعد ذلك أن يفك ألفاظ القرآن.

وعلى هذا فقول الله جل وعلا: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طه:86] إلى قوله تبارك وتعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98] إنما هو حدث تاريخي جملته عبادة بني إسرائيل للعجل، وسوف يمر معنا قوله تعالى: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94]، على لسان هارون، وقول السامري : (بصرت بما لم يبصروا به) وغير ذلك، ولذلك إذا كان الإنسان لم يفقه القضية أصلاً والقصة جملة فلن يستطيع أن يفهمها كحروف حتى يستوعب القضية أياً كانت.

لذلك سأسرد القصة مستغنياً بها عن قضية فك الآيات آية آية، إنما على إيحاء القرآن من القرآن نفسه نأخذ القصة، ونحاول أن نستعين ببعض المعطيات التاريخية قدر الإمكان، مع التحرز عن أن الغيب لا يدرك بالعقل، فما سكت الله عنه غيباً لا نستطيع أن نقتحمه نحن بتأويلاتنا العقلية، فهذا أمر يجب التحرز منه.

طلق المحيا 19-12-16 03:27 PM

.

إضلال السامري لبني إسرائيل

نقول: الله جل وعلا أخبر موسى أن السامري أضل قومه فعبدوا العجل، وهذا الخبر جاء من الله، فرجع موسى إلى قومه، فوصف حالته بأمرين: غَضْبَانَ أَسِفًا ، والغضب: حدة تكون في النفس غير مقرونة بخوف إذا رأى الإنسان شيئاً يسوءه، (أسفاً) بمعنى: أن هذه الحدة لما حصل لقومه مقرونة بالحزن لما وصلوا إليه، ولهذا عبر القرآن بكلتي الحالتين: غضبان في ذات الله، وأسفاً على قومه، فهو مغضب في نفس الوقت، حزيناً جداً للطريق الذي سلكه قومه.

موسى عليه الصلاة والسلام جعل أخاه هارون بعده في بني إسرائيل وذهب إلى ميقات الله، وقد مر معنا أنه سأله ربه: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى [طه:83]، وفي هذه الفترة جاء السامري، وقد ذكرنا أنه من مبهمات القرآن، وبمعنى: أنه لم يأت تفصيل دقيق عن سيرته، فظاهر الأمر أنه رجل من بني إسرائيل، هذا السامري أبصر جبريل على الأظهر، ولذلك قال: بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه:96]، فسرت (الرسول) بجبريل، فقد رأى جبريل وهو على فرس يقال له حيزون، يقال: إن جبريل عندما كان يجري على هذه الفرس كان لا يطأ على مكان إلا يحيا وينبت، ففطن السامري لهذا الأمر الذي أعطاه الله جل وعلا لفرس جبريل، فقبض قبضة، ولا تسمى قبضة إلا إذا كانت باليد، أي: أنها مقدور عليها، واحتفظ بها لنفسه، ثم كأنه وضعها في مكان آمن، حتى انتهز فرصة غياب موسى في جبل الطور، ووضع أخاه هارون خليفة عليهم.

في هذه الفترة جاء السامري لبني إسرائيل ودخل عليهم من باب الخطيئة، فأخبرهم أنهم حملوا أوزاراً وآثاماً سببها أنهم لم يردوا زينة القوم، والقوم هم الأقباط سكان مصر الأصليون، وقد كان بنو إسرائيل يعيشون على مقربة من الأقباط في مصر، فكانوا خدماً لهم وجيراناً، ومعلوم أنه يحدث بين الخدم والجيران نوع من العلاقات، فبعض بني إسرائيل كان يعطي ذهبه وزينته لبني إسرائيل، إما ليحتفظ بها، أو أنه بعثه في مهمة أو كان خادماً عنده، المهم أنه تحصل بنو إسرائيل على مجموعة من الحلي التي ليست ملكاً لهم في الأصل، فلما تجاوزوا البحر أتاهم السامري من هذا الباب، وقال لهم: إن هذه الزينة التي تملكونها وتحملونها إثم، ولهذا قالوا: حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ [طه:87]، والأوزار تطلق على الذنوب والمعاصي، فلا بد أن يتخلصوا منها، فسألوه: كيف نتخلص منها؟ فأتى بهم إلى قاع بأرض، وأمرهم أن يلقوا ما جمعوه من حلي فيها، فتكون من هذه الحلي ذهب كثير، فجاء السامري بالقبضة التي قبضها والتي فيها نوع من الحياة نسبياً، ووضعها مع هذه الذهب مع قدرته على صناعة التماثيل فأخرج لهم العجل، والعجل صغار البقر كما هو معلوم، وصوته يسمى: خوار.

لكن قال بعض أهل العلم: إن هذا العجل كان فيه روح، وهذا بعيد جداً؛ لأنه لا خالق إلا الله، ومن قواعد العلم: أن الإنسان يأخذ الأمر اليقيني ثم يصدم به الأمر المتشابه، فالمتشابه لا يقبل أن يقف أمام الشيء اليقيني المحكم، فمما نستصحبه هنا محكماً: أن الله جل وعلا لا خالق غيره، ومحال أن يقدر السامري بأي قدرة على أن يخلق شيئاً، وقول الله جل وعلا على لسان عيسى :أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:49]، قالوا: إنه مجرد أن يطير إلا ويقع حتى يميز خلق الله عن خلق عيسى.

فالمقصود: أن السامري بما أعطاه الله من قدرة في صناعة التماثيل، والذهب معدن أصيل كما هو معلوم مع تلك القبضة ومزج بعضها في بعض، ولا ندري كيفية العجل على هيئته التفصيلية، لكن نقول كما قال الله: (جسداً) وهذا يدل على أنه لا روح فيه؛ لأنه مر معنا أن أسلوب القرآن إذا تكلم عن اللحم والدم والشيء المجسم إذا كان مقروناً بالروح يعبر عنه بأنه جسم، كما قال تعالى عن طالوت : وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، وقال الله عن المنافقين: تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4]، وإذا عبر القرآن بالجسد فإنه يتكلم عمن لا روح فيهم.

والمقصود: أن هذا العجل أخرجه لهم السامري، فلما أخرجه لهم كما قال الله جل وعلا: فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، فبين لهم أن موسى عليه السلام -وهذا بزعم السامري - لم يعرف ربه نسي ربه، فذهب يبحث عنه في مكان آخر، أو قال لهم: إن موسى نسي أن يخبركم أن هذا إلهكم، وكلا الأمرين كفر، وفتن بنو إسرائيل في العجل فأخذوا يطوفون حوله ويترقصون.

ومن هنا أخذ بعض علماء أهل السنة أن ما يصنعه بعض المتصوفة من الطواف والرقص لا أصل له؛ بل إنه مأخوذ عن العبادة الكفرية لبني إسرائيل، ولم ينقل فيه أثر صحيح صريح عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وكفى بعمل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه عبادة.

طلق المحيا 19-12-16 03:29 PM

.

موقف هارون من بني إسرائيل حين عبدوا العجل

موضع الشاهد: أن هذا الأمر حدث على مرأى من عيني هارون، وموسى إلى الآن غير موجود، فلما رآهم هارون ازدحم في ذهنه أمران:

الأمر الأول: أنه كان بإمكانه عليه السلام أن ينكر عليهم إنكاراً ينجم عنه أن يأخذ الفرقة التي لم تؤمن بالعجل فيذهب ويتبع موسى، وهذا غلب على ظن هارون أنه لو فعله لتشتت بنو إسرائيل الباقون وتفرقوا، فإذا عاد موسى لا يجد طريقاً لجمعهم حتى يردهم إلى الحق.

الأمر الثاني: أن يبقى الأمر على ما هو عليه وينكر عليهم بقوة، ويحاول أن يأخذ ويعطي معهم حتى يأتي موسى فيبين لهم؛ لأن السامري اتكأ على غياب موسى، فإذا جاء موسى لم يبق للسامري حجة .. هذا الذي أراده هارون فيما أفهمه أنا من القرآن، وإن لم يصرح به أحد.

لكنه لما حصل هذا أنكر عليهم موسى، وقد أنكر عليهم هارون، وقد برأ الله جل وعلا بنص كتابه ساحة هارون قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طه:90]، فبدأ بالتخلية وهو إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ ، ودعا إلى التوحيد وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ودعا إلى الرسالة فَاتَّبِعُونِي ، ودعا إلى الشريعة كلها عليه الصلاة والسلام.

طلق المحيا 19-12-16 03:31 PM

موقف موسى من أخيه هارون بعد رجوعه إلى بني إسرائيل

ولما جاء موسى في هذه الفترة لم يرتدع بنو إسرائيل، فرجع موسى بعد أن أخبره الله، وكفى بتعليم الله علماً، لكن كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه في المسند وغيره: (ليس الخبر كالمعاينة)، فلما رآهم على هذه الحال يعبدون العجل غضب لله، ولأنه رسول قد ملئ قلبه توحيداً فلا يتصور أن يرى أحداً يعبد غير الله، فألقى الألواح، ولم يلق الألواح زهداً فيها أو استخفافاً بكلام الله، محال أن يفعل هذا أحد الناس من الصالحين، فكيف ينسب إلى ولي الله ورسوله، لكنه فعلها مما أصابه من الحنق والغضب أن يرى أحداً يعبد غير الله! فألقى الألواح، وتوجه مباشرة إلى أخيه، وقد صور الله هذا الموقف وذكر أن موسى كان يأخذ برأس أخيه ويجره إليه، كان الموقف صعباً على هارون لكن هارون كان حليماً، والعرب تقول: إذا عز أخوك فهن، وحياتك مع أصدقائك ورفقائك ومن تحبهم ويحبونك، ويقولون بالعافية: إذا غلب عليك الظن أنهم شدوا فأرخ أنت، ويقول معاوية : لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا أرخوها شددتها، وإذا شدوها أرخيتها، وفي رواية أنه قال: أعيش معهم كالحمام، إذا وقعوا طرت، وإذا طاروا وقعت.

فالمقصود: أن هارون لم يلجأ إلى مناكبة أخيه وصده، بل لجأ إلى استلطافه، وأخذ يبحث عن ألفاظ تحرك العاطفة في قلب أخيه، وهارون وموسى أخوان شقيقان، لكنه قال له: يَبْنَؤُمَّ ، وأثرها في النفس أكثر من قوله: يا أخي، وإنما ذكره بالرحم العظيم الجامع بينهما وهي الأم يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ ، وقال العذر الذي قلناه من قبل: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94]، أي: لم تسمع قولي ولم تطعني في أمري.

وينبغي أن تعلم كذلك أن موسى لم يشك لحظة أبداً في أخيه أنه عبد العجل، لكنه كان يتكلم عن سياسة أخيه في الموضوع، فقول موسى لأخيه: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:93]، لا يقصد منه عصيت أمري في العبادة، فهذا محال؛ لأن هارون نبي مثل موسى، لكن المقصود: عصيت أمري عندما قلت لك: وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، واخْلُفْنِي فِي قَوْمِي [الأعراف:142]، أي: أصبح زعيماً لهم قائداً ريثما أعود، هذا هو الذي خشي موسى أن يكون هارون قد فرط فيه.

وهنا أمر مهم جداً، فقد قال بعض أهل الفضل، وصرح به الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير، قال رحمه الله: إن الحفاظ على العقيدة أفضل من الحفاظ على جماعة المسلمين؛ لأن مصلحة العقيدة لا يرقى إليها شيء، وإن هارون جانبه الصواب في الصنيع الذي فعله. ونحن نقول: إن قول الطاهر بن عاشور رحمه الله: إن مصلحة العقيدة لا يرقى إليها شيء، هذا متفق عليه؛ فلا توجد مصلحة أعظم من مصلحة العقيدة ولا توجد مفسدة أعظم من مفسدة الشرك، لكن محال أن يقال إن هارون جانبه الصواب لأمرين: لأننا نقول: إن الله أمر جملة باتباع هدي الأنبياء فقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، ويدخل فيهم هارون لزاماً، ولم يستثن الله حالة لهارون، في حين أن الله استثنى حالة ليونس فقال جل وعلا: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم:48]، فهذه الحالة استثناها الله من يونس، وبقي يونس في الجملة يهتدى به إلا في حالة خروجه مغاضباً، أما هارون فلم يستثن الله جل وعلا من هديه شيء .. هذا أمر.

الأمر الثاني: نقول: لا يعقل في أمر ديني أن يرى أحد من الناس في أمر شرعي يهتدي لرأي لم يهتد إليه رسوله، لا يعقل أن يهتدي من آحاد الناس عالم أو غيره إلى أمر لم يهتد إليه رسول، ونقول: إن هارون كان يعلم أن مصلحة العقيدة لا يرقى إليه شيء، وهو لم يفرط في جانب العقيدة، وإنما الآلية التي يحافظ بها على جانب العقيدة مسألة سياسية، وهي أنه أبقى على قومه مجتمعين ريثما يعود موسى -كما ذكرنا- لعلمه عليه السلام أن السامري اتكأ على حجة أن موسى غائب، فأخذ يقول ويشيع في بني إسرائيل: إن موسى نسي، فإذا جاء موسى سيبطل هذه الحجة التي قالها السامري ، وهذا عين ما وقع بعد رجعة موسى.

فنقول: إن تدارك هارون للقضية كان صائباً، ولهذا لم يذكر الله تعنيفاً لهارون؛ بل إن الله ذكر تراجع موسى بقوله:رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي [الأعراف:151] فاستغفر له ولأخيه؛ مما يدل على أن موسى تراجع عن الحدة التي أصابته في التعامل مع أخيه هارون عليه السلام.

طلق المحيا 19-12-16 03:37 PM

محاورة موسى للسامري

وبعد أن تأكد موسى أن الأمر ما زال في قبضته، وأن بني إسرائيل لم تتفرق؛ رجع إلى السامري يحاكمه فقال له: (ما خطبك يا سامري )؟ يسأله، فقال السامري ما ذكرناه من أنه قبض قبضة وأنه جمع وما إلى ذلك.

وموسى معروف بحدته، وقد مر كثيراً ونحن ندرس القرآن والسنة حدة موسى في ذات الله، ومنها ما حصل منه مع الخضر، ومنها الموقف الذي بين أيدينا من مجازاته لأخيه، لكنه قال للسامري : فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ [طه:97]، قال أهل العلم جملة في معناها: أن الله جل وعلا حكم على هذا الرجل الضال بأن لا يكون فيه أنس مع الغير، فيستوحش من الناس، ولا يكونون مخالطين له، وأنه يبقى ما بقي من حياته يعيش طريداً شريداً لا يأنس بالخلق، هذا جملة ما قالوه.

وبعض الناس من المتأخرين ممن لهم دراية بالتاريخ -والوجه الذي اتكئوا عليه صحيح، لكن لا يلزم من الوجه الذي اتكئوا عليه إذا كان صحيحاً أن تكون النتيجة صحيحة؛ لأنني أقول دائماً: إن قضية الغيب تبقى غيباً- فقالوا: إن الله جل وعلا أراد أن يبقي على حياة السامري ، ولهذا لم يعنفه موسى، بل قال: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ [طه:97]، والسابقون كانوا يقولون: إن الموعد هو يوم القيامة، لكن هذا فيه نظر؛ لأن هذا موعد لا يختص بـالسامري وحده، فقالوا إن القضية قضية الدجال، وإن السامري هو الدجال، وإن الله أذن له أن يبقى ويعيش ولم يسلط عليه عبده موسى حتى تبقى حياته، فإذا بقيت حياته فإن الموعد الذي لن يخلف هو وقت خروجه للناس، ثم وقت هلاكه على يد عيسى ابن مريم .

أقول معقباً والعلم عند الله: هذا القول له حظ كبير من النظر، لكن من الصعب تبنيه والجزم به؛ لعدم وجود ما يدعمه من الأثر، لكن أقول: إن العقلية التي تنتبه لمثل هذا عقلية مؤهلة لأن تنظر في كلام الله، وهذا من العلم الذي تجري فيه أقدام العلماء .. هذا أمر.

الأمر الثاني: هذا يسمى من مليح القول لا من متين العلم، هذه جملة ما ذكره الله جل وعلا عن السامري .

طلق المحيا 19-12-16 03:38 PM

الفوائد المستنبطة من قصة بني إسرائيل مع السامري وعبادتهم للعجل

ثمة فوائد يجب استنباطها من هذا الحدث التاريخي الذي مر به بنو إسرائيل:

أولها وأعظمها: أن الله إذا أراد ضلالة أحد غشي على بصره وحرمه من استعمال عقله، وإلا فإنه من المحال أن يقال: إن قوماً ينجيهم الله، ويرون البحر يبساً، وتمشي أقدامهم عليه، ثم بعد هذا كله يأتون إلى عجل له خوار يعبدونه من دون الله، هذا من أعظم الدلائل على أن المسألة لا ترجع إلى العقل، وإنما هي هداية من الله ونور يضعه الله جل وعلا في قلب من يشاء.

الأمر الثاني: أن الناس الذين ينصر الله بهم دينه تختلف مشاربهم وقدراتهم، فموسى فيه الغضب والحدة، وقد نفعت الدين نفعاً عظيماً، وهارون عليه السلام كان فيه شيء من اللين والرفق، وقد نفعت الدين نفعاً عظيماً، كما كان في الفاروق والصديق رضي الله تعالى عنهما، فإن الصديق كان فيه لين، والفاروق كان فيه شدة، ولما كان الصديق رضي الله عنه يستشير الناس في أمر الفاروق وكانوا يخشون من شدته فكان يقول لهم: إن الذي دفعه إلى هذا أنه يجد في ليناً في ذات الله.

والمقصود: عندما تحاكم شخصين فلا تنظر من هذه الزاوية الضيقة فتقول: إن فلاناً قوي في ذات الله جبار، وتتهم الآخر بالضعف، لكن الدين ينصر بالشخص الضعيف كما ينصر بالشخص القوي، وأحياناً نحتاج إلى الحدة والغضب، وأحياناً نحتاج إلى الحلم واللين، وأحياناً نحتاج إلى دعاء ذلك الرجل العاجز، وأحياناً نحتاج إلى حلم الحليم، وأحياناً نحتاج إلى استنباط الفقيه، فالدين من حيث الجملة ينصره الله جل وعلا بهؤلاء كلهم، كما نصر الله دينه بنبييه موسى وهارون رغم اختلاف شخصيتهما اختلافاً كثيراً.

الأمر الثالث: وهذا مر معنا عرضاً: أن الإنسان لا يحاول أن يصادم أصحاب الرئاسات، وأن المركب الواحد لا يحتمل أكثر من قائد، ولا بد للعاقل أن يتغاضى عن أمور إذا أراد للمركب أن تسير، لكن الإلحاح على المطالب والإصرار على الزعامة، والتنافس في الدنيا، هذا هو الذي يذهب المركب الإسلامي ويجعله عرضة للغرق.

لكن من جعل الله جل وعلا بغيته ورضوان الله جل وعلا غايته، هان عليه كل ذلك في سبيل إعلاء دين الرب تبارك وتعالى، لكنه كذلك ينبغي أن يعلم أن دين الله جل وعلا أجل وأعظم من أن يتخذ غرضاً للدنيا.

الأمر الرابع: أن الذنوب والخطايا التي تكون للعبد -ولا بد منها- يجب أن توظف توظيفاً صحيحاً، فلا يأتينك أحد ينتهز فيك ماضيك وبعض خطاياك فيوظفك فيما يشاء وما يبتغي وما يريد من باب أن ذلك كفارة لما قد عملت، وإنما الإنسان يعلم أن الذنوب والمعاصي ليس لها إلا التوبة، وقد مر معنا قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].

هذا جملة ما يمكن أن يقال عن قصة موسى مع السامري ، وعبادة العجل من أعظم ما اقترفه بني إسرائيل، ولهذا أمرهم الله جل وعلا بالتوبة، وجعل توبتهم أن اقتلوا أنفسكم.

طلق المحيا 19-12-16 03:40 PM

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن الجبال ... لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً)

ثم قال الله جل وعلا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:106-107]، هذه إحدى آيات السؤال في كلام ربنا الكبير المتعال, وآيات السؤال متعددة في القرآن وقد جاءت في القرآن المكي والقرآن المدني، وقد أفرد لها الشيخ عطية محمد سالم كتاباً خاصاً أسماه: آيات السؤال والجواب في آيات الكتاب، فمنها ما يتعلق بالتشريع كالسؤال عن المحيض، والسؤال عن أموال اليتامى، والسؤال عن الأهلة، والسؤال عن الخمر، ومنها ما يتعلق بالأمور الغيبية وما سيقع كهذه الآية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ، وكقوله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [الأعراف:187]، وبكل أجابه الله.

قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105]، الجبال خلق من خلق الله عظيمة الهيئة، ولأنها عظيمة الهيئة فقد لفت الله الأنظار إليها فقال: وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية:19]، والله تبارك وتعالى إذا استقر في الأذهان عظمة شيء يربطه بعظمته، فأين ربط الله عظمة الجبال بعظمته؟ ربطها لما تكلم عن إنكار نسبة الولد إليه فقال: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم:87-91].

فهي على عظمتها تخر إذا بلغها أن أحداً من الخلق زعم أن لله صاحبة أو ولداً، فربطها جل وعلا بعظمته .. ثم لعظيم خلقتها بين الله جل وعلا أنها من جملة من يعبده فقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44] وهذا عموم، ثم ذكر لها خصوصاً فقال: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ [ص:18]، ذكر جل وعلا تسخيرها لداود عليه السلام أنها تسبح معه صلوات الله وسلامه عليه .. فهذا من جملة كيف يربطها الله جل وعلا بذاته العلية.

كذلك استقر في الأذهان أن الجبال شيء عظيم حتى في اللغة، فمن أراد أن يمدح أحداً شبهه بالجبل، يقول الفرزدق في رده على جرير :

فادفع بكفك إن أردت بناءنا ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل

يقول له: إذا أردت أن تهدم ما بناه أجدادي فإن صنيعك كمن يأتي إلى كهلان -وهو جبل عظيم كبير في الحجاز- يريد هدمه أو تحريكه بيده، وهو لن يستطيع، فمقام أجدادي وما دونوه مثل هذا الجبل.

ويقول آخر:

كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا

فقوله: في الجبال: هي الجبال المعروفة، وكنا جبالاً أي: ثابتين راسخين، ويقول حسان :

شماريخ رضوى عزةً وتكرما

ورضوى جبال ما بين المدينة والعيص بعد ما تنتهي من ينبع النخل تأتيك على شمالك، وقد رأيتها عالية شاهقة جداً، وهي كالشماريخ تماماً وكأن حسان يرسمها رسماً ولا يصفها وصفاً.

والمقصود: أن الجبل استقر في الأذهان علو هيئته، ولهذا لما ربطه الله بعظمته وفتن الناس به أراد الله أن يبين إلى ماذا سيصير في النهاية، وقد جرت سنة الله في خلقه كما قال عليه الصلاة والسلام في ذلك القعود الذي سبق ناقته: (حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)، والعامة يقولون: كل شيء له سبع، أي: له آفة تذهب هيبته.

فبعض طلبة العلم مثلاً يفتن بعالم فيريك الله ضعفه في جانب معين، والبخاري رحمة الله تعالى عليه لما ذكر أحد علماء الحديث قال: ما استصغرت نفسي إلا بين يديه، وهذا الذي استصغر نفسه البخاري بين يديه يقيناً أنه استصغر نفسه مع غيره، فالله لا يجعل لأحد كمالاً مطلقاً.

فالعامة يقولون: إن لكل شيء سبع، أي: آفة غالبة، ويقولون: إن سبع الجبال الليل؛ لأن الجبل على عظمته وارتفاعه لا يرى في الليل، فكأنه غير موجود، فيجعلون الليل آفة أو سبعاً على الجبال في كلامهم العادي.

يقول رب العالمين: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ، بدهياً أن يسأل القرشيون نبينهم عن هذه الجبال العظيمة، قال تعالى: فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ، وهذا إخبار بالنهاية لا إخبار بالبداية؛ لأن الجبال قد ذكرت في القرآن على مراحل عديدة، يقول الله: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:3]، وقال: فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة:6]، وقال: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88]، فذكر لها أحوالاً وأطواراً، لكن هنا حتى ينتهي الأمر فذلك الشيء الشامخ لا يذهب إلا بالنسف وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا أي: الجبال قَاعًا صَفْصَفًا ، والقاع: بقعة من الوادي المعروفة لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا [طه:107] أي: لا ترى في هذه البقعة ميلاً، وَلا أَمْتًا ، الأمت على الصحيح: النتوء الشيء الظاهر الذي ينتأ في الجسد.

فهذه الجبال من شدة أنها نسفت حتى حجارة منها ملساء اجتمعت بعضها على بعض فتكون شيئاً ناتئاً في الأرض لا يوجد ولا يبقى شيء.

طلق المحيا 19-12-16 03:41 PM

تفسير قوله تعالى: (وعنت الوجوه للحي القيوم ... فلا يخاف ظلماً ولا هضماً)

ثم قال الله: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:111]، وجوه من؟ وجوه الخلائق كلها وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ، وقد قال بعض أهل العلم: إن الحي القيوم اسمان متلازمان هما اسم الله الأعظم، وقد ورد هذا الاسم الكريم المتلازم في القرآن ثلاث مرات، ورد في صدر آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، وورد في فاتحة آل عمرانالم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2]، وورد في هذه الآية الكريمة التي بين أيدينا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111]، وقد قال جمع غير قليل من أئمة الدين: أنه اسم الله الأعظم، والعلم عند الله.

وقوله: وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ، الظلم إذا قاله الناس اليوم ينصرف إلى الجبروت وإلى سلب أموال الناس، وهذا حق؛ لكن إياك أن تصرفه في هذا الموقف صرفاً أولياً يتعلق بالناس؛ لأن هذا ينافي أصلاً فهمك للقرآن؛ لأن الله جل وعلا محال أن يذكر هذه المقدمة في العظمة كلها .. وخشعت الأصوات للرحمن، ولا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن، وعنت الوجوه للحي القيوم، ثم يتلكم عن قضية أن عبداً ظلم عبداً، لكن لا يوجد ظلم أعظم من أن تجعل لله نداً وقد خلقك، فأول ما يصرف قوله: وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا إلى أهل الإشراك.

ثم قال الله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112]، (وَمَنْ يَعْمَلْ) شرطية مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فالإيمان متلازم مع العمل الصالح، وقد يعمل الإنسان عملاً صالحاً من حيث الجملة لكنه غير مؤمن، كما يصنع بعض الغربيين الكفرة من الرفق بالحيوان، أو من قضية إغاثة الملهوف؛ فهذا لا ينفع يوم القيامة. وقوله: فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ، لا يخاف ظلماً؛ لأن الله جل وعلا نزه نفسه عن الظلم، وقد جاء في الخبر الصحيح عن علي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك، قال: فقلنا يا رسول الله! مم تضحك؟ قال: أضحك من مجادلة العبد ربه، فإنه يقول يوم القيامة: يا رب! لا أقبل إلا شاهداً من نفسي، فيختم على لسانه فتشهد عليه جوارحه، فإذا شهدت عليه جوارحه خلي بينه وبين الكلام، فيقول: سحقاً لكن وبعداً فعنكن كنت أناضل)، أي: عنكن كنت أدافع.

قال بعض أهل العلم: حتى جوارحه التي كانت له في الدنيا عوناً على المعصية لما رأت يوم القيامة كانت شاهداً عليه عند ربه، فجوارحه قدمت عظمة الله على علاقتها بصاحبها، ولهذا قال الله جل وعلا: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].

وقد اختلف العلماء في السبب الذي من أجله يختم على الأفواه، فقال بعض أهل الفضل وينسب هذا إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن السبب أنهم ينطقون بكلمة الكذب، قال الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، فإذا قالوها يختم على أفواههم، وذكرت أسباب أخرى في أن الله جل وعلا يختم على أفواههم، فقيل: إن شهادة غير الناطق من الجوارح أعظم من شهادة الناطق، أي: من شهادة جارحة اللسان، وقيل غير ذلك.

يقول الله جل وعلا: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ، فلا يزاد عليه ما لم يعمله، ولا ينقص منه ما قد عمله، فالظلم هنا يفسر بالزيادة، وقد فسرناه بالزيادة ليقابل كلمة (هضماً) وهو النقص.

طلق المحيا 19-12-16 05:53 PM

فسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً ... وقل رب زدني علماً)

قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه:113]، (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)، أي: بلسان عربي مبين كما هو معلوم، وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ ، والوعيد يقابله الوعد، والوعد يكون في الخير ويكون في الشر، والوعيد لا ينصرف إلا للشر.

وقول الله جل وعلا: وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي: أن تخويف الله جل وعلا لعباده لم يأخذ منهجاً واحداً، وإنما أخذ عدة طرائق، فتارة يذكر الله أفراداً أهلكهم كالنمرود وقارون، وتارة يذكر أمماً أبادها كقوم ثمود وقوم عاد، وتارة يذكر الله جل وعلا إخباره بما أعد لأهل معصيته .. وغير ذلك مما صرف الله جل وعلا فيه من الوعيد كل ذلك تذكرة للعباد، وتبصره للحاضر والباد، قال سبحانه: وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ، أي: لعل هذا التصريف يكون سبباً في عودتهم إلى ربهم جل وعلا.

ولما كانت الأمور لا يمكن أن تكون إلا بمشيئة الواحد القهار قال جل وعلا بعدها: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، وهذه من أعظم آيات القرآن ثناءً على الله تعالى، وقد قالها الله هنا، وقالها جل وعلا في آخر سورة المؤمنون، وقالها في غير موضع .. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي: عما يصفه الواصفون ممن انتقصوا ربهم جل وعلا.

لكن يستثنى من هذا ما وصف الله به عباده الصالحون، فوصف العباد الصالحين لربهم غير داخل في هذا الحكم.

ثم قال الله لنبيه: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه:114]، فقد كان جبريل يملي على نبينا صلى الله عليه وسلم القرآن، فكان لهذا القرآن حلاوة في قلب النبي وكان يخاف أن يتفلت فيسرع في الاستجابة لجبريل، فأخبره الله جل وعلا هنا وأخبره في سورة القيامة إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ [القيامة:17] أي: في صدرك وَقُرْآنَهُ [القيامة:17] أي: في قراءته عليك، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:19] أي: تأويله سيأتيك ظاهراً بيناً في الدنيا والآخرة.

قال الله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، وقد مر معنا أن كلمة (رب) إذا جاءت بصيغة دعاء فلا تكون ملازمة للياء، لكن (زدني) جاءت بالياء وهي ياء المخاطب، وأصل الفعل (زد)، والنون يسميها العرب: نون الوقاية، ويقولون: إن الفعل لا يقبل الكسر، وياء المخاطبة لابد لما التحق بها أن يكون مكسوراً، فلو تكلمت عن كتاب ونسبته إلى نفسك فتقول: هذا كتابي، فالباء لحقها الكسر لاتصالها بالياء، سواء كانت في محل جر أو لم تكن في محل حر، فالياء قوية لا تقبل لما يلتصق بها إلا أن يكون مكسوراً، والكسر من خصائص الأسماء، لكنه ليس من خصائص الأفعال، فلما التصق الفعل بالياء احتاروا فلا الياء ترضى أن تقبل معها أحداً غير مكسور، ولا الفعل يرضى بأن يكون مكسوراً، فجاءوا بهذه النون فجعلوها بين الاثنين -وهذه فائدة نحوية- وسموها: نون الوقاية، ويقصدون من تسميتها نون الوقاية: أنها وقت الفعل من الكسر. هذا العلاقة النحوية.

أما العلاقة العامة فإن الله يقول لخير خلقه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ، والعلم هو نور وفضل من الله جل وعلا محض، وله شروط تتعلق بالآخرة، وهذا ليس مجال كلام فيه؛ لأن كل امرئ حسيب نفسه، سواء أراد بالعلم وجه الله أو لم يرد به وجه الله، لكن العلم حتى يملكه الإنسان لا بد فيه من أمور:

الأمر الأول: عدم التفريط في علوم الآلة، وهذا أهم مقتضيات العلم؛ لأن من فقد علم الآلة لم يصل إلى مبتغاه، فلابد من عدم التفريط في علوم الآية مع -وهذا مهم- مع عدم الإغراق في علوم الآلة؛ لأنها وسيلة وليست غاية.

الأمر الثاني: عدم احتقار أي شخص أن تأخذ عنه علماً من حيث المعلومة نفسها، فإجلالك لغيرك يبنى عليه أمور عدة، أما قبولك للمعلومة فليس له علاقة بذات الشخص، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة: (صدقك وهو كذوب)، فأقره على المعلومة التي منحها إياه الجني أن من قرأ آية الكرسي لا يزال عليها من الله حافظ، مع أن القائل جني سراق، لكن لا علاقة لنا بالقائل، بل العلاقة لنا -وهذه مهمة جداً- بقضية المعلومة.

ومن شروط تحصيل العلم: أن العلم يجمع، بمعنى: أنه لا بد من مراحل حتى يصل الإنسان إلى كثير من بغيته لا إلى كل بغيته، قال الإمام الشافعي :

وصحبة أستاذ وطول زمان

فلا يمكن أن يطير أحد قبل أن يريش، فيأخذ الإنسان العلم على تؤدة وعلى مهل، ولا بد في العلم من المراجعة؛ لأن علم الأنبياء وحي لا يحتاجون فيه إلى مراجعة، أما نحن معشر المتعلمين فلا بد فيه من المراجعة والمدارسة والمذاكرة والعرض حتى يثبت في القلب والعقل.

وهنا فائدة: يقولون: إن المأمون -سابع خلفاء بني العباس- قال لـأبي علي المنقري : يا أبا علي ! فيك كثرة عيوب، قال: وما هي؟ قال: إنك تلحن في كلامك، وتكسر الشعر ولا تقيمه -هذه اثنتان- ولا تجيد الكتابة، فقال: يا أمير المؤمنين! أما اللحن فربما سبق لساني منه شيء، وأما الكتابة والشعر فلا حاجة لي بهما؛ فإني رأيت الله نزه نبيه عن الكتابة ونزه نبيه عن الشعر، فقال المأمون : يا أبا علي ! كنت أظن فيك ثلاثة عيوب فإذا هي أربعة، الثلاثة التي ذكرت وجهلك، ثم قال له: يا جاهل! إن عدم فهم الشعر وعدم القراءة والكتابة في حق النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة حتى لا يشككن أحد في وحيه الذي أعطاه الله إياه، أما في غيره فهي في حقه منقصة -أي: عدم فهمه للشعر أو عدم إجادته للقراءة والكتابة- لأن الإنسان إذا كان لا يفقه الشعر ولا يجيد القراءة والكتابة أنى له أن يتعلم.

فلا بد أن يكون هذا معلوماً، فهي في حق غيره منقصة وفي حقه صلوات الله وسلامه عليه فضيلة، قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت:48].

ومن التكلف أنه قال بعض الناس: إن الرسول كان يعرف يكتب، قيل له: إن الله يقول: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت:48]. قال: ما هي مشكلة كان الرسول يكتب بشماله!! فهذا نوع من العنت حتى يخرج منها، لكن الله أراد نفي الكتابة بالجملة.

والمقصود: أن العلم -كما ذكرنا- يحتاج إلى مراجعه، ويحتاج إلى أخذ وعطاء، وكذلك يحتاج العلم -وهذه مهمة جداً- إذا تبنيت رأياً فلا تجلب على خصمك فيه بخيلك ورجلك، فربما تراجعت عن هذا القول ذات يوم، فاترك لنفسك خط رجعة تئوب إليه، إلا في مسائل العقائد؛ لأن العقائد مبنية على اليقينيات، لكن في مسائل الفقه والأخذ والعطاء اجعل لنفسك خط رجعه، فربما مع المدارسة والأخذ والعطاء يتبين لك خلاف الذي توصلت إليه.

والكلام في العلم أمره طويل، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، فإذا كانت ملائكة الرحمن ترضى عمن خرج قصداً في طلب العلم فهذا دلالة على فضله وسموه في ذاته.

لكن إذا جاءنا في الأمور الروحانية الإيمانية فإنه ما أجمل العلم أن يدل على الله! وإنما العلم الخشية، كما قال الحسن البصري رحمه الله، وهو مأخوذ من قول الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

زادني الله وإياكم تبصرة لما نقول ونسمع، ووفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسني الله وإياكم لباس العافية والتقوى.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين.

طلق المحيا 19-12-16 06:05 PM

ذكر الله تعالى في آخر سورة طه تكريمه وتفضيله لآدم عليه السلام، وأنه أسجد له ملائكته فسجدوا إلا إبليس أبى، وأدخله جنته، وحذره من إبليس، وأمره ألا يأكل من شجرة معينة، فوسوس إليه إبليس فأكل منها، فعاقبه الله بأن أخرجه من الجنة وأنزله إلى الأرض ابتلاءً وامتحاناً، ثم تاب الله تعالى عليه وهداه، ثم ختم الله السورة بأمره لنبيه بالصبر، وألا يمد عينيه إلى ما متع الله به غيره من الدنيا، وأمره بأن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها، ثم ختمها بذكر كلام الكفار المعاندين الذين طلبوا من النبي آية، مع أن الله قد أعطاهم أعظم آية وهي القرآن، ولكنهم لا يرعوون ولا يؤمنون.

طلق المحيا 19-12-16 06:06 PM

تفسير قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً)

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا اله الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

قال الله جل وعلا فيما: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115].

هذا المقطع من سورة طه يتكلم عن عهد الله جل وعلا لأبينا آدم، وآدم قبل أن نتكلم عن قصته هنا يجب أن نصتصحب ما من الله جل وعلا به عليه، وفائدة هذه الاصتصحاب: أن الإنسان أحياناً إذا رأى كلام الله عن أحد أنه وقع منه خلاف الأولى، أو وقعت منه المعصية؛ يقع في نفسه شيء من دون أن يشعر من ذلك المذكور، فسداً لهذه الباب واتباعاً لسنه النبي صلى الله عليه وسلم القائل: (لا يقول أحد أنا خير من يونس بن متى) ، من هذا الباب نقول: إن آدم عليه السلام فضله الله بأمور لم يعطها أحداً من الخلق، لا نبينا صلى الله عليه وسلم ولا غيره، هذه الأمور منها: أن الله جل وعلا خلقه بيده، وهذه خصيصة له من دون سائر بني آدم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، وهي أربع خصال لم تعط لأحد غيره عليه الصلاة والسلام .. هذا أمر.

الأمر الثاني: أن وجه آدم منتهى الكمال البشري، وقد ذكرنا أن يوسف أعطي شطر الحسن، إي: شطر حسن آدم عليه السلام.

قال الله تعالى هنا: وَلَقَدْ عَهِدْنَا [طه:115]، قوله: (عهدنا) عهد: لفظ يستخدم في التعظيم والتفخيم، ولا أحب أن يقول الفرد من الناس: عهدت إلى فلان أن يفعل كذا، وإن كان مستخدماً في اصطلاحات المؤرخين، لكن أرى ألا يستخدم، وأنه يتعلق بذات الله، لكني لا أجزم أنه لا يجوز.

يقول الله: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ [طه:115] أي: من قبل موسى، من قبل هذا كله الذي قصصناه عليك.

قال تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115] عبر الله هنا بالنسيان، وقال بعد آيات: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، لا تنسب إليه، مع أن الله صرح بها، لكنني أقول: هناك كلام لـابن العربي في أحكام القرآن جيد عظيم فحواه: أن كلام الله عن آدم غير كلامنا نحن عن آدم، فكلام الله جل وعلا عتاب وفيه شيء من التثريب، لكنه خطاب رب لعبده، أما نحن فنتكلم عن أبينا آدم بالنبي، ونبوة آدم ثابتة فقد جاء في الحديث أنه قيل: (يا رسول الله! أكان آدم نبياً؟ قال: نعم، نبي مكلم) والحديث صحيح.

يقول الله: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، ما هو العهد الذي عهده الله لآدم؟ بالاتفاق ألا يأكل من الشجرة.

طلق المحيا 19-12-16 06:07 PM

تفسير قوله تعالى: (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ... وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)

قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [طه:116] ، أي: امتنع كبراً.

والخطايا أصولها ثلاثة: الكبر، والحسد، والحرص، فوالله ما عصى الله أحد إلا من باب واحدة من هذه الثلاث: الكبر، أو الحسد، أو الحرص، فالحرص باب للشهوات، والحسد باب للبغض، والكبر باب للبغي والشهوات، وباب لرد ما جاء الله جل وعلا به، فكل المعاصي تندرج في هذا الباب.

يقول ربنا: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا [طه:116-117]، أي: إبليس عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه:117]، ولم يقل: ولزوجتك، والأفصح أن يقال في المرأة: زوج، فيقال: زوجه، ولا يقال: زوجته، إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا [طه:117]، آدم وحواء مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، وقول الله: (من الجنة) إحدى الأدلة على أن المقصود بها جنة عدن؛ لأنه لا يستقر في الذهن هنا إلا جنة عدن، وقوله: (فتشقى) جاءت (فتشقى) بلفظ الإفراد، وهذا يدل على أن المرأة تبع للزوج، وأن الرجل هو المكلف بالسعي والكد.

ومعنى الآية: أن الجنة يا آدم كفيت أن تعمل فيها وتكد على أهلك، فخروجك منها سيدفعك الى الكد والسعي في طلب الرزق، وقوت أبنائك وأهلك، وتصبح تبحث عن الرزق كما يقال بعرق الجبين، وتذهب وتكد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حق جليبيب : (اللهم لا تجعل عيشهما كداً وصب عليهما الخير صباً).

والمقصود:لم يقل الله: فتشقيا؛ لأن الرجل هو المكلف بالكد.

قال الله جل وعلا: يرغب آدم في الجنة: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]، الجوع معروف وهو عدم الأكل، والعطش قرين له، يقال: فلان جائع وفلان عطشان، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى [طه:118]، بعد الجوع أتى بالعري، قال: وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا [طه:119]، أي: لا تعطش، وَلا تَضْحَى [طه:119] ضحي الإنسان بمعنى: برز للشمس، ولهذا يقال لوقت ظهور الشمس واشتدادها: ضحى.

وهذا عند البلاغيين يسمى: تطابق تضاد، والمعنى أنهم يقولون: إن الله عدل عن قول: ألا تجوع فيها ولا تظمأ، فما قال: لا تجوع فيها ولا تظمأ، ولم يقل: تعرى مقابل الظهور للشمس، قالوا: لأن العري جوع الظاهر، وعدم الأكل جوع الباطل، وعدم الشرب حر الداخل، والظهور للشمس حر الظاهر، فهذا يسمى: تطابق تضاد.

وأهل اللغة إذا ذكروا هذا في القرآن يعرجون على بيتين للمتنبي ، والمتنبي شاعر عباسي كان مشهوراً بالإغراق في الغرور والكبر عياذاً بالله، وهو القائل عن نفسه:

أي عظيم أتقي وأي مكان أرتقي

وكل ما خلق الله وما لم يخلق

محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

ومن دون له سيرته -ولا أتحمل وزره- قال: إنه لم يسجد لله قط، فلا يعرف أن هذا الرجل كان يصلي؛ بل كانت به أنفة عجيبة، فكان ينشد شعره بين يدي سيف الدولة الحمداني وهو جالس، فودعه بقصيدة بعد أن اشتد عليه خصومه يقول فيها:

واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم

ما لي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم

إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنا بقدر الحب نقتسم

والآن هو يتكلم بين يدي الأمير، فبدلاً من أن ينصرف الكلام إلى مدح الأمير صرفه إلى نفسه فقال:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم

أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم

هذه جملة أبيات قالها بين يديه ثم ترك حلب وبني حمدان، واتجه إلى مصر أيام حكم كافور الأخشيدي وكان كافور فطناً سياسياً، وهذه الفطنة جعلت كافوراً يقرب المتنبي بالقدر الذي يستفيد منه، وكان المتنبي يلح عليه ويطلب منه الولاية فلم يعطه، فلما سأل بعض خواص كافور عن سبب منعه الولاية للمتنبي قال: انظروا ماذا يراه في نفسه وهو شاعر، فكيف لو أعطي ولاية، ماذا سيفعل؟ سيطغى، والمتنبي هو القائل:

ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا

والعاقل لا يستخدم من هو أعظم منه؛ لأنه قد ينقلب عليك فيأكلك.

نعود إلى قضية التضاد في التطابق فنقول:

وقف المتنبي ذات يوم في حرب تسمى: الحرب الحمراء، لـسيف الدولة الحمداني ، وانتصر فيها، فقال قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم

حتى وصل إلى بيت يمدح ممدوحه فقال:

وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم

فقالوا: إن الحمداني استدرك على المتنبي هذا البيت، فأفهمه المتنبي بمراده الذي هو بين أيدنا الآن بما يسمى: تطابق التضاد، فجعل كل مصرع بيت بما يلائمه، وهذا مأخوذ من نسق القرآن، حتى يعلم أن القرآن في المرتبة الأعلى من الفصاحة، وما جاء أحد بأسلوب ولن يأتي أحد يرقى على أسلوب القرآن، فكلهم أصلاً مغترف من أسلوب القرآن سواء أنكر ذلك أو اعترف.

طلق المحيا 19-12-16 06:08 PM

تفسير قوله تعالى: (فوسوس له الشيطان ... فتاب عليه وهدى)

يقول الله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]، وهذا حرص؛ لأن كل ثمار الجنة أباحها الله جل وعلا لآدم ما عدا شجرة، فدخل إبليس على أبينا آدم من باب الحرص فقال: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]، فوافق آدم؛ لأن ما بعدها يدل عليها، قال الله: فَأَكَلا [طه:121]، ألف التثنية أي: آدم وحواء، مِنْهَا [طه:121] أي: من الشجرة، فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [طه:121]، وتسمى العورة سوءة لأنه يسوء المرء إظهارها، الإنسان العاقل لا يرضى بظهورها، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا [طه:121]، (طفق) بمعنى: بدأ، وهو من أفعال الشروع عند النحويين، وهي تعمل عمل كان، إلا أنه يشترط في خبرها أن يكون جملة فعلية.

قال الله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، فهذا نص خلاف الأول، وقد خرجه بعضهم على أنه قبل أن ينبأ، وقال بعضهم: إن صغائر الذنوب تقع من الأنبياء، وبكل قال العلماء، وأنا أجنب نفسي.

لكن أقول: إذا تكلمنا عن الأنبياء نتكلم بنفس طريقة القرآن، ولا نقحم أنفسنا في الكلام عن أنبياء الله جل وعلا إلا بما حكاه الله جل وعلا عنهم، تأدباً مع أبينا عليه الصلاة والسلام ومع غيره من إخوانه وأبنائه من الأنبياء.

ثم قال الله تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:122] هنا لا تفهم أن الأمر بالهبوط عاقبة للتوبة، وإنما قدم الله التوبة حتى يبين لك ألا تسترسل فيما بعد، فإن هذا النبي قد تاب الله عليه.

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا [طه:123] [طه:123] ليس مفره على التوبة مفره على المسألة، لكن جعل الله التوبة قبلها والإجتباء والهداية حتى يريحك في تلقي الخبر، وأن هذا النبي الصالح تاب الله عليه، كمن تريد أن تخبره بأن قريباً له أصابه مكروه، فقبل أن تخبره أن ابنه دهته سيارة مثلاً قل له: ابنك بخير وعافية ولله الحمد الآن، ثم يمكن أن تقص عليه كيف دهته السيارة، لكن لا تبدأ بإخباره بالحادث، فإن هذا يجعله في رعب وينتظر النتيجة.

فأسلوب القرآن قدم النتيجة، فالله يقول لنبيه: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ [التوبة:43]، ثم أعطاه العتاب: لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]، لكن لا تخشى من هذا العتاب فقد قدمنا عَفَا اللَّهُ عَنْكَ [التوبة:43]، وهنا قال: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:122]، فرفع الله مقامه وغفر الله خطيئته، وقبل الله توبته.

طلق المحيا 19-12-16 06:09 PM

تفسير قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعاً ... إن في ذلك لآيات لأولي النهى)

قال الله تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124]، ضيق في العيش يكون في الحياة الدنيا، فلا يشعر بلذة ما هو فيه لو كثر أمواله وأولاده.

وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا [طه:124-125]، وقد ذكر الله أنهم يحشرون عمياً وصماً وبكما: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا [طه:126]، أي: بتركها وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126] أي: بأن تترك، وإلا فإن النسيان لا يجوز على الله تعالى، لكن هذا يسمى عند البلاغيين: مشاكلة.

قال تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127]، وهذه ظاهرة المعنى وقد مرت معنا كثيراً.

ثم أمر الله بالتدبر فيما سبق فقال: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:128] والخطاب في المقام الأول لكفار قريش، يقول الله عن قوم لوط وحجر وصالح: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [الحجر:79]، وقال: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر:76]، ما زالت آثاراً باقية تدل على أصحابها حتى يتعظ الخلق وحتى يتنبه من كتب الله جل وعلا له النجاة، ولهذا قال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:128].

وقد مر معنا أن كلمة (أولي النهى) لم ترد في القرآن إلا مرتين كلاهما في سورة طه: هذا موضع، والموضع الذي قبله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:54]، ذكر الله جل وعلا إنزال المطر من السماء، وأخبر أن في ذلك آيات لأولي النهى.

وهنا تكرر نفس المعنى، وأولو النهى هم أهل العقول، وهذا يدل على أن الإسلام عني كثيراً بالعقل البشري، ومن أعظم الدلائل على عناية الإسلام بالعقل أن الله جل وعلا ذكر العقل مغيباً ومؤقتاً ومغيباً تغيباً جزئياً، فالمغيب كلياً يسمى: مجنوناً، والمغيب عارضاً هو النائم، والمغيب المؤقت هو الصغير الذي لم يصل عقله إلى النضج، وفي كلا الثلاثة الأحوال رفع الله قلم التكليف.

إذاً: مناط التكليف هو العقل، والعقل أصلاً يدل على وجود الله، لكن لا تقوم الحجة بالعقل وحده.

طلق المحيا 19-12-16 06:09 PM

تفسير قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون ...)

ثم قال جل وعلا: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه:130]، التسبيح هنا الأظهر أنه بمعنى الصلاة، وقد ذكر الله في هذه الآية المواقيت الخمسة، وقوله: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [طه:130]، الصبر قرين الصلاة في كلام الله، فقد قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال عند)، ولهذا أمر الله نبيه بقوله: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [طه:130]، أي: من تكذيبك ورد رسالتك وقدحهم في إلهك، وزعمهم أن الأصنام تنفع وتضر، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [طه:130] متى؟ (قبل طلوع الشمس)، وهذه صلاة الفجر، (وقبل غروبها) صلاة العصر وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ [طه:130] صلاة العشاء وَأَطْرَافَ النَّهَارِ [طه:130]، للنهار طرفان: بعد زوال الشمس عندما تتوسط في كبد السماء، وعندما تجب وتسقط وقت الغروب، فالأول يتعلق به وقت صلاة الظهر، ووقت سقوطها يتعلق به وقت صلاة المغرب.

فإن قال قائل: كيف عبر الله بأطراف ولم يعبر بطرفي؟

قلنا: إن هذا أسلوب عربي معروف، وإن العرب إذا أمنت اللبس تعبر بالجماعة عن الأفراد أو عن التثنية إذا أمن اللبس، كما في هذه الآية، ونظيره قول الله جل وعلا: إِنْ تَتُوبَا [التحريم:4] بالتثنية إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]، فجمع (قلوب) وليس لـعائشة وحفصة إلا قلبان، لكن هذا أسلوب عربي، ولهذا نقول: إن من أهم الطرائق إلى معرفة كلام الله معرفة أساليب العرب في كلامهم.

لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه:130]، يحسن الوقوف عندها، والمعنى: أن هذه الصلوات سبب في رضوان الله عنك، فإذا رضي الله عنك أرضاك، ولهذا قال بعض أهل الفضل: ليس الشأن في أن نحب ربنا، فهذا حق له، ولكن الغاية والمطلب أن يحبنا ربنا جل جلاله.

طلق المحيا 19-12-16 06:10 PM

تفسير قوله تعالى: ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ...)

ثم أدب الله تعالى نبيه فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131]، هذه الآية تبين أن من أعظم ما يحال بين العبد وبين ربه النظر في ملذات الدنيا، وهذه الدنيا من حقارتها على الله أنه لم يأذن بالمعصية إلا فيها، ولو كانت تزن عند الله جل وعلا جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وهي على اسمها دنيا، أي: نازلة، والتعلق بها تعلقاً تاماً وجعلها في القلب من أعظم ما يحول بين العبد وبين ما يريد عند الله من الشرف العظيم والجنة والمعالي الكريمة.

وقد حمى الله جل وعلا أنبياءه ورسله منها، فمن أعطاه الله منها كسليمان وداود عليهم السلام جعلها لهما عوناً على طاعته، كأصحاب المال والثراء من أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، لكنها في الجملة لا ينبغي أن تستقر محبتها في القلب، ونبينا عليه الصلاة والسلام خير ما بين أن يكون نبيناً ملكاً أو أن يكون نبياً عبداً فاختار الثانية، واختياره للثانية يعني أنه سيبتلى فيلتزم بها، فلما كانت تأتيه الغنائم لم يكن له منها حظ ولا نصيب صلوات الله وسلامه عليه إلا بقدر ما يقوت به أهله، وكان يقول: (أجلس كما يجلس العبد) ، وعندما كان يأكل كان يأخذ الذراع فينهسها نهساً فعل من هو متشوق إليها لا من هو متعود عليها، ويدخل عليه عمر وقد أثر الحصير فيه فيحزن شفقة عليه، ويذكر كسرى وقيصر وما هو فيه، فيقول له: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟! أولئك قوم عجلت لهم طلباتهم في الحياة الدنيا) .

والتعلق بالدنيا يحول بين المرء وبين معالي الأمور؛ لأن من يروم مجداً لا ينبغي له أن يتعلق بالدنيا؛ لأن التعلق بالدنيا يورث أمرين: يورث الجبن، ويورث الحرص، وهو الطمع، ومن كان حريصاً أو جباناً لا يمكن أن يسود، قال القائل:

لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال

لكن من طلب معالي الأمور لا بد أن ينزع الدنيا من نفسه ويجعلها مطية لما يريد ولا يجعلها في ذاتها غاية، وانظر لمن عبد الدينار والدرهم وتعلق بهما كيف صارت أحوالهم، وانخفاض سوق الأسهم في الزمن القريب أكبر دليل على تعلق فئام كثير من الناس بالدنيا، صحيح أن الإنسان لا يتحمل الخسارة، وإذا وقعت لا يلام الناس لوماً وعتباً قاسياً، لكن لا ينبغي للعاقل أن يتعلق بها تعلق من يصل في مراحل حياته إلى أن الرزق له طريق واحد، والله يعلم عباده ويؤدبهم فيقول: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الملك:21]، ومن عرف الله جل وعلا حق المعرفة علم أن أسباب الرزق والعطاء ليست أبداً محصورة في طريق واحد؛ لكنها من رازق واحد هو الله، فالله يقول لنبيه: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [طه:131]، وهذا يلزم من خلاله ألا يقلب الإنسان طرفه كثيراً في متاع أهل الحياة الدنيا قدر الإمكان، وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا [طه:131]، ولماذا قال الله: (زهرة)؟ لأن الزهرة يراها السامعون التالون للقرآن، فيرون أنها ما تلبث أن تظهر قليلاً ثم تذبل وتنتهي.

وقد قال بعض الصالحين: إنما الدنيا زهرة حائلة ونعمة زائلة، حائلة أي: تحول إلى ذوبان وذبول، ونعمة زائلة، وهذا أمر مشاهد محسوس.

قال تعالى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131]، ولا ريب أن الرزق كله من الله، لكن الإضافة هنا إضافة تشريف، والمقصود برزق ربك: أن الرزق قسمان: رزق لأهل الكفر، وهو من الله لكن لا يضاف إليه إضافة تشريف؛ لأنهم يشوبونه بطرائق محرمة، أهل الكفر والفجور والمعاصي يشوبون رزقهم بطرائق محرمة، فلا ينسب إلى الله، وأهل الصلاح وفي مقدمتهم نبينا صلى الله عليه وسلم إنما رزقه مباح حلال طيب، فلذلك أضيف إضافة تشريف إلى الله: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].

طلق المحيا 19-12-16 06:11 PM

تفسير قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ...)

بعد أن طمأن الله جل وعلا نبيه على الرزق، وأن ما كان لك سيأتيك على ضعفك، وما لم يكن لك لن تناله بقوتك قال له: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، الاصطبار: حبس النفس على شيء معين، ومن أعظم ما يمكن أن تراه عيناك شخص قد احدودب ظهره، وظهر الشيب في مفرقه، يتكئ على عصاه يطوف في حيه أو في مقر سكنه يأمر أهله بالصلاة.. هذا المنظر إذا رأيته يفيء إلى ذهنك قول الله جل وعلا عن نبي الله إسماعيل : وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم:55]، وقد كان هذا المنظر يرى كثيراً في الأحياء القديمة وفي المشايخ الكبار سناً، فليس شيخ علم ولكنك تراه يذكر من حوله بالصلاة في غدوه ورواحه، وهذا فيه دلالة وأمارة على القرب من الرب تبارك وتعالى.

وقوله جل وعلا: وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] فيه أن الصلاة تحتاج إلى نوع من المصابرة، ولهذا قال الله: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].

قال تعالى: لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا [طه:132]، نحن نسألك العبادة، فقد كلفناك بأن تعبدنا ووعدناك بأن نرزقك، فلا تنشغل بما وعدناك به عما طلبناه منك، وإنما انشغل بما يعينك على آخرتك -وهي العبادة- عما تكفل الله جل وعلا لك به، ولا يعني هذا أن الإنسان يبقى قعيداً في بيته، لكن إذا سعى يسعى بقدر، وإذا أعطي من الدنيا لا ينبغي أن تقع في قلبه موقعاً متأصلاً جداً يخرجه عن طاعة الله جل وعلا.

قال الله جل وعلا: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وعاقبة كل شيء مآله، لكنها تذكر في كلام الله في الغالب في الخير، ومعنى: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] أي: أن التقوى سبيل للعاقبة الحسنة.



الساعة الآن 08:47 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi